طه جعفر الخليفة - حدث في المتمة.. قصة قصيرة

وِلْد معتوق من الشناقيط، صار الناس ينادونه بوَد معتوق.عُرِف عنه الصَلَاح، حُسْن التَديُن و التبّحر في علوم الشَرْع، كان يعلّم تلاميذه خاصة من يحفظون القرآن منهم التفسيرَ من الطبري و السيرةَ من ابن هشام و يدربهم فكرياً بمقاطع من الفتوحات المكيّة لابن عربي. يقال أن ود معتوق جاء يافعاً و تعلم عند أولاد جابر و المجاذيب فبرع في المكانين. و لقد حكي لي جيب الله مرة قائلاً:” تنعقد في دار ود معتوق بالمتمّة أُمسيات الذِكْر و الإنشاد و عادة ما يتنور من يحضرون جلساته تلك بأنوار الحضرة النبوية المبهرة فتشرق الشموس من جباههم في الصبيحة التالية.و يقال أن الملائكة كانت تتنزل علي مجلسه رسلاً أولي أجنحة رقيقة تندس تحت أثواب الواحد منهم، تلك الأثواب المنيرة بألوان قوس قزح.و يقول من حضر تلك الجلسات كان الملائكة نديين و مبتسمين كالنازل من سحابة أو الخارج من يناعة العشب علي ضِفّة النيل”. يمنع ود معتوق حضور جلساته تلك عن الكلام عمّا يرونه من معجزات في داره أوان الحضرة أو بعدها.

جيب الله من الارقاء جاءت به قافلة الحضارمة إلي المَتمّة، لونه عسلي، شَعْره ممشط من غير مَسايِر و مختلف قليلاً، ليس لسواده مثيل في المتمّة، شَعْرٌ حسُن السواد لا تطفيء إشراقته الشمس أو كتحات الغبار. عندما جاءت قافلة الحضارمة بجيب الله في باديء الأمر، كان يافعاً منهك الروح و الجسد و بلا إسم.إشتراه عبد الجبار السَعَدابي و كان جيب الله وقتها في عامه الخامس عشر مُسْترّقاً سداسياً واعداً بمقاييس السوق حينها. في ملامحه جمالٌ ساحر و في قوامه رشاقة و إعتدال. لاحقاً و كما كان يقال في مجالس المَتمّة قد حفظه تدينه و انهماكه في الدراسة من العَبِّ من الملذات المتاحة و النساء الراغبات. في وقت ما كان بطلاً غائباً عن ليالي الظار و لقد غنت جماله النساء بلهفة و طلب و قلْن:

جيب الله

جاب لي الضني

و وجع القلب

الليلة الضرب

الليلة الضرب

أحيّ من عيونه

أحيّ من سنونه

دا النور في القلب

جيبو لي جيب الله

يا ناس البلد

أحيّ عليهو

دايرَا لِي منك ولد.

عندما أتمّ جيب الله عامه السابع عشر عرفته بصيرة النساء في دار عبد الجبار السعدابي فسعين لإكتشاف السحر المخبوء فيه جسدأ و روحاً و كانت في نظرته كما يبصرن أسرار مكينة و مستدعية. و يحكي أن النوّار و هي مُسترّقة في دار عبد الجبار السَعَدابي تم شراؤها بالأساس لجمالها و لقد غرق عبد الجبار السعدابي في عسل جسدها و هي قد بادلت سيدها رواءً برواءٍ و شغفاً بشغف. اطفأت نار ذلك الحب نور العزّ و الكرامة في وجوه زوجاته الثلاث فشكون ما يجِدْنه من النوّار لحوائط الغرف، الأشجار و رمال الحيشان فسمعت أم أيوب و تكلمت مع ابنها عبد الجبار ليترك النوّار و ينصرف لشئون بيوته. تفرغت النوّار بعد ذلك لملاحقة جيب الله و في أحد الايام نادته قائلة:” ستي أم أيوب طلبت مني أن أمشط شعرك”. لم يكن عند جيب الله في ذلك الوقت متسع لرفضٍ فالنُوّار صفِيّة سيده. أخذته النُوّار إلي قُطِيّتها في حوش العبيد،أجلسته أمام البنبرو ضمته بباطن فخذيها الآسرين و الرحط منجمٌ عنده بسُتْرَة كاشفة، هصرت كيانه بنعومة جسدها، بللت أصابعها بعصارة الشاي المنقوع في كأس نحاسي مُزَيّن و عمِلت مُخْرَزها في شعره ليتمشط في كوفاتاتٍ رقيقة و حازمة المسك. لم تحتمل النوّار ذلك القرب فانتشرت في فضاء القُطِيّة روائح شهوتها و تدفقت مبللة حبال البنبرو تكرمشت حلمتاها بتوثب فدعكتهما علي كتفيه. نادت تلك الرسائل جسده فانتصب منه صلًباً، مشتدّاً و كبيراً فوقع عليها، إرتوي و أسقي عطش روحها بشهوة مراهق يفيض منه الحب و ما ينفك مشتداً به، تلوّت في حضنه و أنّت وتسارعت انفاسها فيما يشبه الشخير المكتوم، أنارت النشوة وجهها فاستضاءت القُطيّة بنور يخلب الأبصار بالسِحْر و انداحت موسيقي جاذبة في أرجاء القُطِيّة سمعها كل من في قلبه حبٌّ مكتوم في دار جَعَل في تلك الأيام. جاءت الأنوار و موسيقي الجسدين بأم ايوب فرأت ما هالها فقفلت راجعةً محوقلةَ و مستعيذةَ بالله من الشيطان الرجيم. كلّمت أمُّ أيوب لاحقاً ابنها عمّا رأت بين النُوّار و جيب الله، فضرب عبد الجبّار جيب الله ثمّ أعاره لود معتوق. و كان أن قال عبد الجبار لأم أيوب” كثيراً ما أفكر في ذبح هذا العبد” و يقصد جيب الله، منعته أم أيوب من ذلك متعللة بأمر الأسلام بإكرام الارقاء وو كما تعلمون فما في القلب بالقلب! لأنها عرفت ربما أن إبنها قد تدفعه الغِيّرة لقتل جيب الله.و تحكي النساء أن حَوّاية و هي احد المسترقات في حوش عبد الجبار السعدابي قد رأت جيب الله ذات صباح وقد انحسر عنه لباسه وكان انتصابه ملتمع النهاية، شامخاً بإنحناءة للأعلي،كبيراً، مختوناً و قد إندست الوعود في أجزائه جميعاً كما قالت لاحقاً .استقرت تلك الحكاية في جلسات النساء في المَتمّة، تلك الجلسات التي يغيب عنها الذكور ومن عُرِفن بخِفّة اللسان و اصبح ختان جيب الله و منظر عضوه الفتّان أحد الأسرار المدفونة في رمال المتمّة.

المَتمّة في ذلك الوقت حاضرة بهيّة، سوقها نشط تجيئها البضائع من كافة الأنحاء من سنّار، المِخيرف، الفاشر، دنقلا، سواكن و من مصر. بها من الوجهاء و النساء الجميلات ما لا يحصيه العَدٌّ. كانت حاضرة الجعليين و مركز رئاستهم وعلي مشيختها المتمردة أحد رجالات السَعَداب الذين لم يرضخوا لإستبداد الفونج و إستعلائهم. تُزيِن أم قرينات رؤوس وجهائها الذين يلبسون أثوابا تشبه الجلابيب، يلبسونها بحزام يحَزُّ وسط الواحد منهم بشموخ، النساء فيها يلبسن مجاسداً قطنية مزينة عليها أثواب رقيقة من القَنْجَة الناعمة المطرّزة و يتزين بالحجول، الأساور، العقود، الخواتم و الفِدَو الذهبية و الفِضّية و علي جانب أنف الواحدة منهن زمام او شوكة ذهبية تعولها فاروزة من حجرٍ كريم. جمال نساء السعداب لم يكن له مكانٌ ليتقدس فيه غير مقاطع الشعر والغناء المُمَوه مجهول الكاتب و الملحن. حتي الفقيرات والمُسترّقات من نسائها يلبسن الرَحَط و يسترن أجسادهن بتوب الزَرَاق جيّد الصِبْغة. الجميع في شوراع المتمة وفي ظلال اشجارها و حوائطها يمضون وقت فراغهم في غزل القطن بالمُتْرَار

امتلك عبد الجبار السَعَدابي معملاً لصناعة النِيلة و التِفْتَة، يعمل في إعداد الأصباغ نساء و رجال منهم الأرقاء و بينهم أحرار جميعهم مدربون و بينهم أصحاب الخبرة الطويلة فهم يزرعون عُشْبة النِيِلة التي تهرس و تُخمّر قبل أن يتم إستخلاص النيلة الزقاء القاتمة من أوراقها بالغلي في النار الهادئة في أوعيّة من الفخار تشبه الأزيار و أحياناً في أوعية نحاسية و يعرفون كيف يثبتون الصبغة علي القماش باستخدام الشّبْ يتم كل ذلك بإشراف عبد الجبّار. أما ما يسميه أهل المتمّة حينها بالتِفْتَة لا يسميه عبد الجبار السعدابي و لا أهل الصِنعة بالتفتة بل يسمونه نبات الفوة و هو عشبة لها جذوز تستخلص الصبغة من جذورها التي يتم تجفيفها و سحنها قبل غليها و تبخيرها من جديد و هي برتقالية اللون و عندما يستمر غليها لزمن أطول من اللازم تصبح حمراء طوبية. معرفة عبد الجبّار لهذه الاسرارو أدارته للمعمل بكفاءة جعلت منه ثرياً. مواقيت زراعة النيلة و الفوة، مواقيت حصادها، كيفية التعامل معها لتعطي عصارتها الصِبغِية أسرارٌ لا يعرفها مع عبد الجبّار السعدابي غير القليلون من أرّقاء مسنون و أمناء علي حسب ما يعتقد عبد الجبّار فهم أخواته و إخوته الحقيقيون الذين آلفت بينهم الصنعة فذابت بينهم حدود الحريّة و الاسترقاق. تأتي الجِمَال بالقطن من جبال النوبا، جنوب كردفان و من القدَمْبليّة فتحوله أنامل الجَعَلِيات و الجعليون المدربة لخيوط مغزولة بالصبر و الأمل في الربح. بمررور الأيام راكم عبد الجبّار ثروة كبيرة من الأرقاء، القطعان، السواقي، الأنادي التي تديرها نساء مسترقات و فَوَاتي تنصرف عنهن الأنظار سريعاً لجمالهن المربك. كان عبد الجبّار السعدابي باذلاً للمال بسخاء في المسايد و لقد بني مسجداً كبيراً بوسط المتمّة. يحترمه الفُقَرا و المشايخ لأنهم يعرفون فضله. فقط ود معتوق و جيب الله كانا يعرفان التفاصيل الدقيقة عنه نتيجة للعُشْرَة الطويلة و التجارب المشتركة.مازال عبدالجبار السعدابي يحمل في نفسه غِلاً و بغضاء في نفسه تجاه جيب الله و نوعاً من الغيظ من شكله و طريقة كلامه لم يكن عبد الجبّار يعرف ما الذي يجلب ذكري النُوّار لذهنه عندما يري جيب الله حتي في لحظات تلاوته للقرآن.

لعبد الجبّار السعدابي خمسة بنات وعشرة أولاد من زوجاته الثلاث وهنالك عدد غير محدد أو معروف من البنات و الأولاد ولدوا له من السراري منهم من معه بالحوش و منهم يلازم أمّه. أحد أولاده اسمه أبّشَر لازَم ود معتوق لزمن فلم يحفظ القرآن بسرعة لكنه كان ذكياً يكثر من الأسئلة عن معاني الآيات. صبر عليه ود معتوق و أمر جيب الله بملازمته في بداية مراهقته ليعلمه مكارم الأخلاق. كان أبّشَر يافعاً في الخامسة عشرة عندما طلب من جيب الله الذي كان حينها في العشرين من عمره أن يرافقه لأحد الأنَادي. رفض جيب الله فغضب أبّشر و شتمه و فكّر في ضربه لكنه أوجس خيفة في نفسه من ود معتوق و استنْكَف عن ضربه. أسّر جيب الله لود معتوق بطلب أبّشَر أن يرافقه للإنْداية و لقد إندهش جيب الله من لوم ود معتوق له علي رفضه لذاك الطلب. إحتج جيب الله بحُرْمة الزني و حرمة الخمر فقال ود معتوق:” إذهب به للأنَادي التي يملكها أبوه ففيها من المُسترّقات من هن مِلْكه و أمنعه من شرب غير العَسَلية فهي تسكر لكنها لا تجعله يفعل أمراً غير مقبول” . فعل جيب الله ما أُمِر به و في رأسه تزدحم الأسئلة فأكثر من التعوُّذ بالله من الشيطان الرجيم. عندما لاحظ ود معتوق عدم الرضا عند جيب الله قال له: ” إن لم يجد الصبي تصريفاً لرغبته سيفعلها فيما يعيب. و لا أريد لأبّشَر ذلك فهو ولد مبروك”. أعجبت أبّشَر أحد الفَواتي المُوَلدات ليكُنّ جميلات، بأختيار الأسيادُ لأُمّها و أبيها من أجمل من يملكون من الأرّقاء ، فأمرها بالامتناع عن معاشرة الرجال و إلا فسيقتلها ومع ذلك كان يكرمها بالمال الوفير، الثياب الفاخرة و الحُلِي باهظة الأسعار.

إختار السعداب في تلك الأيام عبد الجبّار شيخاً لمدينتهم و سيداً علي الجعليين يحكمهم و يدير حاضرتهم و يمسك حساب الأموال في سوقها. كان ذلك الأختيار تكليفاً غير محبب لعبد الجبّار قبِل به لأصرار أمّه و زوجاته و يعود ذلك لأن عبد الجبّار لم يكن يريد لصناعته أن تتأثر بمشغوليات المَشْيخة. كلّف عبد الجبّار أبّشر بمباشرة الإدارة علي معمل الصبغة والنسيج ولم يكن الولد كالأب في حسن الإدارة. راكم ذلك غضباً في نفس عبد الجبّار تجاه ولده. حدث أن دعَي عبد الجبّار للغداء والعشاء بداره وجهاءَ المتمة و شندي و قري الجعليين. كان الحضور خليطاً من الجعليين، الشايقية، الدناقلة، العبدلاب ورجال الدين، التجار الأجانب.

جاءوا لدار عبد الجبّار بنسائهم و بناتهم للغداء و العشاء و المبيت. إزدحمت الدار بجمالٍ متنوع. انهمكت النُوّار وبقية المسترقات في إعداد شراب العرديب المُبرّد في أزيار رُبِطبت في سلال من الحِبال و عُلقت علي أفرع الأشجار بحوش عبد الجبار، انهمكن في إعداد شراب القرفة الساخن، هناك من يفضله بلبن أو بغير لبن و أعددن القهوة و الشاي. كانت الشواء، اللحم المحمر، بأصناف مختلفة مبذولاً لمن أراد بالقُرّاصة أو بالكِسْرَة أو بالفطيرة الرهيفة. تم إكرام الضيوف علي طرائق قصور و حيشان الفونج في سِنّار. بين الضيوف كانت يافعة ربما في عامها الثالث عشر انفجر جمالها بغتهً في ناظري أبّشَر فلم يستطع تجاهها صبراً. تابعها أبّشر و عرف أين ستنام و عرف متي تنصرف عنها أمها و خادمتها،وجدها برحطها نائمة في غرفة من غُرَف حوش عبد الجبّار السعدابي، إشتدت الرغبة به وانتصبت فرقد إلي جوارها و عندما صحت أسكتها بوضع يدٍ حازمة القوة علي فمها ثم أعتلاها هاصراً و مغتصباً. صرخت..صرخت.. وصرخت فسمع صراخها الموتي في التُرَب، الطوافير والفناجين في الطاولات و مواعين الخزف، الخشب و المعدن في المطابخ. سمعت صراخها الخراف المنتظرة للذبح لأفطار الضيوف صبيحة اليوم التالي فجفلت تناتل حبال ربطها و الأوتاد. مزّق صراخها صمت ليل المَتمّة فسمعه عبد الجبّار السعدابي وهُرِع إلي الغرفة برفقة أم أيوب، ود معتوق و جيب الله. وجدوا أبّشر عاري الصدر يحاول ربط قُرقابه و البنت مكومة بألم باكٍ علي فراش إغتصابها. قال عبد الجبّارموجهاً كلامه لجيب الله :”يا عب أمسك الجنا دا و أربطه” فعل جيب الله ما أمر به. هكذا تم الأمساك بأبّشر و وثق رباطه بحبل السَلَم المتين. لم يقاوم أبّشر و استسلم. في تلك الأثناء جاءت أم الفتاة و ولولت. سمع خوفها زوجُها فجاء بغضب يسبقه ككتّاحة. هنا قال عبد الجبّار “خذوا البنت و استروها و يا أم أيوب خذي أم البنت بعيداً عن هنا، ثم قال لأبيها الذي كان من وجهاء المَتمّة “لن يفلت هذا الولد من العقاب”. إهتز في تلك اللحظة عرش المشيخة و تضعضعت أركانه وفي تلك اللحظة قال أبُ البنت المغتصبة: “سأشرب من دم هذا الصبي ود الحرام”. غضب عبد الجبّار و استشعر خطراً علي مركزه، نوعا من الخطر لم يعرفه عبد الجبار من قبل فصمت. أمر عبد الجبار الرجال بحفر قبرٍ وطلب منهم أن يجعلوه أعمق من أي قبر حفروه من قبل. بات أبّشر ليلته تلك مربوطاً و خائفاً ولقد منع عبد الجبّار جميع نساء الحوش من الإقتراب منه و أوقف حرساً بسياطهم و سيوفهم ليحرسوا قراراته تلك ففعلوا. في الصباح التالي أمر عبد الجبّار الرجالَ بذبح الذبائح و توضيب لحومها و أمر النساء بإعداد الفطور ثم أمر الجميع بالسكوت و منعهم كذلك من تذكر ما حدث بالأمس. حفر الرجال بالليل قبراً عميقاً بطول رجُلَين. في ضحي اليوم التالي ذهب عبد الجبّار برفقة إخوته، ود معتوق و جيب الله و جمع من الأرّقاء و الحرس لمعاينة المقبرة وعندها أمر عبد الجبّار أرقاءه بإحضار أبّشَر مربوطاً ففعلوا. و أرسل عبد الجبّار في طلب أب البنت المغتصبة فجاء كسيراً بغضبٍ مندس في أي خليّة من خلايا جسده المتألم والمنتهك. أنزل جيب الله بمساعدة بعض الأرّقاء أبّشَر في القبر، كان أبشر مفزوعاً، تائه النظرات، متعرقاً، مرتجفاً و صامت. أمره أبوه بالإستلقاء و إستقبل القبلة فلم يفعل لأنه لم يكن يسمع. كرر عبد الجبّار كلامه بغضبٍ ترددت أصدائه في دار جعل و ارتجفت له تلال المسيكتبات و جبل قَرّي العبدلاب و جميع القِباب في الناحية . ضرب عبد الجبّار أبّشر بالعصاة علي وجهه الذي اختلط الدم فيه بالدمع المحبوس والمنهمر. جلس أبّشر في قبره بفعل تلك الضربة الحاسمة. أمر عبد الجبّار أرقاءه بإهالة التراب ففعلوا بسرعة خاطفة يرجون نهاية لحدث سيمنع النوم عنهم لأزمان طويلة. لم يصرخ أبّشر لكنه أنّ أنيناً ارتجفت له النخلات المزروعة في كل الشمال علي ضفاف النيل حتي آخر نقطة في أرض الدناقلة، طارت العصافير التي تجمعت لضحويتها علي النخلات و الاشجار التي تجاورها. طيران العصافير أطلق أنغاماً حزينة من كل الطنابير في أرض الشايقية. بذلك وحّد الخوف بين جيب الله و ود معتوق فانهمكا في تنزيل الجنّ، إستضافة الملائكة أوان الحضرات النبوية في ليالي الذِكْر، انهمكا في التطبيب بالرُقِي ، الكَي و بالأشربة و بالسفوفات و بالأدْخِنة الناجعة الشافية بأعمالهم هذه نجحا في توليد من عَقُرَت من النساء و من انقطع عنها الطمث ببنات و أولاد لا يحصيهم العدُّ.

………………………….



هوامش
1-المُتْرار: مغزل يدوي من الخشب أو المعدن في شكل مسمار له نهاية خزفية او خشبية لتسريع دورانه الذي يحول ألياف القطن الناعمة لخيوط مغزولة.

2-النِيلة: نبتة woad بالانكليزية تستخلص منها الصبغة الزرقاء indigo ما تزال مستخدمة في صبغ بنطلونات الجينز.تستخلص النيلة من اوراق تلك النبتة و سوقها الخضراء بعد الهرس و التخمير ثم الغلي بالماء و يتم ثبيت تلك الصبغة علي النسيج قديماً في السودان بالشّب.

3-الشّب: حجر ابيض كيميائيا هو كبريتات الالمنيوم و البوتاسيوم. لهذ ه المادة استخدامات كثيرة منها تثبيت الاصباغ علي النسيج و تحويل المواد غير الذائبة في الماء العكر إلي كتل يسهل ترسبها. يوجد في شكل عروق معدنية علي السطح او بعمق ضحلٍ في الصحراء النوبية و بغرب مصر.

4- الفَوّة: نبتة madder بالانكليزية و هو نبات له جذور تشبه الجَزَر في اللون و الشكل تستخلص منه صبغة برتقالية اللون بعد التجفيف و السحن و الغلي. التبخير يركز لونها فتصير احيانا بنية او حمراء طوبية يتم تبيتها في النسيج القطني او الصوفي بالشّب. تعرف هذه الصبغة في العامية بالتفتة و التفتة حقيقةً هي الثوب القطني او الحريري الرقيق المصبوغ برتقاليا او احمرا او بنياً مشرقاً. الطواقي الامدرمانية ذات اللون البرتقالي المنطفي مصبغة بهذه الصبغة.

اصباغ النيلة و التفتة اصباغ عرفها النوبيون منذ بداية حضارتهم و لونوا بها اثوابهم و فرشهم و معروف ان ألوان ألبسة الكنهة الآمونين كانت بالأزرق (النيلة) و الابيض الشاحب المصفر. و استخدموا ايضاً اكاسيد الحديد في صبغ الألبسة. الرداء الملكي للحاكم النوبي عادة ما يكون أسوداً. المعرفة الدقيقة بالصبغة و التعدين كانت من الاسرار الكهونتية رغم قيمتها التجارية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى