شعبان يوسف - سعد زهران.. وبورتريهات حزينة عن الرفاق

سبعون عاما مرت منذ أن التحق الراحل سعد زهران الشاب بالحركة الشيوعية المصرية، ووقف في صفوفها في وجه الانجليز وعملاء الانجليز، ليطالب بالحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الانسانية ، هذه الشعارات التي برزت مرة أخري في السنوات الأخيرة من ثورة المصريين علي الطغاة والفاسدين، والتي رفعها أجدادهم في كافة ميادين مصر، وكان سعد زهران آنذاك مازال طالبا في الجامعة، وكانت التنظيمات الشيوعية تعمل بقوة شديدة، وكان تأثيرها كبيرا علي كافة قطاعات الحركة الوطنية،رغم المدّ اليميني الذي كان يفرش ظله ويتحالف سلطة الملك في مواجهة الحركة الوطنية والشيوعية، وشارك سعد زهران بكل طاقته في ثورة 1946،هذه الثورة التي كانت التمهيد الأعلي والأقصي لثورة يوليو، وهي الثورة التي صاغت كافة المطالب السياسية والاقتصادية والوطنية التي رفعتها وتبنتها ثورة يوليو فيما بعد، وكانت "اللجنة الوطنية للعمال والطلبة"، هي الركيزة الأساسية التي حرّكت هذه الثورة بقوة، وكان سعدزهران عضوا نشطا في اللجنة مع لطيفة الزيات وجمال غالي ورفاقهم، وحاولت جماعة الأخوان المسلمين، تأسيس لجنة أخري تحت اسم "اللجنة القومية" مدعومة من القصر لإفشال اللجنة الوطنية، ولكنها سرعان ما انهزمت أمام المد اليساري والوطني العارم، وكان سعد زهران واحدا من الذين وقفوا بشدة أمام هذه اللجنة، وتعتبر مشاركة زهران في هذه اللجنة هي إحدي مآثره الكبري، وتعتبر هذه اللجنة حتي الآن إحدي مفاخر الحركة الوطنية والتقدمية المصرية، حيث أن هذه اللجنة قد صاغت كافة التوجهات والأماني الوطنية لعقود عديدة، وقد مرّت الحركة الشيوعية فيما بعد بسلسلة انتكاسات، وكانت أولي هذه الانتكاسات تتكرس في البعد الانقسامي الذي فتّت الحركة إلي بؤر وجزر صغيرة، كل جزيرة تعادي الأخري بشكل كبير، والعداء الذي كانت تكنه بعض التنظيمات للبعض الآخر، كان يشبه وربما يفوق العداء للسلطة ذاتها، ومن بين هذه التنظيمات كان التكتل الثوري الذي أطلق عليه " تكتل سيف سليمان"، وهما شهدي عطية الشافعي وأنور عبدالملك، وكان معهما سعد زهران وحسين الغمري وعبدالمنعم الغزالي ومحمد سيد أحمد وإلهام سيف النصر وغيرهم، ودون الدخول في تفاصيل كثيرة، كانت الحركة الشيوعية قد توحدت غالبية تنظيماتها في شهري يونيو ويوليو عام 1947، علي أيدي قطبيها الكبيريين هنري كورييل وهليل شوارتز، وكانت هذه الوحدة قدتمت علي ثلاثة محاور رئيسية هي المركزية الديمقراطية وتمصير الحركة والتعميل، والذي حدث أن هذه المحاور لم تأخذ مداها المعقول في المناقشة، فسرعان مادبت الخلافات، وعادت الانقسامات أشد وأقسي، وحدث ما سمي بالتكتل الثوري الذي شارك فيه عمنا سعد زهران، وظلت آثار هذا التكتل وخيمة علي الحركة الشيوعية، وانفض المتكتلون، ولم يبق سوي سعد زهران وداود عزيز، ومن بين الشهادات التي أدلي بها أحد قيادات هذا التكتل وهو الراحل محمد سيد أحمد الذي قال : "لقد مزقوا حدتوا ولقد انتهت مهمتهم عند هذا الحد"، وعندما أتت ثورة يوليو انقسم الشيوعيون حولها، واختلفوا كثيرا، فمنهم من ناصروا وأيّدوا، ومنهم من هاجموا الثورة وقيادتها، حتي عندما اغتيل خميس والبقري، كان هناك من لم يتخذ موقفا رافضا لهذا الاغتيال، وسارت العلاقة بين السلطة واليسار تتأرجح بين الشد والجذب، حتي استطاعت السلطة أن تحتضن قطاعا كبيرا من اليسار، وأنشأت جريدة لهم في أكتوبر 1956، وهي جريدة المساء التي ترأس تحريرها خالد محيي الدين، وضمت كثيرا من الكوادر الشابة والوسيطة والقيادية، ويكفي أن شهدي عطية نشر روايته " حارة أم الحسيني" في أولي أعدادها، وضمت الجريدة كتابا من طراز علي الشلقامي ولطفي الخولي وأنور عبدالملك وفتحي عبدالفتاح وطاهر عبد الحكيم وعبدالعظيم أنيس وغيرهم، وكان لا بد أن يحدث الخلاف، وبالفعل وقع هذا الخلاف في أواخر عام 1958، ودخل غالبية الشيوعيين المعتقلات، وانتهي شهر العسل بين السلطة واليسار، وخرجوا في عام 1964 علي دفعات، وكتب الكثير منهم مذكراتهم، ولأن معظمهم ساسة، فكتبوا مذكرات يغلب عليها الجفاف، ولكن سعد زهران كتب كتابه المهم والشهادة بروح أدبية عالية، فهو الذي ترجم رواية "ع ناقيد الغضب" للكاتب الأمريكي جون شتاينبك، وقد حظيت هذه الرواية بقراءة واسعة، وإعجاب كبير بالترجمة العربية، وكذلك ترجم سعد زهران مسرحية " المثقفون" لجيمس جويس، وترجمة الأدب تدل علي ذائقة راقية عند سعد زهران، لذلك جاءت مذكراته في كتاب " الأوردي" متأثرة بهذه الروح، وبهذا الأسلوب، وبعيدا عن الأحداث ومجريات الاعتقال الدامية، والتي استمرت من 1959 حتي 1964، وتعتبر أطول تجريدة عاشها الشيوعيون المصريون في السجون والمعتقلات المصرية، فإن سعد زهران قدّم بورتريها لشخصيات حقيقية، تصلح مادة أدبية لكافة الفنون البصرية، مثل المسرح والسينما والتلفزيون، ورغم قسوة ماكتب، فهذا يعتبر وجهة النظر الفنية في الشخصيات التاريخية التي عاصرها في الأوردي، ومنها الشخصيات الأعلام والمشهورة مثل الدكتور فؤاد مرسي والدكتور اسماعيل صبري عبدالله وغيرهم، وهناك شخصيات غير معروفة لنا، ولكنه سّلط عليه الضوء بشكل قوي، ففي فصل يحمل عنوان: "عيناك نافذتان"، يقول زهران: (لا أذكر أين قرأت هذا التشبيه الفريد، ربما في الكتاب المقدس.. إنهما ليستا نافذتين تطل منهما علي العالم الخارجي فحسب، ولكنهما أيضا النافذتان اللتان يطل منهما العالم الخارجي داخلك.. وما أفظع أن يطل العالم في عينيك فيراهما مظلمتين.. وما أشد وطأة العينين المظلمتين علي صاحبهما، وعلي من يطل فيهما، وما أشد الوطأة حين تكون العيون قد أظلمت)، ولابد أن نلاحظ أن سعد زهران لا يرسل قراءته للآخرين عبر عيونهم عبثا، بل إنه يريد أن يقول وجهة نظر في هذا وفي ذاك، وذلك يذكرنا بقصيدة بيرم التونسي عن العيون، مع الفارق أن قصيدة بيرم كانت عن عيون ونظرات المرأة المتعددة والمتنوعة، وعن أثرها في الأشخاص، ولكن قراءة سعد زهران أكثر عمقا من ذلك، فهي تتضمن رسائل خاصة جدا، ربما يفك شفراتها من كان يعرف المناخ الذي عاش فيه سعد زهران ورفاقه، وفي الكتاب تتناثر أخبار وأحداث الجلاد والضحية عيون سعد زهران، فكثيرون من كتبوا عن حسن منير الضابط السادي، والذي له صوت مخنث، وربما لهذا السبب كان يريد إثبات رجولة وهمية بالقسوة الفظيعة تجاه ضحيته، وكان يستعذب إطلاق الشتائم البذيئة والفاحشة، وسعد زهران ينقل ذلك بأمانة، ويضعه في سياقه، حتي تتضح شخصية الجلاد الكاملة وبكل ملابساتها، كل ذلك كان يجري في الأوردي المعتم والمظلم والكئيب، وظلام الأوردي كما يقرر أنواع، والنوع الشائع هو الهروب من الالتقاء بنظرات الآخرين، فالعيون في الأوردي ليس مسموحا لها إلا برؤية الأشياء المسموح برؤيتها، وليس من المسموح النظر في عيون الناس، لذلك هناك من فقدوا حياتهم كاملة لأنهم تجرأوا ونظروا إلي الجلاد، وهناك من نالهم تعذيب مبالغ فيه لأنهم نظروا عفوا، وليس تجرأ، وليس تحديا، هنا يضع زهران مايشبه الدراسة النفسية لتلك العيون، وهو السجين المعتقل الذي كانت يخضع لكافة الترتيبات العنيفة التي تضعها اللوائح والقوانين، للدرجة التي فقد حس الاتصال بالخارج، ولم يصدق أن هناك زيارة من الممكن أن تحدث، فعندما شعر بأن هناك حركة غريبة في السجن، وجاء من يبلغه بزيارة، وقد نبعته الإدارة ألا يثرثر كثيرا مع زائريه، ولا يرد إلا بما يعني أنه كويس وممتاز وأموره ماشية والحمد لله، وظن أن الزائرة ستكون زوجته المناضلة سميعة، هذه السيدة التي تحملت عبء زيارات زوجها، ثم ابنها فريد فيما بعد، ويشهد لها جميع السجناء علي مدي عقود بشهامتها وجدعنتها، وكان بيتها مفتوحا للجميع في شارع بورسعيد، وعندما واجه سعد زهران زائريه، واجه زوجته سميعة ووالدته، وكان يخشي علي هذه الوالدة التي لن تحتمل مشهده المحزن، وهنا يسرد زهران الحادثة التي تعرض لها صغيرا في حادثة الترومواي، وعندما استيقظ من إغماء الحادث، شاهد قدمه منفصلة عنه وبالحذاء، وكان كل هلعه هو الحزن الذي سينتاب والدته عندما تراه علي هذه الصورة، ويسترسل زهران في كتابه المهم والشهادة والشاهد علي الأحداث الدموية تجاه اليسار المصري، ليس ساردا فحسب، بل شاهدا ومتأملا وراسما صورة عميقة، ربما نكون قد افتقدناها لدي آخرين، بل وتكمل ما قد نقص في شهادت أخري لفوزي حبشي والهام سيف النصر رفيق رحلته في المعتقل وخارجه، وكذلك كتاب الأقدام العارية لطاهر عبد الحكيم ، وشيوعيون وناصريون لفتحي عبدالفتاح، رحم الله عمنا سعد زهران.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى