بشرى الفاضل - ذيل هاهينا مخزن أحزان

خرجت الكلبة هاهينا تبحث عن صديقها الكلب هواهي. فمنذ أكثر من سنة وهما في حالة حب ولكنهما حزينان تماماً، حيث أن الأمور لا تسير كما ينبغي، إيجار الأزقة الضيقة أصبح عشر قضمات من قبل عصابات الكلاب المقيمة فيها، بعد أن كان من قبل قضمة واحدة، وليس هنالك مفر من الأزقة الضيقة، لأن الشوارع الرئيسية تعج بالبشر الفضوليين الذين يقاطعون باستمرار المتع الخاصة بمعشر الكلاب.. ها هينا وهواهي ثنائي متميز وسط الجميع. هي جميلة بشكل لا يوصف عيناها حمراوان، أنفها معقوف وفكها مستدير وشفتاها بليلتان، شديدتا اللمعان، القبلة منها تسكر أي كلب. أما هو فمتين البنيان، رمادي اللون، وفي جبينه غرة.. حسن الصوت حين يغني، كثير الإطلاع، لامع العينين، الحركة من ذيله تسكر أي كلبة.
تعرفت هاهينا على صديقها في حلقة نقاش لأفكار الفيلسوف هوكس. كانت الحلقة غاصة بالكلاب.. كلاب خلاء، وأخرى منزلية، كلاب صيد وأخرى بوليسية، كلاب بدينة وكلاب نحيلة، كلاب عمارات، وكلاب مساكن شعبية، كلاب لا بوليسية ولا كلاب. ومن بين هذه أعجبها هواهي لفصاحته وجرأته ووسامته.
كانت هاهينا خارج الصورة في الحلقة، إذ لم تقرأ شيئاً للفيلسوف المذكور، بيد أنها لم تكن أمية، ولعل موانعها تأتي بالدرجة الأولى من مشاغلها الكثيرة.
دحض هواهي تخرصات الجميع في الحلقة، وحين انفض سامر المجتمعين خرج منتشياً، تبعته هاهينا مصدرة صوتاً خجولاً، ولكنه مع ذلك جاذب للانتباه، نهاية الأمر تعارفا. وبعد شهور تحابا. قال لها هواهي:
ـ تعرفين يا هاهينا، هوكس العظيم يقول:
(تبا للبشر، لا تثقوا فيهم، عطفهم عليكم دافعه حرصهم على ممتلكاتهم فحسب) هوكس هو المكتشف الأول لسر قتل الكلاب. سألت هاهينا بدورها:
ـ قل لي يا هواهي وهل اكتشف هوكس أسرار عذابات أصدقائنا في الحياة؟ لملم هواهي أطراف وجهه دقيق الملامح وبلع ريقه وأجاب: نعم.. نعم له كتاب (سر الاختفاء الفجائي للخراف والبقر والدواجن). وكتاب (عبودية الخيول والحمر والبغال) وكتاب (القطط الوسيطة) وفيما يخصنا نحن، ألَّف هوكس كتاب (العظام عبر التاريخ) و (طريق الخلاص) ومقالة (بشرى للكلاب) ومسرحية (اختطاف) ومسرحية (لقمة السيد). وآخر كتبه المطبوعة كان (قصة الكلب البوليسي) ويعكف هذه الأيام في تحليل سيكولوجية كلاب العمارات.. سكتت هاهينا أعجبها جداً فرط ثقافة هواهي. نظرت إليه فاحتقن وجهها بفرح ملون وشغف كقوس قزح. فيما بعد حكت هاهينا الوقائع التالية:
- خرجنا أنا وهواهي نبحث عن العظام في دوائر الطعام الموجودة في أركان الأحياء. نبشنا ردحاً وعدنا (بخفي بوبي). وفي الطريق صاح هواهي: تعرفين يا هاهينا العظام نادرة هذه الأيام. كلاب العمارات أصابتها عدوى أسيادها فأصبحت تجمعها وتخزنها لتبيعها لنا فيما بعد. كنتُ أصغي باهتمام حين مد هواهي يده وتحسس وجهي فشعرت بلذة خاطفة. دنا مني وقبلني فانتشيت، قال لي: البشر يخجلون وأنت جاسرة؟ قلت له: جاسرة، جاسرة، خذ قبلة مرة أخرى. فمط فمه حتى سال لعابه وقبلني حتى غابت السماء بنجومها عن ناظري. حين عدت لوعيي كان هواهي يقول:
تعرفين يا هاهينا كلاب العمارت أصبحت تستورد طعامنا من الخارج لحم طازج وسمين وسهل النهش ماركة الفك، علبته بخمسين قضمة. هل ترغبين في فتة من هذا النوع؟ نظرت في ذيل هواهي المرح وقالت: (بَري يايمة) ضحك هواهي وجرى جانبا ثم قال: الآن أفخر بك يا هاهينا أنت في الصورة تماما، يا لك من كلبة رائعة!! ثم أكمل جريته لا كرجل أحمق يلحق حافلة تضاهي سرعتنا ولكن كما تجري الريح لتنبئ بلدا أصابه المحل بفأل المطر. جرى هواهي وغنى:
- هو هو هاهينا
فردت عليه:
ـ هو هو هو هواهي
ثم حرك ذيله وفكه ففهمته وتبعته فرحة راضية، حين فرغنا كان الوقت مساء، اقترحت عليه أن نتفرج في التلفاز.. وكان هواهي يكره الفرجة.. كان يقول: برامج تافهة وفكر ضيق الأفق. ولكني أجبرته فرضخ لرغبتي فالأنثى هي الأصل. وفي فترة الأخبار، أطل كلب بارز عظام الفكين كث الحواجب ونبح حتى كاد أن يهشم الشاشة البلورية:
- هو هو هو هاو.. أحييكم بخير التحايا هاو.. ثم أردف: إن جماهير الكلاب خالية من السعر – هذا – وصرح مصدر مسئول من قبل الأسياد بأن الكلاب لن تقتل بعد اليوم. في الحق، فرحت ونظرت لهواهي فألفيته يقطب جبينه ويغمغم. في الصباح كنت نائمة مع هواهي في حفرته حين سمعت الصوت الهائل:
- طاااخ
صحوت مذعورة. كان هواهي غارقاً في دمائه وقبل أن أفتح فمي بالنحيب المر صرخ في وجهي بحزم:
- اهربي يا هياهينا وانجي بجلدك. فجعت لم أكن ساعتها أفكر في نفسي. دنوت من هواهي وقبلته. بدأت عيناه تذبلان. كان تعيساً وحزين بهت البريق في عينيه سيّما حين ألقى علىَّ نظرة أخرى وتلاشى كالغريق وهوى. تجمعت لدي إذ سمعت طرقعة البندقية شجاعة صدمت المناسبة، فقفزت السور العالي وجريت كما لم أعرف قبل، كانت الريح تعوي: آ آوووو... كان لساني ثقيلاً ومع ذلك طفقتُ أنشد:
- آه أيها الكلب الجميل هواهي يا حبيبي أيها اللا إنسان، اللا بوليسي، الخالي من السَّعر، قتلوك؟ هوْ هو يا هواهي يا هواي.
وجرى دمعي لا كما يجري دمع امرأة كاذبة في مأتم مفتعل ولكن كدمع التماسيح المفترى عليها.
هرولت خمسة أيام بلياليها. حتى وصلت غابة هوكس، فاستقبلوني بفرح عظيم وحكيت لهم الحكاية من صوت نفيرها حتى أدق حذافيرها عزوني وطايبوني وتجمعوا حولى.
في المساء ناولني أحدهم كتاب هوكس (العظام عبر التاريخ) مسحت دموعي وفتحت الصفحات الأولى لأقرأ:
"جُبل الإنسان على الفتك، الرجل مخلوق من فتك التماسيح، والمرأة من فتك الثعابين. أنت إنسان إذن أنت قاتل. أنت إنسان إذن أنت مريق دماء. كان الإنسان فيما مضى صديقاً للكلب. كانا يخرجان سوياً لصيد الحيوانات الشريرة، ولكن كان الإنسان يغدر بنا حين يستأثر باللحم ويترك لنا العظم ولو كان يدري أن العظم يقوي حاسة الشم ويهبنا القوة والجمال، لأخرجنا من المولد بلا حمص. ولو كان يدري أن اللحم يورثه المرض خاصة مرض السعر الذي ألصقه فينا زوراً وبهتانا، لأخرجنا من الحمص بلا مولد".
وفي الصفحة العاشرة قرأت:
"أول من اكتشف النار كان كلباً ولكن الإنسان يزيف التاريخ، كان جدنا مكتشف وأسمه بوبي، يحفر بيتاً قرب كهف لإنسان حقير، صادف الجد بوبي أثناء حفره حجراً أملس فأعمل فيه مخالبه فلم تجد فتيلاً. فأعمل فيه مخالبه بسرعة أكبر فتطاير الشرر ثم اندلعت النار. رأى الإنسان الذي بداخل الكهف المشهد. حمل هراوته الحجرية وطرد بها بوبي عاد بوبي لقبيلته بخفيه تحت إبطيه هذا هو أصل المثل عاد بخفي بوبي). عجبت غاية العجب ثم قرأت في صفحة مائة ما يلي:
"أول من ابتدأ الضحك كان كلباً واسمه لاف، رأى إنساناً يضرب أخاه بفأس، الأول يضرب ويضرب، والثاني يجري ويجري فيلحق به الأول ويلطمه فضحك لاف حتى برزت نواجذه ثم ضحك هو هو. فتلقفها الإنسان وحرّفها بحيث أصبحت ها ها ها. ووضع قانوناً أسماه الإعلال والإبدال. قال كلب هو هو، فصاغ الإنسان الضمائر: هو، هي، هما، هن، هم. انفرجت أساريري وأصبحت سعيدة أثر قراءتي.
أفردت صفحة أخرى فقرأت:
"ألا لا يأكلن كلبٌ قوت كلب،
ألا لا يقتلن كلبٌ كلبا،
ألا لا يمنع كلبٌ كلباً من طلب العلم،
ألا لا يحرم كلبٌ كلباً من المتعة والفرح."
توغلت في البهجة وطال سرحاني، فأغلقت الكتاب، وعلى الغلاف الخلفي قرأت:
"ستعود مدينة الكلاب، وكما سبحت الكلبة لايكا في الفضاء سنعمر نحن هذا الجو."
ولا غناء إلا هو
ولا ضحك إلا هو
ولا كلام إلا هو
ولا إله إلا هو.
شعرت بسعادة غامرة عقب هذا الكلام حلو الجرس والديباجة.. وأدركت أني من قبيل سام المتفوق بحق وحقيق.
تصرّمت خمس دقائق، وأنا على حالي هذي، أتأمل وأتأمل الأفكار البديعة للسيد هوكس حتى جاءني جرو شاب بهي الطلعة كث الشعر على طريقة الجيل الجديد.. صفر لحناً جديداً على مسامعي ثم ناداني أن أتبعيني فتبعته، خرج بي حيث الامتدادات السكنية الجديدة المخصصة لحضرتك أيتها الأرملة الجليلة. قال هذا ثم أكمل بقية لحنه وعربد بذيله يمنة ويسرة تعبيراً عن كونه ارتاح لأداء واجب جميل كُلف به، ثم انصرف.
وبينما هو في منتصف الطريق صاح بي: أيتها الأرملة الجليلة إن كنت ترغبين في العمل بائعة في أكشاك بصل الكلاب زوريني غدا في مكتبي: (شارع لايكا عمارة 300، الطابق الأرضي، الحفرة الخامسة).
تمطيت وتحسست الجروات العزيزات بنات هواهي في بطني قلت في نفسي، يالهن من جروات سعيدات إذ يخرجن بعد أيام وربما بعد ساعات، لا أدري، للنور في هذا البيت الجميل، في هذه الغابة الجميلة، سأعلمهن وسينتقمن لأبيهن ويثأرن.
هوكس يقول (رفض البشر المساواة وسنرغمهم على قبولها). دخلت في فراشي ولم أنم. ولمع في لحظة خاطفة خاطر عن هواهي النبيل وتناهت لمسامعي أصداء خافتة لصوت حزين غامض: أووو – أووو.
ولا بد أنني كنت في البرزخ ما بين النوم واليقظة حين قلت: غدا سنخرج جميعا أجداداً وآباء وبنين وحفدة.. نخرج كالجمع الغفير بقضنا وقضيضنا، صعلوكنا ووقورنا، الكلبة الوالد والعاقر والعقور من الغابات والخلاء والجبال والأنهار، من ظلال الأشجار والآبار المهجورة والحقول والأدغال والشُعب والأمكنة والبطاح وسنلوّث أفواهنا الطاهرة بداء السعر من إنسان مصاب، وسنهجم على المدينة ونعمل أنيابنا فيها، ونعملها ونعملها، لا يحد الوباء مصل أو سلاح، سنعض أولاً التجار، فموظفي المكاتب، ثم المطربين الهابطين، وأصحاب المواصلات والأفران، والصحفيين وعمال الكبانيات والباعة المتجولين والكسالى والمرتشين، والأصدقاء والأعداء، المقامرين والمغامرين، أصحاب الكروش الضخمة والنحيلين، الراكبين، الراجلين، النائمين، اليقظين، التافهين، العظماء، الصم، البكم، اليتامى، وأبناء السبيل حتى إذا انقضت أربعة أيام حسوما ظهرت طلائع السعر على الجيوش إياها، وسيقضم التجار رقاب الزبائن، وأصحاب الأفران، والكمائن سيقضمون المرائن، وأصحاب المقاهي سيقضمون آذان الرواد، يقضم الحديد البرَّاد، ونظار المدارس أصابع التلاميذ، والعشاق شفاه عشيقاتهم، والأطفال حلمات أثداء أمهاتهم، والأزواج سيقضمون نهود زوجاتهم بحالها، ولن تروي لهم غليلاًًً.
سيجدع الرجل أنفه
وتجدع المرأة لسانها
والطفل خياله
والكلاب أذيالها
يجدع الأسياد عقولهم، والخائفون قلوبهم، والشجعان حماقاتهم، والحاقدون أسنانهم المصطكة. والعطشى يجدعون حبهم للماء، (يذبح الخروف مسعود ومسعود يذبح الخروف، ويصيح الدود في العود: هو هو هو) تأكل المدينة أحياءها العشوائية، وتأكل الكلاب كرش المدينة وتقف المدينة عامودية على الشح، وتجيء أطراف المجاعة، وفي الصباح يكف الديك عن الصياح ويصرخ: آوووووو، والناس والحمر والبهم والخيل والليل والبيداء جميعها تصيح:
أ آ وووووو
ولا غناء إلا هو.
لا كلام إلا هو. طفح الكيل وبلغ السيل مواطن الوجع.
تنهدتُ ولا أدري كم مكثت على حالي تلك ولكنني صحوت بعد أن ظننت أنني سأموت. كانت بجانبي خمس جروات لا أدري كيف هبطن ومن أين. وكانت علىّ آثار المخاض. غنّت الجروات..
- هيو هيو أيايا أيايا، فنبست لي نفسي
- ويح قلبي جائعات!
كانت السماء شديدة الصفاء، نجمة الكلاب المضيئة نفّضتْ عينيها فتطاير منها شعاع أصفر غمر الكون كله. وشهدت بأم عيني العشب ينمو، والنمل يجمع قوته، والطيور تصدح، وغمرني فرح فجائي حتى انحدرت دمعة في عيني اليسرى وما صددتها، ثم في اليمنى وما صددتها، وصرت شديداً جداً أبكي: أبكي ثم أبكي ملء الفم والحنجرة والذاكرة، في ذلك الصباح المشرق.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى