روان علي شريف - الوجه الآخر للمدينة.. قصة قصيرة

دخل المقهى واتخذ من ركن معتم مجلسا له. طلب قهوة من دون سكر. واخرج من جيبه أوراقا اصفر لونها أشرفت على التمزق. للتو تستيقظ في ذاكرته صور نائمة لخيول جموحة لم تعرف الأسر.
جاء الموت من هناك كعادته يلقي نظرة أخيرة على إنجازه المعطل، وقف فوق رأسها ينتظر اللحظة المواتية ليضغط بأصابعه الباردة والرهيبة على أنابيب ظلت تربطها بالحياة.
قال الجبلي محدثا نفسه هل حقا سيأخذها؟ لن ينتظر المستتر من الحوار بل استجاب لنداء الأشباح والاماكن المسكونة بالهوس والخراب.
جاءت فطوم كقبس تنير دهاليز روحه المظلمة، بخطى متعثرة طرقت أبواب الرغبة والدهشة.ألقت باللوم على حظها التعيس وبكونها امرأة في مجتمع لا يغفر للنساء.
بحزن وتوجس قالت وهي تهذي. ها أنا فطوم أيها الجبلي، أجيؤك من حيث لا تدري. جئتك اليوم من أعماق أرضنا الطيبة المضرجة بالدماء. مرة أخرى أقف على شواطئ الأراجيف وافتح لك شبابيك ذكرياتي الأليمة على مصراعيها. هو ذا عمي (أبو شنب) ينتصب أمامي بين حقول القمح شامخا كجبال ( تواقس) الجاثمة أمامنا. رأسه في موقع الشمس كشلال وشم ذاته في الكائنات. عيناه لا تنام، واحدة على المتوسط مستكشفة آفاقنا البعيدة وأخرى تعانق بيوت الطين المتناثرة هنا وهناك بين الأخاديد والتلال وفي تناسق وتناغم مع جغرافية المكان تتشكل لوحة فنان ويتشكل معها تاريخ أمة وملحمة أجيال.
كان بيتنا كما تذكر أيها الجبلي في أسفل المنحدر، في مكان منعزل وعلى بعد أميال منه تمتد غابة (مولاي إسماعيل) نحو الشرق في خط متواز مع حقول الرمان والزيتون إلى أن تطل على مستنقعات المقطع البقعة الوحيدة التي تبرئنا من خيانة التراب. ما أعرفه كان البحر خلف تلك الربوة، على مرمى حجر لكننا نحن الحريم لم نكن نعرفه. ما كنت متيقنة منه أن أبي مثله مثل عمي (ابو شنب) كان مخلصا لأمي ولقطعة الأرض التي بنينا عليها بيتنا. كم من مرة كانت تلك الأرض أثناء توريدها تأخذه في أحضانها بشبقية لأوقات متأخرة من الليل وكان ذلك يقلق أمي المسكينة، غالبا ما يثير حفيظتها ، تستسلم للغيرة وتشعر بالإهمال.
ألا تذكر أيها الجبلي، يومها كنا نحن الأطفال قبل أن يستوطن الرعب الغابة على مدار الأيام، خاصة في موسم الأمطار ننطلق إلى هناك بحثا عن الحطب والفطائر وكنا نصطاد صغار العصافير في أوكارها. كنا نتسلق أشجار الزبوج الهرمة إلى أن نصل القمة فتتراءى لنا مداخن شاهقة كتنانين واقفة تقذف من أفواهها ألسنة من اللهب وقتها سؤال وحيد كان يراودني ماذا كانت نية من شيدها ؟؟
أحرار... جمهورية... اليوم.
على رنات بائع الجرائد الذي اقتحم المقهى عاد الجبلي من بعيد من أمكنته المسكونة بالخراب، تلاشت فطوم من أمامه وبقى سؤالها معلقا إلى الأبد.
وكأن الغلام أيقظ في نفسه شهية الكلام راح يهتف لنفسه.
واليوم ..؟ اليوم فطوم ما عاد يربطها بالأرض شيئ فهي وجه من أوجه المدينة. في لحظة انكسار أزاحت تاريخ عمر محافظ، اتخذت من سارة هوية لها وراحت تؤرخ لعهد جديد مليء بالتناقضات. عجيب أمر فطوم كيف تعتبر حياتها الخاصة لا شأنا لي بها؟
خير البلية ما يبكي ومن عوالم الشك تولد الافتراضات. صحيح أن الأحكام المسبقة خنجر مغروس في جسم الحقيقة لكن الحقيقة عملاق نائم على أطراف المدينة يحتقن غيظه المتنامي ولعنة المصير قدر محتوم يطاردنا.
مدينتنا ككل المدن، مغرية وساحرة كعملة ذات وجهين.وجه شفاف، مشع وأنيق مرسوم على واجهاتها النظيفة وعلى محيا فتيات الاستقبال عند مداخل الفنادق والمحلات الكبرى يوزعن ببراءة الابتسامات المصطنعة بالمجان، يروجن الدعاية الكاذبة لسلع مغشوشة في الأصل هن جزءا منها.
ووجهها الآخر خفيا وقذرا كالنخاسة تفوح منه نتانة الأشياء والخديعة باسم الضرورة استمدت منه البلطجة والجناية شرعيتهما...
فتح الجريدة وفي ركن المجتمع لفت انتباهه عنوان مميز أيقظ في نفسه شهية الكتابة بعد ما كان يظن نفسه قد انتهى. كم من مرة حاول كتابة قصته الأخيرة لكنه لم يفلح. كان دائما يحس بالخوف والوهن، تتزاحم الأفكار في ذهنه. يتمرد الأبطال على قلمه ويفقد السيطرة أمام قدسية وطن في صورة امرأة مثال أخرج قلما وورقة بيضاء وراح يؤسس لولادة قصة قيصرية سماها الوجه الاخر للمدينة.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى