عبدالقادر حميدة - كيف تحملت السجن؟

قال خوان كارلوس أونتي: «..ولكن عندما يرغمونك على الانعزال.. فالأمر يختلف تمام الاختلاف».

هذه العبارة لأونتي.. نعم لاأزال أتذكر ذلك جيدا.. إنه الشاعر..

لكن من أين أخذتها.. قد تكون من إحدى رواياته.. لأتأكد من ذلك الآن بنفسي..

ها هي رواية «الحياة القصيرة «..أوراقها مالت إلى الاصفرار، لقد اقتنيتها منذ أزيد من خمس سنوات، طبعا لا تصح هنا عبارة اقتنيتها، بل الأفضل أن أستعمل (انتشلتها من الضياع)، وجدتها مرمية بلا انتباه مع بقايا خردة كان يبيعها ذلك الخمسيني المصفر الأسنان الذي اعتاد أن يبيع كل شيء وأي شيء في سوق «الجمعة»، كان هذا الخمسيني كلما يراني يبتهج لأني أضفي قيمة ما على تلك الكتب التي أنقب عليها بين الخردة، وبعد أن أنفض عنها الغبار، أحدثه قليلا عن قصة كل واحد منها..

قلبت صفحات «الحياة القصيرة» لكنني لم أعثر على العبارة..

حاولت التذكر مرة أخرى.. أين قرأت هذه العبارة ياترى؟.. لم أفلح، فقررت متابعة البحث.. وذلك بتصفح الرواية الثانية التي بحوزتي لأونتي.

لقد أرسلها لي صديق سعودي، تعارفت وإياه في أحد المنتديات على الشبكة العنكبوتية، وتوطدت الصداقة بيننا لاشتراكنا في جنون قراءة الروايات، كان صديقي قارئا نهما، وكنا نتحادث طويلا حول قراءاتنا، ذكر لي أنه سيرسل لي رواية ستكون مفاجأة بالنسبة لي، ولم يفصح عن اسمها ولا اسم كاتبها، مؤكدا أنني لن أستطيع مقاومة سحرها، وأنني سأقرأها أكثر من مرة.. فافترقنا على ذلك..

أرسلت له روايتين لأمين معلوف، وما إن مر أسبوعان حتى كنت أقرأها للمرة الثالثة في الليلة الثالثة من وصولها إلى.. وبالفعل صدق صديقي السعودي.. لقد أسرتني رواية أونتي «سلام الآلهة»..

لكنني الآن وبعد أن تصفحتها كاملة لم أعثر على العبارة..

لقد بات الأمر محيرا فعلا، علي أن أتذكر كل تفاصيل تنقلاتي من مدينة إلى مدينة، ومن بيت إلى بيت حتى أتمكن من الوصول إلى شفاء من هذا السؤال.. وما أصعب المهمة وأشقاها لمن ينسى بسرعة مثلي.. ولو كنت من الذين يحسنون تذكر التفاصيل.. لكتبت رواية كبيرة ربما.. ولكنني بالكاد أكتب مقالي الأسبوعي في مجلة «الناس».

قد يتهمني البعض بالكسل، وبعدم القدرة على الكتابة، ويرون في وجودي الطويل ضمن طاقم المجلة محفزا للكتابة أكثر، ودافعا لصنع اسم كبير، له هيبته ومكانته.

لا أرغب في ذلك، بل أرغب في العزلة، والاعتزال بمحض إرادتي.

هذه هي رغبتي التي أحسها تلبسني منذ خروجي من السجن، كنت قد دخلته بعد أن كتبت ربورتاجا صحفيًا كبيرًا كاد يطيح بكثير من الشخصيات المهمة جدا، كتبته حينما كنت شابا حديث العهد بالكتابة، حيويا ونشيطا، لكنني إثر دخولي السجن فقدت كل رغبة في الكتابة وفي الظهور، ولولا إشفاق مجلة «الناس» علي، ومدها لي بتلك المساحة الأسبوعية من باب التضامن معي، لكنت ربما اسكافيا في السوق المغطاة أو نادلا عند عمي «أبو الأنوار».

استلقيت.. لكنني لم أنقطع عن التفكير.. أين قرأت العبارة يا ترى؟

ناديت أمي، طالبا كأس شاي أحبه من يدها، وخاصة في مثل حالاتي هذه، كانت ترشه بماء الزهر وببعض الأدعية أيضا، وكان يساعدني كثيرا على استرجاع هدوئي وحالتي الطبيعية.

قلت في نفسي.. هأنا أدخل سجنا افتراضيا ثانيا.. بسبب عبارة.

فجأة رن هاتفي المحمول.. إنه رئيس التحرير.. يطلب مني أن أرسل له المقالة قبل العاشرة صباحا، لأنهم قدموا موعد طبع المجلة.

علي إذن أن أقوم للكتابة..

جاءت أمي بالشاي.. ولم تجد مكانا على المكتب تضع الكأس عليه.. فقد كان ممتلئا كتبا ومجلات وأوراقا وجرائد.. قمت مسرعا إليها لأفسح مكانا للكأس وللكتابة.. لكن المجلات سقطت على الأرض.. همت أمي برفعها.. فقلت:

- لا عليك.. سأعيد ترتيبها..

وعندما نزلت لأحملها.. كانت إحداها مفتوحة على حوار كبير به صورة أونتي.. وكانت العبارة تملأ الصفحة أو هكذا خيل إلي.. قربتها مني.. وقرأتها غير مصدق.. بصوت خافت أولا.. ثم بصوت عال:

لكن عندما يرغمونك على الاعتزال، فالأمر يختلف تمام الاختلاف..

قبلت رأس أمي.. من يديها يأتي دائما شفائي..

كان الحوار قد أجراه دي بنيدو مع أونتي.. وكانت العبارة جوابا على سؤال:

كيف تحملت السجن؟!.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى