قصي حسن الخفاجي - مستوطنة الكلاب.. قصة قصيرة

إلى: روح ((ك ))

في تذكر المكان تنشط الذاكرة، قال ذلك لجاره الذي ينشر غسيله فوق حبل موتور في أعلى البناية الشاهقة قالها بحرقة الذكرى وهما يهبطان السلم، نحو الشقة المعلقة في الطابق الأخير. ذلك الهواء الرائع يثير حقا ولم يكن كذلك قبل نقل أمتعتي، فوق الأريكة الخشبية المغطاة بشرشف أزرق، شرع يتكلم والسيكارة لا تفارق فمه الصغير: نقلت أمتعتي. أيامي سريعة مضت. كنت قد عينت في منطقة زراعية. أرضها بور، خربة. العمل فيها يجري ليل نهار. فوجئت بأمر نقلي إلى منطقة أبعد، هي أرض خلاء، أرض تابعة للمشروع. أنهارها سريعة وبعيدة تحدها تلال عالية، لا أحد غيري هناك.
هنا في الشقة. ولو أنها عمارة عزاب إلا انك تستطيع مجاورة ممن تريد، ثمة شهور أو سنين مستمرة حتى تعمر أرض المشروع ويجري إصلاحها بالتمام والكمال وتعطي الثمار.. يا جاري العزيز هنالك تلال، متماوجة، رمادية وصخور، وأودية (ليال.. آ.. ليال أشرب فيها الشاي وحدي, داخل خيمة معدة لي، عمل معي حارس، الهواء الطلق يفتح النفس، ولكنني مللت كل الأشياء: هواية القراءة، والتصوير، صرنا نجول وحدنا.. نمكث قليلا في الخيمة لأغراض الشاي والطعام، نمكث، آ، قليلا ثم نجول ويغمرنا هواء البراري الطلق، في البداية لم يكن الحارس مثلي، محبا للاستطلاع، تعود ذلك بعد حين: مسافات، مسافات، قطعناها لكي نقهر الفراغ، والضياع، فوجئنا بأصوات، نباح بعيد يتناهى. آه، هنالك كلاب ـتحدث الحارس. أدركنا أنها قطعان من الكلاب، الوقت يجري سريعا. آثرنا العودة، ولم تكن قطعانا بالضبط.. لم تكن كذلك، في الحقيقة هي مستوطنة كاملة للكلاب، لا أدري هي لمن.. للاختبار، للتربية،، لا أحد يدري؟ ارتقينا تلالا، إنها تطل على المكان بصورة كاملة وعن قرب، في المستوطنة ثلاثة رجال، لمحناهم، تسللنا في بداية الظلام ثم عدنا إلى الطريق الترابي وراء المرتفعات؛طريق متعرج يوصلنا إلى المشروع، ثمة أفكار.. تتحرك ، أفكار تشغل الذهن، ما الذي يجري في هذه المستوطنة؟ إنها بناء حجري مستطيل يشبه أبنية الدواجن، مقسم إلى خانات متساوية وتحيط البناء أنفاق طويلة وعريضة لكنها ليست عميقة، ورائها سور طيني واطئ، الرجال الثلاثة جاوزوا الأربعين قليلا، شعورهم طويلة سوداء تلفحها حمرة الشمس.. أوهي صبغة حناء ، لا أدري، قد تكون صبغة طبيعية، فهي خليط من الكحلي الأدكن والحمرة الحنائية.. غير أن وجوههم تغمرها التجاعيد والغضون القاسية، ولفحات الشموس تلسع عيونهم، والريح الرعناء .. الريح الصاهلة ليل نهار تسقط بعنف على وجوههم وتغمرها بالصلابة والتجاعيد.. إنها بشرة معرضة للقساوة في هذه البراري الخالية.. شيء من بدائية الحياة يذكرك في وجوههم، فعيونهم غاطسة في محاجرها؛ عميقة، سوداء، أو رمادية، وغامضة.. وهنالك أقفاص حديدية تواجه الخانات المتساوية، تحجز فيها الكلاب ذات الفصائل النادرة، أما الكلاب العادية فتترك في الأبنية المسورة بالأسلاك، حيث نيوبها تزأر وهي تواجه بعضها في نباح مسعور.) جرى تخطيط عام للمكان الزراعي، بعد عودتنا بأيام استقبلنا لجانا زراعية، جاءت تشرف على الأرض، ثم أمرت بنقل المعدات والمكائن والآلات الضخمة.. ثم خطط للأنهار والقناطر والأبنية، والمخازن.. تخطيط لا ينتهي ولجان مستمرة (وذات مرة، في غرة الفجر الندي.. حين مرت هدنة في المشروع إذ يبدو أن العمل يأخذ أبعادا شمولية وحماسية ثم، فجأة تهدأ سورته ويهيمن الصمت المطبق.. زحفنا بعد مسافة أنا والحارس… وفي الساعة الثامنة صباحا كنا هناك. نطل على المستعمرة. لا أحد يبدو، غيرنا يدري بالمكان الغريب هذا، ولم نكن في غمرة عملنا نسأل أحدا عن ذلك. كنا هناك نطل على المستعمرة كليا، فوجئنا بروائح عفنة، قوية ومؤثرة تنهمر على أنوفنا وتغمر المكان، الروائح تلوث الهواء ونظرنا بتركيز شديد فوجئنا أنهم نصبوا عمدانا وقضبانا.. هتفنا على غير إرادة منا.. آآه ه.. إنها مسلخ، وبالمقابل هنالك أكوام من الجلود المركومة والمطوية والشعور المدماة، شعور ملونة.. منثورة فوق الحجارة وفوق الأتربة والحفر المبثوثة هنا وهناك.. كان الرجال الثلاثة ينصبون مقصلة إنها تعمل بطريقة السحب، هنالك عتلة قوية وشفرة باشطة موتودة فوق دكة حديدية ثقيلة جدا، ويؤطرها قضيبان حديديان: الدكة تعمل بتحريك العتلة المزيتة. أي إنها تعمل عن طريق السقوط فوق رقبة الكلب.. الشفرة طويلة، لذا إنهم يقودون الكلاب إليها وهي تتسع لثلاثة منها، يقودونها من الأبنية المسورة والأقفاص الحديدية.. إذ توضع تحت الشفرة وتحرك العتلة.. تسقط حالا.. فتقطع رؤوسها وأثناء قيادتهم لها تسمع نباحا، نباحا متقطعا، نباحا طويلا.. آلاما كلبية. فجائع حيوانية تدمي الفؤاد الآدمي.. تسمع نشيجا مخنوقا.. زئيرا.. شخيرا، خوارا.. كل عبارة تخطر تسمعها.. أيكون ذلك حلما نراه؟ لا أدري.. الهواء يغمس ذوائبه في الروح، ولكن الذي نراه، أن الكلاب تقطع رؤوسها، وتنقل أجسادها إلى حوض طويل تحفه دكتان إسمنتيتان عاليتان.. الرجال الثلاثة يسلخون جلودها بالسكاكين الطويلة وبطريقة سريعة.. إنها سكاكين تلتمع، براقة، والعرق يتصبب من أجسادهم الرياضية شبه العارية.. سألت نفسي هل أن الذي يجري قانونيا؟ ثم، آه، اللعنة لو كانت هذه المستوطنة خصصت لتربية الكلاب مثلا أو لجعلها حديقة حيوان مصغرة لكان ذلك رائعا وجميلا.. ولكن الطبيعة البشرية لها شؤون: فهي غريبة حقا، آه، هنالك في العالم شؤون وشجون، كنت أحاور ذاتي الخرساء.. الحارس أبو عباس رأيته يصفق بيديه: لا حول ولا قوة إلا بالله.. لا حول بالله.. وعيوننا تنط. حيث الرائحة الدموية، السوداء الكثيفة.. الرائحة القاتلة تسمم أرواحنا وقلوبنا، وتشل أنوفنا. وبعد أن أفرغت عيون الكلاب في غيمة الخيال، ويا له من خيال فاجع.. ثم انتزعت أحشاؤها المنتفخة نظفت بالمياه وعلقت لحومها وصفت في صندوق السيارة الطويل غلفت بأغطية نايلونية، وفوقها مشمع كاكي.. حين تحركت السيارة سارعوا إلى غسل الحوض والدكتين الإسمنتيتين، والمقصلة الحديدية والقضبان.. غسلوها بالمياه ثم دفنوا الأحشاء والجلود، وكنسوا الشعور العالقة بالأماكن.. ثم كفنوا سواعدهم وأكفهم بقماش الشاش الأبيض، وكمموا أنوفهم واختفوا في البناء المستطيل، كانت عيوننا تخرج من محاجرها، تتفجر بالدهشة، تنط غير أن العقل أحيانا يهون على الإنسان، يصقل توازنه، يداري القلب ويربت على الروح.. إن الذي يجري.. شيء.. شيء.. جد عادي، ولكن الرائحة, حين عدنا وقت العصر.. الرائحة الكثيفة تصفع أنوفنا.. تربك ضمائرنا، وتدبغ جلودنا… فهي تصفع خطانا، رائحة توحي إليك، باللون الرمادي السائل، أو القهوائي؛ اللون الخليط.. اللزج.. تحسسك بالوهن والخزي.. والغثيان.. لا.. لا.. هون على نفسك، قال الحارس أبو عباس، لا تستغرب يا ولدي.. هنالك.. آه.. يتمادى.. هو يتمادى في الكلام.. آه.. جائز يا ولدي.. يتوقف قليلا.. كم يعجبني هذا الرجل البسيط .. ـ لا تستغرب.. هكذا ينطقها بلهجة محببة ـ هنالك.. كل شيء يجوز في هذه الدنيا.. الدنيا تغيرت يا ولدي.. وأنا استجابة، غمغمت، يجوز فعلا: كل شيء في هذا العالم.. نظرت إليه، هذا الرجل الخمسيني، ذو العينين الدامعتين، الرماديتين والشارب الأشيب بتقاطيعه الجنوبية، حيث النظرة الحزينة الآسرة تنقلك إلى ذرى روحية صافية، فهو بدشداشته الرصاصية وكوفيته الزرقاء، المقلمة، التي يعفرها التراب، ونبرات صوته المموسق بالرخامة ، والمحيا الهادئ، المطمئن، كل ذلك وأن تتأمله في الهواء الطلق يغرز فيك ثباتا روحيا أصيلا.. ثم طفقت أنتفض ودمي يفور. كل شيء يجري سريعا، في هذه الحياة السريعة، شرعت أثرثر ، لا أدري فأنا أثرثر بلاوعي، وأبو عباس يحدجني بعينيه الحزينتين وفمه صامت.. أنا وحدي أبصق قيء كلماتي. وقيء معدتي، من هذه الرائحة الوسخة الكريهة.). عدنا إلى الخيمة متعبين، لم أطق طعاما، رشفت شايا قليلا ونمت. نمت والرائحة الكلبية تغمرني. مثل الكابوس، تزكمني، بعد أيام قليلة قدمت استقالتي. رفضوها، تركت المكان دون إذن، ثم عدت بعد شهور، حدثتهم عن حالتي، كان أبو عباس قد حدثهم قبلي: المهندس الأقدم أجرى استطلاعا، خرجنا معهم بسيارته. لم نكن. لا. لم نكن نعثر على المستوطنة. رأينا أنقاضا: البناء المستطيل تهدم، والمقصلة والآلات لا أثر لها.. هنالك أكوام من التراب والحجارة: ونظر الى بقايا دماء متكلسة وشعور حمر بين الحفر.. الرائحة صارت حريفة، متغيرة بفعل الشمس والهواء.. مهندس المشروع الأقدم، بثقافته الغربية، شرع يغمغم، بفمه الكبير، كلمات طويلة، ممطوطة: ((إنهم خفاشو العصر الحديث، يعملون في ظلام الدنيا.. لقد شموا رائحة الخطر القادم قبل الأوان، ورحلوا.. هه..)) كذا أنهى جملته الساخرة.. بعد أيام أحسست بالوهن. مرضت. وحين تماثلت للشفاء وافقوا على نقلي إلى المركز الزراعي العام في المدينة. نقلت أمتعتي إلى تلك البناية، في الغرفة المجاورة لغرفتك وفي نفس الشقة. فهنالك يا صديقي: الهواء طلق. وتغمره رائحة الكلاب.. ولكن هنا فوق السطوح.. العالية. فوق تلك البناية.. الهواء طلق. ونقي، آ.. قد يكون نقيا، أو لا يكون جدا، ولكن على الأقل تغمره رائحة البشر .


========================
* إشارة:
جماعة “البصرة أواخر القرن العشرين” جماعة فريدة ليس في تاريخ السرد العراقي فحسب بل في تاريخ الأدب العراقي عموما. فهي لم تكن “الجماعة القصصية” الأولى في تاريخ العراق فقط بل كانت مشروعاً تثويرياً في النظرة إلى دور السرد خصوصا في واحدة من أخطر المراحل التي عاشها العراق بانعكاساتها الهائلة على رؤية الأديب ورؤاه. اقتنصت هذه الجماعة الإمكانية العظيمة لفعل الكلمة المقاوم حبن ترتدي أثواب الفن الباهرة فيمكنها أن تكون ماسة تلمع وتقطع في الوقت نفسه. وإذ تنشر أسرة موقع الناقد العراقي تراث هذه الجماعة وما كُتب عنها فلأنها “ظاهرة” تستحق الدراسة لاستنباط دروسها. تحية لجماعة البصرة أواخر القرن العشرين.


http://www.alnaked-aliraqi.net/article/58842.php

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى