بانياسيس - أبراج بلا حمائم-قصة قصيرة

الباص السفري قديم جدا...كانوا يطلقون عليه فورد .. كل حديده يصرخ... لا مذياع ولا حتى زجاج يغطي النوافذ ، الباص الأزرق الذي تنتفخ مقدمته وتتكور جوانبه نصف تكويرة لتناسب حجم عجلاته ، عجلاته كانت هي الشيء الوحيد من هذا العصر. وأما كل مكوناته الأخرى فهي أناجيل صناعة المحركات البخارية... مع ذلك فلو اصطدم هذا الفورد بأحدث باصات السفر السياحية فسيعجن هذا الأخير تحت فولاذه الصلد. وفوق كل هذا وذاك فهذا الفورد يقطع طريقا طويلا غير معبد باتجاه أطراف الولاية ليمر بعشرات القرى المدفونة في الرمال والسماء الصفراء .. تمبوكتو ... هي نسخ مكررة عنها ، تمتد على صحراء مالي الفقيرة ... المنازل من الطوب اللبن والحصير والجلود تمتد بتسطيح يستطيل بلا ظل حتى في الليل.. بالتأكيد فليس في ظلمة الليل ظلال. الشمس لا تفرط في مضاجعة تلك المنازل الشبيهة بمقابر الفراعنة من حيث جفافها وهي تصر على البقاء حية بنفخ الكير في مفاصلها المادية والبيولوجية.. الجماد والحيوان والنبات ؛ هم مزيج يتنفس كل واحد منهم زفير الآخر وإلا هلك.. فإن هلك هلك معه الآخران على وجه الحتم اللازم.
الباص الفورد يقطع الفيافي على قافية ثقيلة من الرمال المكتئبة .. الرمال التي تبحث عمن يدغدغ أعماقها لتحكي قصصا دارسة اندفنت تحت طبقاتها منذ آلاف السنين... وأبا ماداس ساهم في رسم مزيد من تفاصيل حبكة قتل ابن عمه...لن يقتله ليفر بعد ذلك بل ليعود معلنا خلاص ابن عمه من خطايا ثقافة مصابة بأورام خبيثة..فليسقط إذن مضرجا في دمائه كمسيح رفض حتى الصليب أن يحمله الى الأعلى لينفلت من فلك انحطاطه المزمن نحو الأسفل.
أبا ماداس يقترب من الخمسين ومع ذلك فجسده النحيل الممشوق وأنفه المقوسة وبشرته الحنطية ووجه المغطى بعمامات الطوارق يكذبان مرور الزمان من حارة شبابه... (لن أبرر لقتلي إياه.. إنني لست مسؤولا أمام الله عن الامتثال لقوانين قبيلتي)...سيقتله بلا شك ولن يبرر ذلك..ثم اكفهرت عيناه مؤكدا بإصرار أنه سيتوقف عن التفكير في مبررات تقلل من رجولته المعترف بها بأوساط الفرسان عندهم.
هبت عاصفة ترابية مفاجئة واندفع رذاذ الرمال من داخل النوافذ او الفتحات التي تبدو كنوافذ وصفع وجوه الركاب الصامتين ككهوف البتراء المنحوتة العظيمة...مع ذلك لم يحركوا ساكنا ؛ كانوا يتلقون الصفعات الرملية وهم واجمون ، ابا ما داس ذاته كان مثلهم ... فكلهم يقطعون الفيافي إما للقتل أو فرارا منه.
الإلهة السومرية القديمة غولا -أليس من السخرية أن يكون الإله قديما- مجدت نفسها وأعلنت إنها الطبيب والشافي بالاعشاب والتعاويذ ؛ ومع ذلك لم يسأل السومريون إلهتهم هذي لماذا لا تتدخل مباشرة بالشفاء وهي آلهة.
قال أبا ماداس مجيبا: هل كانو يؤمنون بضرورة السببية إلى هذا الحد....ثم ومضت في عقله إجابة أخرى مخيفة جدا:
إنهم الكهنة .. إنهم كهنة غولا .. كانوا يمنحون أنفسهم شرعية احتكار معرفة الأعشاب والتعاويذ...الكهنة المخادعون كان عليهم أن يقنعوا المؤمنين بغولا أن هذه الأخيرة لا تتنازل عن التزامها بالسببية... وبما أنهم لن يرونها أبدا فالكهنة هم من سيمارسوا وساطتهم بينهم وبين كشف أسرار الأعشاب والتعاويذ..لقد كانوا فوق هذا يحمون علمهم بحق المؤلف في ذلك الزمان.
ودلف الباص الفورد ذو الحديد النائح إلى مشارف سهل رملي واسع واختفى خط الطريق جراء سرعة الرياح ، وهكذا يعتمد السائق على ذاكرته الخبيرة كملاح سفينة في ليلة مظلمة بلا نجوم.
السماء والأرض مدهونتان باللون الأصفر ، والمنازل التي ليس لجدرانها ظلال تتوزع متباعدة عن بعضها لتحصل على مهلها من باحات الصحراء التي لا حدود لها.
قدم ترتدي نعلا مصنوعا من إطار السيارات القوي هبطت ببطء من باب الباص وانغرست في الرمل. وبانت أهداب سروال أزرق في المشهد ، قدم نحيلة كباقي الجسد ، وأطراف الأصابع خشنة ، لم يتأملها أحد من قبل حتى زوجة أبا ماداس ذات اللحم الطري.. كانت تكره النظر إلى ساقه النحيلة ولكنها لم تخبره أبدا منذ أن تزوجها وهي في الرابعة عشر من عمرها...
أدار بصره بعينين منكمشتين وصارمتين متأملا البيوت الصحراوية .. هنا نفى ابن عمه نفسه هربا مما لا مهرب منه... أليست حياته هنا هي موت أكثر إيلاما من الموت الثاني؟ لكن زوجته كانت تقول بأن الموت غير مؤلم أبدا وكأنها عادت من زيارته قبل ساعات قليلة. قالت أن والدها مات دون أن يبدي بعد موته أي امتعاض من الألم. فالألم وعي والموت لا وعي به والنقيضان لا يجتمعان أبدا. قال بحنق وهو يجز أضراسه: إنها تتفلسف لأنها دخلت المدرسة.
تحسس مسدسه المختفي خلف سرواله الحريري الأزرق عند عانته التي لم يحلقها منذ أن أنبتت كوثيقة تحمله على واجب الانتقام...وثيقة سوداء كرهها ولكنه غمس يديه في الدم مقسما بتنفيذها.
سار ببطء دون أن يطرف جفنه من صفعات الرمال... كان يرسم حبكة الموت ليشجع نفسه. كان يبحث من خلالها عن شعور الكره والمقت ليكون للقتل طعما... ولكن كيف يسترد كرها من قبضة ثلاثين عاما مضت؟.
تهالك داخل المسجد ليهنأ بإشباع الوسن...ثم صلى مع المصلين صلاة العصر ، كان يتوقع أن يرى المنفي معهم فخاب توقعه. وكان مضطرا حينئذ للسؤال عن منزله.
في هذه القرية أو التي تسمى مجازا بالقرية لم يكن من الصعب معرفة منزل الهدف ، ليس لحميمية بين أهلها ولكن لقلة المترهبنين هنا. لم يتجاوزوا ثمانين منزلا بلا ظل.
باب بيت الطريدة السعفي عال ولكنه يستند على حائط قصير مبني من الطين والروث. طرقه طرقات متباعدة.
هل أرديه برصاصة فور فتحه للباب...ولكن أليس من المفترض أن يبث الرعب في نفسه قبل اردائه؟ أليس القتل السريع لا قيمة له....ولكن في كل الأحوال..ماذا يعني الرعب قبل الموت لبضعة دقائق..ثم الفناء.. الهدف تعرى تماما .. عاش عاريا .. لم يتزوج ولم ينجب من يتألم لفقده..ولكن ماذا لو كان هناك من يتألم لفقده .. لماذا يهتم لألم أشخاص لم يعرفهم ولن يعرفهم ولم يلعبوا أي دور في تاريخ الدماء بينهما؟... كلمة تاريخ...كلمة نفسها مؤذية لأعصابه المجهدة مسبقا...تاريخ يعني أنه يلاحق الماضي بلا سبب....كل فكرة الآن تنبثق إلى ذهنه لتخذله عن هدفه ... (أبا ماداس.... إخرج مسدسك دون تردد..انهِ الواجب بلا تفكير... لا تتردد...إنهِ المسألة فحسب.. إنهِ هاجس ثلاثين عاما من عبس الوجوه التي تنتظر هذه اللحظة بفارغ الصبر)...طرق الباب بعنف .. لم يتوقف وهو يعض على شفتيه ... باماكو المزيفة بالحداثة...تمبكتو أرض مخروطيات الحمام التي بلا حمائم... سيكاسو.. .. كالبانكرو... موبتي.. غاو.. كاديولو.. كالادو غو..
تلك الوجوه المتجهمة الموزعة كالذباب بينهم ستبتسم أخيرا... أليس هذا مبررا كافيا... قبضته ارتفعت وأخذت تلكم الباب... المنازل الصحراوية انفتحت بيبانها وأطلت رؤوس نساء وأطفال وشيوخ منها ... قال عجوز: لم يخرج منذ خمسة أيام تقريبا.. ربما كان يتبتل...
نظر اليهم نظرة قاسية ثم ركل الباب فانهار متداعيا إلى أسفل لترتفع الأتربة إلى السماء.. خرج الأطفال والشيوخ وتجمهروا خلفه ... أما النساء فظللن أمام البيبان وهن يغطين وجوههن ليخفين القلق... لم يكن منزلا .. بل كان مشتلا للزهور .. زهور في قلب الصحراء ... وغرفة واحدة بابها نصف مفتوح... حاور ممرات قصعات الزهور وكانوا يتبعونه ... مد أصابع يده المتخشبة السوداء وعلى خنصره خاتم مزين بحجر أخضر كريم... كانت الغرفة خافتة الضياء مشبعة برائحة قرنفل ... تقدمه العجوز وأخرج هاتفا محمولا وأضاء مصباحه ووجهه نحو السرير حيث جثة رجل منتفخة... أخذ أبا ماداس الهاتف وتحرك نحو الجثة .. قرب ضوء المصباح من وجه الجثة.. تأمل وجهه إنه هو .. ولكنه أكثر نضارة... هو وكأنه لم يغادرهم في تلك اللحظة الفارقة...
قال العجوز مخاطبا صبيا:
إئتني بشعلة ومقص...
قال شاب:
فلنخرجه إلى نور النهار...
هز العجوز رأسه وقال بصرامة:
ليس قبل أن نفحص الجثة عن كثب...
عاد الصبي بشعلة ؛ وبيد محترفة ومعروقة أخذ العجوز يقص ملابس الميت ، غمغم بقسوة خبير:
"إنه في مرحلة الانتفاخ .. لقد تجاوز مرحلة الموت الأولى حيث يبدو اللون شاحبا..."
قص جانب الرداء الأيمن وأخذ ينزعه بلطف ولكن بسرعة..
"دفء جسده غير مبرر ..ورائحته كذلك"
قرب الشعلة من جوانب الجثة ورفعها قليلا:
"لقد مات في سريره.. ليست هناك جريمة..فهو لم ينقل من مكان آخر... لو تم نقله لكان الظهر مليئا بالبقع البنفسجية..."
خلع كل الملابس ثم قال وهو يتأمل الجسد العاري:
-ادعوا لأخيكم بالرحمة... لقد فارق الحياة منذ ثلاثة أيام...
أخرجوا يا صبية وليذهب أحدكم وليأتني بالكفن والحنوط من مخزن المسجد... ستخرج الغازات من داخله الآن..
خرج أبا ماداس مع الصبية...ووقف تحت هجير الشمس...
لقد انطفأ.. انطفأ قبل أن يكمل هو ميثاقه مع المنتظرين هناك... تبا.. حشا مسدسه في جيب سرواله الأزرق الحريري...واتكأ على الجدار وأخذ يحملق في إجاصات الزهور الملونة ... رأي العصافير تسير بأسلوبها الغبي ذاك وكأنها حائرة .. تسير خطوتين بسرعة ثم توجه جسدها بأكمله نحو اليمين وقبل أن تكمل خطوتها الثانية تعود موجهة جسدها إلى اليسار تبدأ في التحليق ثم تتوقف وتواصل النقر على الأرض...نقرة..نقرتين..ثم تقفز بجسدها إلى اليمين وهكذا دواليك...إنها تبدو تائهة مثله تماما....
حمل الرجال القليلون الجثمان المكفن فتبعهم من الخلف.. كانت خطواته بطيئة واختفت صيحات تهاليلهم وراء تأملاته الحيرى..
قال العجوز وقد استقر الجثمان المكفن على الحصير :
- أنت قريبه .. أليس كذلك؟..
صمت قليلا وهز رأسه:
- عليك بالصلاة عليه صلاة الجنازة...
وعند الدفن قال العجوز:
- عليك أن تدفنه مادام قريبك...
حمل راس الجثمان وضعه في التجويف الأصغر من التجويف الأكبر فوق حجرين صغيرين ملاطين بالطين..ثم عمل مع الرجال وأهال التراب الأخير عليه....
انتهى كل شيء وأحس بيد العجوز تمسكه من رسغه ليذهبا فقال:
- سأبقى معه قليلا ...
تركه العجوز وقال:
- حسنا.. المقابر بعيدة عن القرية حاول ألا تتأخر ..ستبيت في منزلي...
وحين اختفى الرجال تماما ... أخرج مسدسه وأطلق على القبر أربع رصاصات سريعة....
***
تومبكتو.... جوهرة الصحراء وأرض مخروطيات الحمام التي بلا حمائم.... ذات الأضرحة التي دمرها المهووسون.. استقبلته الوجوه المكفهرة بقلق...
قالت عجوز وقسماتها تزداد قسوة :
- قتلته؟..
نظر إليها وبادلها النظرات القاسية قائلا:
- أطلقت رصاصات أربعة على قبره مباشرة....
تهللت أسارير المرأة وكأنما تحيا ليلة دخلتها من جديد...
التفتت إلى النسوة بابتسامة واسعة واطلقت زغرودة شقت السماء.....
تفاعلت النسوة مع زغرودتها بزغاريد مماثلة وأطلق الرجال رصاصات بنداقهم نحو السماء....
فطارت الحمامات من أبراجها...
(تمت)...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى