ادريس الحديدوي - جبل يأبى الانكسار

ادريس الحديدوي.jpg

من وراء ستار، نظروا إليه بعيون سوداء، شبهوه بورقة خريف منتهية الصلاحية أو بخرقة بالية و جودها بات يشوه ألوان الطيف الزاهية أو بالأحرى بات يهدد وجودهم ...
محمود الرجل الطيب صاحب الابتسامة الخفيفة الجميلة رغم تجاعيده الملتوية و قامته المستديرة قليلا. عانى كثيرا في طفولته كبائع الجرائد و علب التدخين في مدينة ضخمة لا مكان فيها للضعيف أو المهزوم، ثم كحمال للبضائع لدرجة أطلقوا عليه اسم " الحمال" الذي كان مسلحا بالأمل و الحياة. لا يلتفت للظلم الذي يمارس عليه في الطرقات و المقاهي الليلية و في الأزقة الضيقة المملوءة بالمنحرفين. كل ذلك، كان من أجل الاستمرارية و بناء أسرة يتخيل ملامحها في كل فسحة استراحة يسرقها تحت شجرة وارفة الظل، يمسح بيد عرق جبينه، بينما الأخرى تمسك خبزة صغيرة مدهونة بدرهم من زيت الزيتون. يكسر جوعه، يشرب قليلا من الماء، ثم يعود لعمله.
استطاع أن يشتري غرفة متواضعة فوق السطوح، تزوج حليمة التي التقى معها صدفة و هي تلهث تائهة في محطة القطارات و هي بنت العشرين ربيعا. جاءت لتبحث عن أبيها الوحيد الذي فر من القرية إثر خدعة رئيس القبيلة مدعيا أنه وجد ابنته في أحضان أحد الفتيان ليلا و إذا لم يزوجه إياها لن يصمت عن العار الذي لحق بالقبيلة. المسكين نزل الخبر كالصاعقة على صدره، شنج عروقه المتبقية. لم ينم طوال الليل، كان ينتظر الفجر بفارغ الصبر و ابنته تراقبه من كوخ لصيق بغرفته. سمعته يقول بجنون و حسرة:" ابنتي بريئة .. نعم أعرف ذلك، و لكنني أحمل قلبا ضعيفا لن يقوى على الصمود"..
استيقظت ابنته باكرا بعد أن داهمها النوم فجأة، بحثت عنه فلم تجده..
كان قدرها أن تسافر إلى المدينة لتتزوج "الحمال محمود" في غرفته الضيقة فوق السطوح. في البداية لم تكن سعيدة بهذا الزواج، و لكنها غيرت مواقفها كالسماء عندما تغير سواد غيومها إلى لوحة فنية مشرقة ساحرة. لقد وجدت فيه سكنا مريحا و قلبا حنونا و معاملة طيبة رغم ضيق الحال، بينما هو كان يفتخر بها أشد الافتخار. يجتهد ليل نهار لتلبية متطلباتها. لا يأكل إلا معها و لا ينام إلا على صدرها كطفل وجد فيه حنان الأب و الأم. استمرت الأيام في منحى تصاعدي كله فرح و استقرار إلى أن أصيبت حليمة بحمى مفاجئة ليلا لتموت صباحا مخلفة وراءها بنتا و طفلين و زوج لم تحب يوما فراقه و لكن قلقها المستمر و الخفي عن أبيها الذي اختفى رغما عنه، تحول في صمت إلى نزيف في الدماغ ..
استمر محمود الحمال في مساره مقاوما رغم صدره المحترق و رغم آلامه المسننة إلى أن حقق آمال زوجته حليمة التي كانت تتمنى لأبنائها أن ينجحوا في تعليمهم و يصبحوا في مراكز مهمة في المجتمع.
كلمة " الحمال" التي أطلقها الناس عليه و التي كانت زوجته تحب سماعها مرارا لأنها مفخرة و تعكس قوة زوجها على التحمل و الصبر، باتت تؤرق أبناءه كثيرا لدرجة أنهم تبادلوا رسائل استعجالية لانعقاد مؤتمرهم الفجائي لتدارس هذا الاسم الذي اعتبروه " وشم عار" شوه مراكزهم السامية و أنقص من مكانتهم المرموقة وسط عائلات تعد بالأصابع.
ـ ماذا تقترحون يا سادة، للقضاء على هذا الارث الثقيل و المميت؟؟
سألهم الابن الأكبر مرتديا بدلة سوداء فاخرة و ربطة عنق تشبه لون السماء الشفافة الجميلة بنبرة حادة حتى أن ريقه تطاير في جميع الاتجاهات.
ـ الحل في نظري نضعه في مصحة للمجانين و نغير أسماءنا و نحول مقرات أعمالنا إلى الخارج. قاطعته أختهما الصغرى و هي تصفق بيديها الناعمتين و علامة الفرح تملأ وجهها الأنيق قائلة " اقتراح مدهش أخي الصغير، بل فكرة رائعة". ثم التفتت إلى أخيها الأكبر الذي كان وراء هذا الحقد الذي اكتسح المجموعة كالسرطان و هي تقول:" ما رأيك بهذا الاقتراح؟". صمت طويلا و هو يدقق النظر في جدران بيته الفاخر، و كأنه يبحث عن مكان يضع فيها مشنقة لأبيه، الذي رفض أن يغير حرفته و مسكنه القديم الذي يحبه لدرجة أنه أقسم أمامه ذلك المساء عندما صادفه في محطة القطار ألا يغير جلده و لا غرفته التي تذكره بحبه و عشقه الأول و الأخير. نظر إليهما بعينين مرتبكتين كأنه يستفيق من حلم مزعج. أثنى على فكرة أخيه الصغير و قرروا أن يرسلوا له سيارة المصحة صباح الغد.
عند بزوغ فجر ذلك اليوم، استيقظ محمود من نومه مشرق الجبين كعادته بعد أن قضاه بين أحضان زوجته التي لم تفارقه يوما حتى بعد موتها. كانت روحها تدفئ عظامه كل ليلة. أخذ حماما ساخنا و توجه للمسجد ليصلي صلاة الفجر. وهو في الركعة الأخيرة رحلت روحه المقاومة إلى السماء..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى