سعيد سالم - الحياء.. قصة قصيرة

حين انتقلنا إلى ستوكهولم كانت هيلدا مرشدتنا، وكانت تقيم معنا فى كل فندق ننزل به وتلبى طلباتنا كافة ولو لم تكن فى نطاق العمل .

لكن هيلدا تقدس وقت راحتها الخاص، إذ تنسلخ تمامًا عن المجموعة ولا تعطى لأحد فرصة ضئيلة ولو لمجرد الحوار البرئ معها. وعلى الرغم من شخصيتها الفولاذية إلا أن طابع الحياء يغلب عليها بصورة ملفتة أثارتنى كثيرًا وجعلتنى أتطلع إليها بشغف شديد .

دفعتنى موروثاتى الشرقية إلى اقتحام عالمها الخاص، على الرغم من وعيى بأن ما سأفعله يعد تطفلاً وعدوانًا على حريتها الخاصة. آه من هذا الفضول الذى سوف يقتلنى يومًا.. كان السؤال: هل تتصرف هيلدا بهذا الأسلوب بدافع عنصرى أصيل أم أنها تقتنص فرصة حقها فى الراحة للهرب من عيون المتخلفين الجائعة إلى لحمها، أم أن المسألة أبسط من ذلك بكثير لكنى لا أفهم شيئا؟!

ويومًا اخترت اللحظة المناسبة وأسمعتها نكتة مصرية تسخر من العنصريين جعلتها تدمع من الضحك، لكنها فاجأتنى بتعقيبها على النكتة قائلة :

ــ يا مستر إيجبت أنت أكثر عنصرية منى دون أن تدرى، وربما كنت تدرى لكنك لا تريد أن تعترف بذلك .

ــ كيف تقولين هذا؟

ــ إنى أراقبك فأرى بعينى كيف تعامل زملاءك من ارتفاع عالٍ جدًا .

ــ إنه ليس تعاليًا، بل نفورًا من همجيتهم أمام الطعام والشراب والمرأة .

ــ وربما كان شعورًا خفيًا بانتمائك إلى حضارة أرقى وأقدم .

ــ أيًا كان الأمر.. هل أنتِ سعيدة بالعمل معنا؟

ـــ العمل نفسه رائع أما الأشخاص.. هف!

ــ فكيف تفسرين إذن تلك الابتسامة الخجلى التى لا تفارق وجهك خلال فترات العمل؟

ــ ابتسامة عمل .

دون أن أدرى وجدت نفسى أقول بلا تردد :

ــ هل تقبلين منى دعوة للعشاء هذه الليلة؟

تفجر بداخلى بركان يغلى بالخوف والقلق.. ما أتعسنى لو رفضت !

فكرت قليلاً ثم قالت ببساطة تتربع على عرش حيائها :

ــ لا مانع.. وأشكرك كثيرًا .

هاجمتنى ظنون أجدادى وسير ملوكى وتاريخ أنبيائى بسلاسل يعرفها أبناء وطنى جيدًا فقيدتنى من لسانى، وكنت على وشك أن أسألها بكل ما أوتيت من غباء :

ــ لماذا وافقت بهذه السهولة على دعوتى؟!

لكن الكارثة ــ لحسن حظى ــ لم تقع إذ منعتنى قوة غامضة عن فتح فمى للكلام .

كلما أمعنت النظر فى عينى هيلدا استبدت بى الحيرة وأنا أذكر أقاصيص «حمدى» ذلك الملعون الذى سبقنى إلى نفس البعثة فى العام الماضى. أتعجب من قدرته الفائقة على الكذب وخياله الذى لا حد لاتساعه وهو يصف لى مغامراته التى لم تنقطع يومًا مع عشرات السويديات اللاتى لا يعرفن شيئًا اسمه الحياء وهن يمارسن الجنس معه، ومع غيره، بكل يسر وسهولة، مثلما نقزقز نحن اللب فى مصر ونحن نشاهد فيلمًا فى التليفزيون.

وأتساءل فى دهشة: أهذه الحسناء الرقيقة المهذبة المثقفة لا تعرف الحياء؟ أم أن حمدى المسكين هو الذى لم تكن لديه القدرة على التمييز بين حياء خبيث مغلف بالبراءة وحياء حقيقى يحجب من خلفه ثقة وبساطة واعتزازًا.

إنى أرى الأنوثة تتفجر من حياء هيلدا، وما قيمة امرأة فى دنيا الرجال حين ينعدم حياؤها المثير؟!

أما حين تشق «أم قطوش» الإسكندرية جلبابها فى منتصف الزقاق وهى تولول شبه عارية على زوجها قتيل الفقر والمرض، ومن حولها سبعة أولاد بلا عائل، أو حين تتكدس ثلاث عائلات فى شقة واحدة ذات دورة مياه مشتركة، وينام الجميع مرصوصين على الأرض رجالاً ونساء وأطفالاً وطعامًا وشرابًا ومضاجعة ومشاجرة، فما معنى الحياء هنا وما جدواه؟ وكيف يدهشنى انعدامه فى ساحة الفقر المدقع إن أدهشنى غموضه فى ساحة الرفاهية، فالنقيضان يبيحان ذلك، وما يضير الشاة سلخها بعد ذبحها؟! فحين يتفاقم الفقر يصبح الحياء رفاهية لا يحق للفقراء ممارستها أما الحياء عند أهل الرفاهية، فقد يكون حقيقيًا غير زائف ولا يفترض أن يكون غير ذلك إلا فى أقصى حالات الثراء.

فى المطعم كانت مراسيم الطعام طويلة وبطيئة للغاية، يتخللها غناء جماعى متقطع ما بين الصنف والآخر، وبينما كنت غارقًا فى دهشتى الساخرة التى استبدت بى منذ وطأت قدماى أرض هؤلاء القوم الطيبين، إذا بثلاثة من المبعوثين لا تجمع بينهم رابطة من أى نوع يدخلون المطعم .

ما أن رأونا حتى فرضوا أنفسهم على مجلسنا، وأطالوا فى الجلوس، مما أثار حفيظتى، أما هيلدا فقد أخفت مشاعرها خلف ابتسامة جليدية ناصعة، وفى دهشة بريئة لا تخلو من فكرة سألت السعودى سليمان الجربوع :

ــ لماذا لم تبت معنا فى الفندق ليلة الأمس؟

أجابها بغرور ذى جرس :

ــ لم يعجبنى.. فأنا لا أبيت إلا فى فنادق خمس نجوم .

قال الكوبى فيكتور فياندرو بغل عجزت الابتسامة الصفراء عن مواراته :

ــ لقد ظلم الله العالم بأن خص هؤلاء العرب بالبترول.

وعلق الفلسطينى يوسف الدباغ بكلمة واحدة :

ــ سفاهة!

حين بدأ العالم الثالث فى إظهار مواهبه الفذة اعتذرت لى هيلدا عن ضرورة الانصراف لمقابلة مدير الشركة، التى سنزورها فى اليوم التالى، لترتيب التفاصيل النهائية للزيارة معه .



* من مجموعة «أقاصيص من السويد».



موقع ك ت ب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى