شكيب كاظم - محمود أحمد السيد لو لم يتخطفه الموت سراعاً

أول مرة يطرق فيها أسمه سمعي وباصرتي, يوم قرأت مقالة ضافية عنوانها (محمود أحمد السيد رائد القصة الحديثة في العراق), نشرت في عدد نيسان / 1969 من مجلة (الآداب) البيروتية, كتبها أستاذي الدكتور علي جواد الطاهر, يوم كان يعمل في جامعة الرياض, وكأن هذه المقالة, والقسم الثاني منها الذي نشرته المجلة في الشهر التالي, تمهيد لنشر الدار ذاتها الكتاب الذي أوقفه أستاذنا الطاهر لدراسة المنجز الإبداعي والريادي للسيد وعنوانه ( محمود احمد السيد رائد القصة الحديثة في العراق) الكتاب الذي سنعود لدراسته بوصفه جزءاً من مفردات المنهج المقرر على طلبة كلية الآداب حين انتظمنا للدرس فيها بداية عقد السبعين من القرن العشرين.

وبهذا يكون للطاهر فضل الريادة في دراسة ريادة السيد للقصة العراقية الحديثة, تلته الدراسة الأكاديمية للدكتور عبد الإله أحمد وعنوانها (نشأة القصة وتطورها في العراق 1908-1939) هذا المبدع الذي تخرمه الموت سراعاً, وأنك لتعجب من هذا الإصرار على الكتابة, ومواصلة الحرث في أرض بكر, على الرغم من مشاغل الحياة والوظيفة واعتلال الصحة وكثرة المثبطات, إذ قوبلت كتاباته الأولى بالهزء والسخرية, في مجتمع لا يعرف النجومية, إذ كتب في مقدمته لرواية (مصير الضعفاء) الصــــــــــــــــادرة عام . 1922 طالما كانت تشوقني نفسي إلى كتابة الروايات ولكني كنت أتردد وأحْجُمُ لما في الأمر من صعوبة, استشرتُ هذا وذاك فلم أجد أحداً يشجعني على الكتابة بهذا الموضوع, ولم آلفْ رجلاً يشير علي بشيء سوى الكفِ عنه وتركه بتاتاً, وذلك لأنهم استصغروا شأني وحسبوا أن لن أقدر عليه”.

ظلال قاسية

هذه الآراء المثبطة تركت ظلالها القاسية على نفسية محمود أحمد السيد فجعلته يكاد يبرأ من هذا الذي كتبه في البدايات واعني روايته (في سبيل الزواج) ). 1921ومصير الضعفاء) ومجموعته القصصية (النكبات) حتى توقف عن كتابة القصة أو الرواية, وبدأ بكتابة المقال الفكري, ومن المؤسف ان الكثير من الكتاب يَسْتخِفُهُمْ الطرب, بما كتبوا, فيبادرون إلى نشر هذه البدايات, التي ما عادت تمثلهم لقد نقد محمود أحمد ذاته, وإبداعه وعده سخيفاً, قائلا:

” آه, ليت الظروف كانت تفهم, فتكسر يدي قبل أن اكتب تلك الروايات الغرامية الفاسدة الثلاث, السخيفة, التي أعدها لطخة عار في حياتي وحياة الأدب).

وعلى النقيض من هذا الرأي المتشدد, الناتج عن تأزم نفسي وشعور بالكآبة كما يصفه, أستاذي الطاهر, فإني لأستذكر رأياً طريفاً ومنصفاً للدكتور سهيل إدريس صاحب مجلة (الآداب) ودار (الآداب) للنشر ببيروت يوم قرر سنة 2000 إعادة طبع مجموعاته القصصية الثلاث ( أشواق) و(نيران وثلوج), و(كلهن نساء) المنشورات تباعاً في النصف الثاني من عقد الأربعين من القرن العشرين, فأحس بعدم الرضا عنها, وحكمت يقول إدريس بأنها لا تمثلني بعدُ, بيد أني توقف عند مضمون هذه العبارة, لا تمثلني بعد, إذن فقد كانت تمثلني ولا يجوز أن أسقِطها من حساب تطوري الفكري والإبداعي لكن تنكر محمود أحمد لكتاباته الأولى وبراءته منها لم تقف عند هذا الحد بل امتدت لتشمل كتابات المنفلوطي التي تستدر الدمع والعبرات, وكل ما يصفه بقصص الغرام والخيال والابتذال.

كان توقفه عدة سنوات عن كتابة القصص, أمضاها بالقراءة الجادة ولاسيما إذا عرفنا أنه يجيد لغة ثانية هي التركية, فضلاً عن تأثيرات هذه الثلة التي يقف حسين الرحال على رأسها إلى جانب عوني بكر صدقي ومصطفى علي, الذي سيكون أول وزير للعدل في العهد الجمهوري, ويكلفه الصحفي الرائد روفائيل بطي الذي كان يتولى رئاسة تحرير جريدة (البلاد) بقراءة ما يرد إلى الجريدة من قصص وكتابة نقد عنها, ومن يرجع إلى الثبت الذي أعده الباحث الكبير الدكتور عبد الإله أحمد – رحمه الله- للقصص والروايات المنشورة في الصحف والمجلات العراقية في السنوات الثلاثين الأولى من القرن العشرين, في كتابيه (نشأة القصة وتطورها في العراق) و(في الأدب القصصي ونقده), يلمس عظم المسؤولية الأدبية والثقافية الملقاة على عاتقه, أن تقرأ وتدرس هذا الكم الوفير من القصص.

هذه المراجعة للذات, أنتجت روايته, أو قصته المطّولة أو الطويلة (جلال خالد) التي نشرها 1928 واضعين في الحسبان, عدم تبلور المصطلح النقدي لفن السرد لدى محمود احمد, فهو لا يكاد يذكر مصطلح الرواية, ولقد قرأت (جلال خالد) في مكتبة المتحف العراقي, منتصف السبعينات, ليردفها بمجموعته القصصية الأخرى (في ساع من الزمن) في المكتبة ذاتها, قبل أن يتولى أستاذنا الطاهر والباحث الدقيق عبد الإله احمد نشر الأعمال الكاملة لمحمود أحمد السيد عام 1978 ووضعها بين أيدي الدارسين والقارئين.

وإذا كانت الريادة الزمنية للقصة القصيرة في مصر تسجل لمحمود طاهر لاشين في مجموعته القصصية (يحكى أن) والرواية للدكتور محمد حسين هيكل في روايته (زينب) فقد كان بالإمكان ان تسجل ريادة القصة أو فن السرد في العراق بطرفيه الزمني والإبداعي لمحمود احمد السيد, واضعين في الحسبان تخلصه إلى حد كبير من سذاجة البدايات, وبساطتها ولاسيما أعماله الثلاث الأولى مقارنة بــ( جلال خالد) و( في ساع من الزمن), لكن تقدرون وتضحك الأقدار, فلقد عصف مرض الكبد به ليفارق الحياة في القاهرة, التي ذهب إليها طلباً للشفاء, ويوم أزمعت الدولة العراقية الاعتناء بقبر الشاعر عبد المحسن الكاظمي, دفين مقبرة الإمام الشافعي بالقاهرة, قرأت مقالة لأستاذي علي جواد الطاهر يدعو إلى الاهتمام بقبر محمود احمد السيد دفين المقبرة ذاتها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى