عبد الله البقالي - الخبز الأبيض.. قصة قصيرة

ما كرهت في طفولتي شيئا كخبز الشعير. بل لم يكن الأمر مجرد كراهية . كان شيئا أكثر قوة. فقد اعتقدت طويلا أن مسألة الوسامة وبياض البشرة مردها إلى الخبز الأبيض. وان السواد وبشاعة الصورة مردها إلى خبز الشعير، وأن الإفراط فيتناول هذا الخبز يفضي حتما إلى التهلكة.
هكذا نشأ موقفي المتصلب من هذا الخبز،موقف لم أكن أعي أني من خلاله كنت أكشف الوضعية الاقتصادية الهشة للأسرة، الشئ الذي كان يغضب الوالدة. بل ويدفعها إلى أعلى درجات الغضب، فلا ترى من غير تغيير موقفي سبيلا لإعادة الأمور إلى حالها.
في البدء كانت تحاول ذلك بهدوء. تحاورني. تحاول إفهامي أن حشو المعدة بخبز الشعير أفضل من تركها فارغة أو المبيت معصب البطن. وحين لم تكن تجد صدى لمساعيها، كانت تنظر إلي بحنق ثم تصرخ في: ليتك عشت عام البون ولو ليوم واحد. لكن لا بأس ستعرف عنه كل شيئ عندما تكبر، إلا أني أتساءل عن جدوى ما يملأون به مسامعكم في المدارس إن كانوا لا يحدثونكم عن أحداث مهمة كعام البون؟
تصمت للحظات ثم تضيف: وحتى لو فعلوا، فلن يكون ذلك بقتامة ما عشناه.
يشدني التقديم مثلما يحدث عادة، وعندما تأكدت من استعدادي للاستماع أضافت: في تلك الأيام أمحلت السماء فقحلت الأرض، طال الانتظار. امتدت الأيادي لما كان مخزونا فنفذ. و في لحظة تغير كل شئ، وبدا و كأن الحياة حنت لبدايتها، جارفة في نكوصها كل ما تم تحصيله عبر مسارها الطويل. تصور، أطنان الذهب وأموال المعمور ما عادت تساوي شيئا أمام رغيف يملأ البطن، وأراض لا يحدها البصر قويضت بحفنة من حبوب الشعير. لذلك كم غنيا زادغنى...ا وكم فقيرا زاد فقرا..ا
تصمت من جديد، تحني رأسها ثم تحركه محاولة رسم حجم المعانات التي عاشتها ثم تضيف: آه يا ولد...ا لو رأيت هيام الناس في البراري و الفلاة باحثين عن أي شئ يخرج من صلب الأرض... لو رأيت البشر الذي كان يعلو وجوههم وهم عائدين مساء حتى لو كانوا محملين بجذور مرة لا تستصاغ، لكنها كانت تتحول إلى أرغفة تضمن الاستمرار. ولو رأيت حسرة من ضاق بهم الأفق حين لم يجدوا شيئا يملأ ون بهأ فواه أطفالهم، فاحتاروا ولم يعرفوا أيضعون حدا لعذابهم بشنق أنفسهم أم يعطلون ذاكرتهم ويهيمون على وجه الأرض متناسين أن لهم أطفالا جياعا ينتظرون عودتهم.
تتوقف عن الحكي. يهيمن صمت ثقيل مفعم بالحزن والألم، يتباطأ الزمن راسما مساراتمتد سكته على قلوب المغلوبين البائسين الذين يمتص صرخاتهم هدير حركات دواليبه العملاقة. تتضخم خلايا الوجدان لتطل على العالم من خلال مجهر دقيق يرصد النوايا و الأحاسيس في أرحامها . ينبثق شعور من خوف مريع. خوف من كل شئ. من الوجود و الحياة . من الطبيعة والناس و الموت . فضاء الغرفة نفسه كان يبدو حابلا بالتواطؤ. ينطق بتهديد صارخ ترصده الجوارح المصدومة بكونه يستطيع أن ينتفض ضد سكونه ويرسل جنودا صاعقة متعطشة لشئ ما، لكن هذا الشئ سيكون حتما كالجنون، كالهلاك، كالدمار.
جنود، بل أرواح ستنبثق من لا شئ، لكنها في تحولها ستستعير أجساد الآباء الذين قتلهم الغم ووجوه الأطفال الذين انتهت بهم أحابيل وجشع السادة إلى فائضين عن الوجود لا يستحقون لقمة من مخزوناتهم المكدسة.
ترعبني الصور. أبحث عن ملاذ. عن شئ نتزعني من أعماقي.أنظر إلى جنباتي مدركا أن لا مخرج من الورطة. تلتقي عيناي بعينيها. اقرأ بوضوح رجاءها. ترتد دعوتها خيبة بعد أن تصطدم باعتذاري. ترتفع كلماتها بنبرة مغايرة: هيا تقدم إلى المائدة فأنا متعبة أريد أن أستريح.
يضيقالمجال. ادفع الكلمات في حلقي فلا أستطيع، أحاول من جديد. أجهش بالبكاء فتطاوعني الكلمات وأصرخ: ولكنه يقتل يا أمي.
يعود الزمن إلى حركيته على إيقاع انتفاضتها. تلوح لي الأشياء كأنما أراها من مجرة بعيدة. شئ واحد كان يتناهى إلي، هدير خفقان قلبي.
كأسير مهان كنت أزحف اتجاه المائدة، أمد يدا مرتعشة دون أن أحدد لها وجهة. تصطدم به، ملمسه الخشن، تضاريسه المتذبذبة، لونه المتعفن، شذرات تبن تلمع بفعل انعكاس الضياء. أقتطع شدقا، أمرره بالصحن، ألقمه فمي، أمضغه ممتزجا بالمرق والدموع المالحة.أدكه بأسناني كأنما كنت أريد أن أفنيه وأتخلص منه إلى الأبد.أدفعها تجاه حلقي، تكبر الممانعة، أمضغ من جديد وأحول ابتلاعه. تنسد المسالك لتصير لبنةلا ممر يخترقها. أتصنع الانشغال بالمضغ. تنفتح الذاكرة، يلوح لي "حمور" كلب سائق الحافلة التي تربط القرية بالمدينة، حمور في سباته المأجور الممتد من مغادرة الحافلة صباحا الى حين عودتها مساء حيث يستيقظ من نومه فجأة ويبدأ في النباح، ثم يعدو بكل قواه ليختفي خلف منعرجات الطريق الغربية وليظهر بعد ذلك من جديد متقدما الناقلة مشكلا ما بشبه طلعة موكب.وليحوم حولها حين تتوقف بسرعة مذهلة. ترحاب كان سائق الحافلة ذو الشارب الطويل يسر له، يربت ظهر حمور حين يترجل ويتجه صحبته إلى بائعة الخبز حيث يشتري رغيفا أو رغيفين أبيضين أبيضين يقطعهما ويلقي بهما إلى حمورقطعة قطعة.
يلتقط حمور القطع مبرزا مهارته في التقاط الأشياء. يتجمع الأطفال مشكلين حلقة، متابعين بانتباه طقوس وجبات حمور، وكان يحدث أن يرفع عينيه وهو يضغط بفكيه القويتين قطعة من الخبز فتلتقي عيناه بعيون المتحلقين فيبدو وكأنه يقول: آسف من أجلكم يا صغار، لكن لا تغتروا، فليست كل الكلاب تحصل على خبز أبيض مثلي.

يرتفع صوت الوالدة منتزعا إياي من شرودي: لن تبارح المائدة قبل أن تنهي حصتك من الطعام.
حكم عن أي جرم؟ مجرد قضاء؟ ولماذا لا يروق لهذا القضاء سوى أن يتخذ هذا اللون القاتم في حين أن بوسعه أن يكون أفضل دون أن يتطلب ذلك تضحيات ولا رسوما ولااستنزافا للطاقات ولا أي شئ آخر؟.
يتقوى الرفض داخلي. أبصق لقمة استعصى علي بلعها فيبدأ الجلد.
بقوة كانت تزجرني، وبإصرار رهيب كانت تحاول اجتثاث شئ ما من داخلي واستئصال جذور كنه مزعج. لكني بنفس الإصرار كنت أستميت، أقاوم، شئ واحد كان يتغير في، لون جلدي...
أركن إلى الزاوية، أنتحب، أبحث عن ذنب لا يغتفر ارتكبته،عن سبب يشفع للوالدة فيما فعلت بي.
استدرت جهتها. بقيت مصعوقا. قرأت بوضوح هزيمتها، وأهم من ذلك الدمعة التي لم تفلح في إخفائها. اقتربت مني، رجتني أن أكف عن البكاء على غير عادتها. تحدثت بوضوح تلك المرة. اعترفت أن ليس بمقدورها أن تشتري الدقيق لتصنع الخبز الأبيض.تحدثت عن أشياء أخرى، عن الحياة، عن تكاليف العيش الباهظة. هدأ روعي فجنحت إلى المصالحة، لكن شيئا مهما تغير داخلي تلك اللحظة، إذ ماعادت الدنيا واحة مستوية كما كنت أراها من قبل، بل صارت فيها أسوار و ممرات يسمح للبعض باجتيازها ويمنع الآخرون من اختراقها، والناس ما عادوا سواسية كما كنت أراهم ،بل صاروا نوعين. نوع يعيش بالخبز الأبيض، ونوع لا يقوى على ذلك.
عدت إلى المائدة من غير إكراه. التهمت كل حصتي من خبز الشعير وكأني بذلك كنت التهم ما تراءى لي من صور وفوارق

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى