جاسم عاصي - "بوح مؤجل" للقاص حيدرعاشور.. مسار قصصي لا يقبل التأجيل

بوح.jpg


لعل امتلاك ناصية القص أو السرد، أمر فيه صعوبة، وسط مداخلات فيها اجتهادات متعددة. غير أن بقاء القيّم العامّة، يؤكد سلامة فن القصة القصيرة، ليس من التجريب عامة، بل من التجريب المفرط الذي لا ينتمي إلى أسس قارّة. فالتجريب بطبيعته وفعاليته، محض فعل يعمل على تطوير القص، وليس تشويه معالمه بالإفراط. من هذا نجد أن جُهد القاص حيدر عاشور يصب في عملية البقاء على قيّم النص، وتوسيع الرؤى والتشوّف باتجاه الظواهر المتغيّرة. ففي مجموعته "بوّح مؤجل" لا يعني من خلال عتبته ؛ أن يُقدم استحالة لما أجلَّ أساساً، فوّجد في القصة ملاذاً لعكس صوّر الحياة. فالتأجيل المفترض لا يُلغي خصائص "المؤّجل" افتراضاً أيضاً، حيث ننظر إليه ومن خلال نصوص المجموعة، أنها حافظت على كينونتها الذاتية والموّضوعية، بما طرحته من عرض للظواهر، وما انطوت علية من رؤى وأساليب ولغة، تكشف عن امكانية القاص في كتابة قصة ناجحة، لاسيّما أن تجارب البحث والعمل الصحفي والإعلامي يمكن أن يكونا قد شكّلا عوّناً له في مزاولة كتابة القصة. وفعلاً تجسد هذا في جملة خصائص تحلّت بها قصص المجموعة. سنأخذ بها لتسكين النصوص وفق توصيفات عامة وخاصة.
يعمل القاص في نصوصه من مبدأ الثراء والتجدد من خلال وجود الشخصية في النص. فوجودها ضمن ظاهرة أو حالة معيّنة، يُجدد الأسلوب ويُكيّف اللغة المناسبة، فلا اللغة عالية النبرة، بحيث تُضيّع معالم الشخصية، ولا الشخصية في طرحها تغمط حق وجود لغة سهلة سلسة. فهو يتعامل مع وحدات القص بتعادل وموازنة، أنه بإزاء ظواهر نفسية حصراً، الأمر الذي ولّد ظواهر اجتماعية نتيجة الصراع القائم بين الذاتي والموّضوعي. ففقدان التواصل مع الواقع ركن أساسي عالجته القصص. ولا نعني بذلك حدوث قطيعة مع الواقع، بل بما يؤسس لجدلية العلاقة بين الخاص والعام. فلا الذات تمنح نفسها بسهولة الواقع في شوائبه، ولا الواقع يقابل الذات بمتسع المساحة أمام الذات. القطيعة تتحوّل إلى عقدة وجود بينهما. إن المركّب في هذه العقدة، مبرره التفاوت الطبقي أو الفئوي، الذي تمارس سلطة الوجود بأشكالها المتعددة، مصادرة مثل هذا الوجود، ولا نعني بهذا سوى صراع الأضداد في البنيات الاقتصادية والاجتماعية وأحياناً الفلسفية. إن طبيعة الصراع يتركز في الانعكاس الحاصل على ذات النموذج في النص، وليس صراعاً كبيراً. كما وأن القاص يحاول تكثيف اساليب طرح مثل هذه الظواهر. فلا يميل إلى تضخيمها، ونقلها إلى صراع مفتعل، بقدر ما يطرحها على صورتها، لكي يُعبّر عن فضاء هذا الصراع، الذي غالباً ما يكون فضاء نفسياً، ذا أسباب موّضوعية، كأن تكون كينونته مصادرة الذات وحق التعبير عنها. ولعل الروحية التي يتحلى بها السارد تلك النكهة في الطرح، التي يشوبها أسلوب السخرية والكوميديا السوّداء. فهو إنما يُبدي تأثره بما قرأ لكتاب كبار مثل "تشيخوف، نجيب محفوظ" وبعض سخريات "زكريا تامر". المهم في هذا أنه كقاص يفسح المجال لاستيعاب هموم الذات الإنسانية. وأرى أنه منحها نكهة حياته متنوّعة الاهتمامات، فهو قاص مثقف وذو وعي متقدم. وهذا ما اكتشفناه من خلال طروحاته المتزنة، فهو يُلملم جوانب النص، ولا يؤدي به إلى منزلق "التفلطح" أي الفيض غير الملزَم. فوحدة النص واجب من أخلاقيات الكتابة في النص السردي. لأن القصة القصيرة ؛ فن التكثيف والاقتصاد ووعي وحدات النص. ولعلنا تمكّنا، أو مكّننا القاص من الوقوف على نصوصه، فأثارتنا أساليب معالجاته، وقوّة ذهنه القصصي، كذلك لغته المناسبة لكل فضاءات المعنى.
في نص "غبار المتاحف" نجده يعالج ظاهرة مهمة، تخص فساد الواقع والممارسات، فيلخص ملاحظاته في عبارة "لكنه يدرك في أعماقه بأن ليس ثمة مهنة أخرى تدر عليه مثل ما تدر عليه مهنة التقليد، جعل الناس لا يُفرّقون بين الأصل والصورة".
وفي نص "قدّاس لجدارية فائق حسن" يضعنا من خلال العنوان بدءاً أمام حقيقة الواقع، عبر حقيقة الجدارية الجامعة لوحداتها النصية. خاصة أن نموذجه يمارس النشاط الصحفي ضمن مجال ساحة الطيران، والعمل المؤجل. فلقاؤه بصديق دراسته، أعاد له زمنه المفتقد وسط زحمة الوجود. فقد دقق كثيراً في قوله: "يا ليث أن لا قيمة للتاريخ في بلد فقد ذاكرته، وفي كل عشر سنين نُعيد المأساة نفسها، انقلاب عسكري وبيان أول وحروب، آو حصارات وأخيراً احتلال". ولم يكتف بذلك بل جسّد المأساة التي نطق بها صديقه "سمير" بل كثفها برحيله بفعل التفجير الذي كان من بين مجموعة تفجيرات خصت "المسطرّ" الذي احتوى انتظار متواصل وخائب للعمال وهم يبحثون عن لقمة عيّشهم.
ولعل قصة "مظلة مثقوبة" خيّر ما عبر عنه إزاء ظاهرة غياب الوجدان الإنساني، وفشل العلاقة الزوّجية من طرف الرجل. إن القاص في هذه القصص، حصراً وقصة "بوح مؤجل" كان على دراية بفن كتابة النص، من خلال حفاظه على أسسه الجمالية. واقتصارناً على بضع نصوص من المجموعة، لا يُلغي جودة الأخرى، بل أنها جميعاً شكّلت إضافة نوّعية تُحسب لتاريخ القاص، الذي لحق هذه المجموعة بأخرى تحت عنوان "زهايمرات" لا تقل قيمة فنية عن مجموعة "بوّح مؤجل" فهي تنوع في ايقاعها الذاتي والموّضوعي.
· نشر في صحيفة طريق الشعب بتاريخ الثلاثاء, 19 أيلول/سبتمبر 2017
"بوّح مؤجل".. مسار قصصي لا يقبل التأجيل / جاسم عاصي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى