عبد الرحمان فضلي - القصيدة السوسية.. حينما يتلاقح اللسان العربي بنظيره الأمازيغي

لقد أبدع أدباء سوس عامة، وفقهاء المدارس العتيقة على وجه الخصوص، في نظم الشعر وإنشاده؛ فعندما يلتقون في مجالسهم، يتنافسون في نظم القصائد الشعرية. ففي الموضوعات الطريفة مثلا، نجدهم ينظمون أراجيز عن مكانة “الأتاي”/الشاي في المجالس وبالغوا في تفاصيله. كما نجدهم في مواضع أخرى ينظمون الشعر في غرض المدح أو الهجاء أو الرثاء، وقد أبدعوا في ذلك إبداعا.

وإن ما يهمني هنا هو استحضار نوع فريد من القصائد الشعرية التي ينفرد به هؤلاء، فقد استطاع فقهاء هذه المدارس وبعض طلابها أن يزاوجوا بين اللسانين العربي والأمازيغي (السوسي على وجه الخصوص) في نظم الشعر، وقد أبدَوا المهارة وقوة الإبداع في التوفيق بين اللغتين في القصيدة. وهنا، تكمن جمالية هذا النوع من القصائد الشعرية. وفي هذا السياق، يقول الفقيه السوسي أبو زيد عبد الرحمان الجشتيمي:

الحمد لله الذي قد سخرا // لي النظامين ولا مفتخرا

أنظُم طورا باللسان العربي // وتارة بالأعجم العربي

إن العربية بالنسبة لهؤلاء هي لغة العلم والقرآن، بينما اللغة الأمازيغية هي اللغة المحلية التي يفهمها عامة الناس، ولذلك يحاولون “الارتقاء بالخطاب اليومي إلى مرتبة الجمالية الأدبية على سبيل التفكه والممازحة”. والغرض من ذلك هو تقريب المعنى إلى المتلقي الذي لا يتقن العربية جيدا لكون الكلمات التي تنتهي بها القصيدة العربية صعبة الفهم بالنسبة إلى عامة الناس.

أسوق هنا بعض النماذج من القصائد الشعرية، وسوف أحاول أن أترجم الكلمات الأمازيغية الموجودة بين قوسين إلى العربية. كما أنني اقتصرت على الأبيات الأولى لغرض التمثيل فقط، لأن القصيدة طويلة تتكون من أكثر من مائة وثلاثين بيتا.

يقول الفقيه أحمد بن محمد بنيعزى في قصيدة يهجو فيها أهل قرية زارهم:

سافرت دهرا ووصيفي (وِينْزَارْ) =اسم خادم // في سنة قد قل فيها (أَنْزَارْ)= المطر

والقصد في السفر جوب (تِيمِيزَارْ)= البلدان // والسير في خيامها و (إِيكِيدَارْ)=الحصون

(…)

أول ما رأَته فيه (تِيطِي)= العين // والظن في لومهم (أُورَايْخْطِي)= غير مخطئ

قوم عجاف نزلوا ب(تَاكْنِيتْ)= كدية // قد اقتنوا خوف الضيوف (تَايْدِيتْ)= كلبة

وقد نزلنا عندهم (تِيوُتْشِي)= وقت المغرب // وكلنا من أمسه (أُورِيشِي)= لم يأكل

مارحبو بنا ولا (إِيوِينْدِي)=قدموا // من القرى شيئا ولا (أُوسِينْدِي)= حملوا لنا

إن القارئ لهذه القصيدة يلمس فيها البعد الخيالي الذي يتمتع به صاحبها، فهي نوع من القصائد التي تمرر الرسالة بأسلوب طريف، لذلك نجد الكثير من طلبة المدارس العتيقة يحفظونها وينشدون بها.

ومنها في تعليم قواعد الرسم العثماني.

من ذا الذي يُقرِض (وَاوْ أُوْرْ كِيسْ إِلاَ) أي: حرف الواف لا يوجد بهذا الفعل // إن تُقرِضوا وأَقرِضوا (كَادَارْ إِلاَ) في هذه الأفعال نضع واو الجمع.

ومنها كذلك في الغزل قول الآخر:

أرى الحبَ يستولي على القلب بغتةً // كمثل هجوم الودق في الصيف (إِغْدْ إِفِي)= إذا هطل بشدة

ومن كان هكذا فلست له أرى // دواء سوى أكلِ العصيدةِ أو (بُوفِي)= نوع من الطعام يشبه العصيدة

كما حاولوا توظيف أسلوب “الجناس التام” الذي تُعرف به القصيدة العربية في إطار المحسنات البديعية، يقول الفقيه إبراهيم بولكسوت في قصيدة يهجو فيه الشيعة:

أرى اليوم أهل الرفض مظهرهم (إكلا)= متلون // ولكن صميم القلب عندهم (إكلا)=أسود

تواصلوا على كتم القبيح وفعلهم // على نشر ما تحت العمائم (إكلا)= حلف

إن جمالية الأبيات الشعرية بهذا الشكل الذي تمتزج فيه العربية بالأمازيغية تكمن في هذا التحول الفريد الذي عرفته القصيدة الشعرية الأمازيغية، وخصوصا بعد تعالي الأصوات في المشرق والمنادية بتجديد الرؤيا؛ فهذا النموذج لم يخرج عن ما هو متعارف عليه في أدبيات القصيدة العمودية الكلاسيكية، إنما أضاف إلى القصيدة العربية بعض التعديلات لتنصهر في الثقافة المحلية. وهذا لم يكن جديدا حتى في الشعر العربي؛ فقد كان الشعراء في العصر العباسي، وخصوصا غير المنتمين إلى الثقافة العربية، يدخلون كلمات أجنبية على أشعارهم.. وهكذا اقتبس منهم الأمازيغ هذه الخاصية ليضفونها على أشعارهم الطريفة.

بالإضافة إلى كل هذا نجدهم يبدعون في مسائل تحقيق الرسم القرآني والضبط والمتشابه فيه باستعمال لغتهم المحلية، فمثلا من أجل تمييز “الياء لمتطرفة” في القرآن، أبدعوا جملة من قاموسهم المحلي تجمع كل هذه الأفعال التي تحتوي على الياء المتطرفة، كقولهم: “ولفنا الأتاي”.

و= وألفيا (سورة البقرة) ؛ ل= لقيا (سورة الكهف)؛ ف= فاتيا (سورة الشعراء)؛ ن= نسيا (سورة الكهف)؛ أ= أتيا (سورة الكهف)؛ ت= تنيا (سورة طه)؛ ي= يغنيا (التحريم).

إن توظيف جملة “ولفنا الأتاي” والتي تعني اعتدنا على شرب الأتاي/ الشاي، هي من صميم ثقافة محلية تجذرت فيه منذ زمن بعيد، بحيث إن شرب الأتاي كل يوم في الثقافة المغربية هي من أهم مستلزمات اليوم، ولذلك لا يمكن أن نجد هؤلاء الفقهاء في مجالسهم يتذاكرون دون استحضار الأتاي.

كما أبدعوا كذلك في مسألة صعوبات تلاوة وحفظ المتشابهات في القرآن، ففي سورة الرحمان مثلا يصعب حفظ كل الآيات بترتيبها نظرا لتكرار الآية التالية: ”فبأي آلاء ربكما تكذبان” أكثر من 31 مرة. ولذلك ولضبط ترتيب الآيات وتسلسلها، أبدعوا بيتا شعريا جمعوا فيها أوائل حروف كل آية.

خرم يوكي سييف فيهود // ففم فكهوم فففحلمة

وبيان هذه الحروف هو كالآتي: خرم أي: خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ.. يليه رب المشرقين ثم مرج البحرين.. إلى آخر السورة.

إن هذا الفن الشعري في المدارس العتيقة السوسية هو جزء من الفنون الجميلة الوفيرة التي لم نذكرها في هذا المقال، فهي فنون كلها تعبر عن ثقافة محلية أصيلة وربما لا يمكن أن يستشعر الآخر ذلك الذوق الجمالي لهذه الفنون إذا لم تكن له دراية بثقافة الأمازيغ في الجنوب المغربي، فهذا الإبداع له نكهة خاصة يتذوقها كل من يعيش بين أركان المدارس العتيقة من طلبة وفقهاء وحتى مريديها، لذلك وأنا أقرأ هذه الأبيات الشعرية أو بعضا من الأعمال الأدبية لهذه الفئة، أحس بإبداع فريد من نوعه يمزج بين ثقافتين أصيلتين، ثقافة عربية من جهة، وثقافة أمازيغية من جهة أخرى، ولعل القاسم المشترك بين هاتين الثقافتين حسب هذه الأعمال الأدبية والفنية هو المقدس الديني. وما هو ملاحظ في أغلب الأعمال الأدبية والفنية لهذه الفئة هو حرصهم على الجوانب الشكلية والجمالية للقصيدة، ولذلك كثيرا ما نلمس في إبداعاتهم الشعرية قوة وجزالة اللفظ وشرف المعنى والاهتمام بالمحسنات البديعية وما إلى ذلك؛ وهو ما يعطي لهذا النوع من القصائد جماليتها.

وتجدر الإشارة إلى أنه في بعض الأحيان يوظفون بعض الأساليب الرديئة والبسيطة، ليس لأنهم عاجزون على نظم الأبيات الشعرية بأسلوب لغوي رصين، وإنما فقط من أجل التعبير عن بعض المواضيع الطريفة والسخرية منها بأسلوب محلي بسيط، وبالتالي فاستخدام هذه الأساليب مقصودة.

في الأخير، يمكن القول إن المدارس العتيقة والكتاتيب القرآنية بالمغرب ما زالت تحافظ على بعض أعرافها المحلية وتقاليدها الأصيلة في تعليم العلوم الشرعية والقرآن والحساب وغيرها من الفنون الأدبية المختلفة بأسلوب فني عريق. لذلك، يحظى المكان بمكانة رمزية واستثنائية داخل المجتمع المغربي؛ فالمتتبع لمختلف الأعراف والفنون الجميلة التي تقرأ في هذا المكان، يلمس عمق التفكير الخيالي والإبداعي لهذه الفئة بالذات، فهي تدرس النحو والحساب وعلم التوقيت وغيرها بطريقة تختلف فنيا وجماليا عن الطريقة العصرية التي اعتدنا عليها..

ولذلك، تحتاج هذه الفنون إلى اكتشافها والتعريف بها؛ فالحديث عن المقدس الديني في علاقته بالجماليات يستلزم منا أن نفكر وأن نعيد النظر في هذه العلاقة التي تربط بين الثائيتين، المقدس والجميل، بحيث يجب أن نبلور رؤية فنية تنطلق في البداية من قدسية الجميل لتنتهي في الأخير بجمالية المقدس الديني، وبالتالي نعطي لمسة فنية وجمالية لكل الأفكار والسلوكات التي نقدسها، فالمدارس العتيقة مثلا هي أمكنة مقدسة لكن قراءتها من منظور جمالي يجعلنا نستكشف كل الصور الفنية والإبداعية لهذه الأمكنة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى