محمد جباري - إفريقيا "السوداء" في المرآة الفرنسية.. قراءة في خطاب: جول فيري، نيكولا ساركوزي، فرنسوا هولاند

هل الإنسان دائم التغير أم هو هو نفسه؟
هي الاشكالية التي اختلف حولها الفلاسفة، وتعددت بشأنها المواقف. لكن سنسعى من جهتنا إلى مقاربة هذه الاشكالية من خلال تقديم قراءة في خطابات متفاوتة زمنيا، واحدة الهوية-الأورو فرنسية لذلك، سنتوقف عند ثلاث لحظات مختارة، نقيس بها طبيعة الحضور الافريقي في الخطاب الغربي/الفرنسي.
1 لحظة الاعتقال:
يعتبر جول فيري رمز اللحظة الأولى بامتياز، فهو وليد القرن 19 والشخصية البارزة في الساحة السياسية آنذاك، كسياسي فرنسي ووزير للمستعمرات الفرنسية...في سعينا لمساءلة فيري عن ماهية الخطاب أو الطرح الايديولوجي الذي يحمله، فإنه يقول:" لسنا فلاسفة وإنما رجال عمل نريد لمستعمراتنا التوسع والقوة، ولذلك يجب علينا التصرف عمليا وفعليا ". إنها مقولة تعبر أصدق تعبير عن الروح الامبريالية التي كان فيري من أشد المتحمسين لها، باعتبارها كما يرى هو نفسه، استجابة فعلية للتحولات والحاجيات التي طرحتها الثورة الصناعية، بشريا واقتصاديا وسياسيا، ويعني ذلك أن المستعمرات تمثل للإمبريالية فضاء شاسعا للتصدير والاستثمار.أما من الناحية الأخلاقية، فإن فيري يجسد كذلك الوجه الثاني للعملة الامبريالية، وفي هذا الصدد يحمل فيري بكل افتخار، الادعاء القائل "بالمركزية الغربية"، ذلك أن "القانون الالهي" كرم كما فضل الرجل الابيض، وكلفه بحمل رسالة تمدينية الى الشعوب البدائية، القاصرة عن تدبير شؤونها، ومدها بمبادئ "العبقرية الفرنسية"، وقد عبر فيري عن ذلك قائلا :" نشر ونقل حضارتنا عمل جليل يشرف المؤسسة الكولونيالية"، و ليس غريبا هذا الأمر ما دام الله خلق نوعين من البشر، نوع يوجد في الشمال، خلق ليسيطر ويقود النوع الثاني من البشر الموجود بالجنوب على حد تعبير فيري.
2 لحظة الافراج مع بقاء التهم:
إذا انتقلنا من العصر الكولونيالي الى القرن21 حيث الديمقراطية و حقوق الانسان والحرية وغيرها من الشعارات الرنانة، فسنقف على لحظة الرئيس الفرنسي الأسبق ساركوزي، الذي اعتمد في خطاب له حين زيارته الأولى لإفريقيا(1)، على "التراث الكولونيالي" في صياغة مضامين الخطاب وبنيته المفاهيمية، فالإنسان الافريقي حسب ساركوزي، شخص تعوزه المبادرة والتحدي وروح التغيير والتطور، مقابل الركون الى الطبيعة والاكتفاء بالذات، لقد اعتبر ساركوزي الصورة التي اختزلتها الذاكرة الافريقية عن المستعمِر، بوصفه غازيا جبارا...سلب عن افريقيا هويتها ودنس روحها وأشبع غريزته من خيراتها...هو عند ساركوزي قول يفتقد"للفهم والتحليل العقلاني"، ذلك أن الخدمات الجليلة والانجازات الباهرة التي قدمها "العقل الأوربي" لإفريقيا ترفع عنه كل الزلات و الانزلاقات التي صدرت عنه، فكون" الأوربي" رسول "رسالة حضارية" لإفريقيا، قصد تهذيبها وتلطيف غرائزها، وكون" الأوربي" سفيرا وهب نفسه في سبيل مد الشخصية الافريقية بالحضارة وفك عزلتها وجهلها، مقابل تربيتها على الانفتاح وتخليصها من الخرافة والأسطورة...أمام كل هذه" المبادرات" -مع ساركوزي- لا يبقى مجالا لنعت وقذف "الأوربي" بالمتسلط، بل هو انسان نبيل قدم ليهدي افريقيا الى الصواب ويخرجها من حالة الطبيعة الى حالة الثقافة، ويهديها قيمة الحب كأسمى قيمة في الكون.ولعل مسألة افريقيا والتاريخ، تعد من أكبر المآسي والعقد التي تكبل الافريقي الذي "لم يدخل التاريخ بما فيه الكفاية" فهل لأن افريقيا لم تدون تاريخها، وظلت تعتمد على الشفهي اتهمت بأن ليس لها تاريخ، وبالتالي فسحت المجال للآخر ليكتب تاريخها وفق ارادته ومشيئته؟ إن خطاب ساركوزي إذن، ليس إلا انبعاثا واستمرارا للنظرة العنصرية، فجاءت أحكامه و خلاصاته متطابقة تماما مع النسق الفكري الكولونيالي.
3 وهم البراءة:
على النقيض من الأطروحة الكولونيالية، حاول الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند، أن يؤسس لتصور جديد في السياسة الخارجية الفرنسية، حيث أكد في جولة له بإفريقيا(2) أن "افريقيا الفرنسية" قد ولت، ودعا الى تأسيس علاقة بين الطرفين كمجالين قائمين بذاتهما، قوامها المساواة والتضامن و"الصدق"، إن سياسة هولاند بما هي محاولة لتجاوز "سياسة اعطاء الدروس الأخلاقية" أو فرض النموذج الفرنسي، فهي تتطلع لفتح صفحة جديدة مع افريقيا، أساسها نسيان الماضي والتركيز رأسا على المستقبل، ويكون ذلك من خلال اعتبار الأفارقة أصدقاء فرنسا حسب هولاند. من جهة أخرى، نجد أن سياسة هولاند تعترف بالتحولات و الانجازات التي حققتها افريقيا، ومن ضمنها الاشادة بالتجربة السينغالية في مجال الديمقراطية والحفاظ على الأمن والاستقرار، فإفريقيا عند هولاند تحتل مكانة الشريك الاستراتيجي، لأنها بكل اختصار أمن فرنسا القومي، ولعل ذلك ما حمل هذا الأخير على القيام بتدخلات عسكرية في شمال مالي ضد الوحدات الجهادية هناك. ويمكن تفسير اعادة الصياغة هاته في الخطاب الفرنسي ومراجعة أشكال التموقع في افريقيا، بالمنافسة الصينية الشرسة، فالصين أضحت تلعب دور اقتصادي جد هام، أضعف من النفوذ والتمركز الفرنسي بالمنطقة، أما إذا كان هولاند يريد من شركائه الأفارقة علاقات أساسها الاحترام والحقيقة، فإن مراقبون يرون أن هولاند رغم قوله بطي الماضي، لم يبد رغبته في التراجع عن القانون الذي سبق ووضعه سابقه ساركوزي، القاضي بتمجيد الاستعمار الفرنسي في الخارج، كما لم يقدم اعتذارا للأفارقة كما هو الشأن مع اليهود الذين قدمتهم فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية للنازية.
على ضوء القراءة التي أدلينا بها توا حيال الخطاب الغربي/الفرنسي على اختلاف زمنيته، فإننا نعتقد إجابة على الاشكالية التي افتتحنا بها مداخلتنا، أن التصور المَاهَوِي الذي يرى بوجود ماهية ثابتة للشخص، أي أن الشخص هو هو نفسه أقرب الى الواقع، وحجيتنا في ذلك، ذاك التطابق الواضح والاستمرارية التي بانت لنا من خلال النماذج المدروسة، وإن كانت لحظة هولاند توحي في ظاهرها وتعبيراتها، أن هناك انعطاف ما وتحول في أسلوب تواصل الشخصية الغربية/ الفرنسية مع بقية الشعوب لاسيما الافريقية، ربما كان المحرك الاقتصادي و حماية المصالح الفرنسية بالمنطقة، حاملا قويا لهولاند لتشكيل سياسته الافريقية، وحتى إذا ما سلمنا جدلا ببراءة مسعاه، فإننا نقول لطالما هناك تيارات فكرية وحزبية متباينة الرؤى، واستمرار الاحكام الكولونيالية الجاهزة في المقررات التعليمية بأوربا بوجه عام، علاوة على موجة اليمين المتطرف الآخذة في الاستفحال، فلا يمكن الاطمئنان بتاتا لبعض اللحظات "العرضية" فسرعان ما تتلبد السماء الغربية بالغيوم والرياح الكولونيالية لتعاود نسج خطاب الأجداد، وبالتالي، أمكننا هنا الحديث عن مفهوم سيرورة وليس الصيرورة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى