أربع رسائل من فدوى طوقان الى ثريا حداد شقيقة سمير حداد

العزيزة ثريا
مرحبا بك، أقولها من القلب.
فاجأتني رسالتك العزيزة. بلي، إنني أذكر الآن، فحديثك عن زيارتك لي عام 1961 ألقي الضوء على زاوية معتمة من ذاكرتي، وأرجو أن تعذري ذاكرة غطت الحياة الصعبة مخزونها من الذكريات الحلوة. ها أنا أعود الآن إلي غرفتي في بيتنا القديم، وها أنا أراني هناك أجلس معك، ومع شقيقتك –إن لم يخطئ تصوري-.
ما أغرب هذا؟! مرة أخري أرحب بك، أنت يا أخت سامي ويا صديقته، وما أجمل أن تقوم الصداقة بين شقيقين يجمع بينهما التفاهم والتعاطف الأخوي الحميم.
سوف أدخل في صميم رسالتك الغالية مباشرة، وسامي هو نبضها الخفاق وجوهرها. لكن قولي لي يا ثريا، من أين أبدأ؟ ما أصعب هذا الأمر! تقولين إنه حدثك عني طويلا.. وتقولين إنه كان مسرورا بل سعيدا وهو يستعيد الحديث، والذكريات، ويقرأ الأشعار. ويسعدني أن أسمع منك هذا، أنا التي تحتضن أعماقها تلك التجربة التي بلغت من الجمال حدا يصعب معه التحدث عنها، تلك التجربة التي لا تقدر بثمن لأن عالم الروح والقلب لا يثُمَّن. ولكن..
هل حدثك سامي عن الصمت الجليدي الذي اكتنف صداقتنا الحميمية؟
إن الصمت لغة الغرباء، فهل قال لك إننا أصبحنا غرباء؟ في قلبي أشياء وفي نفسي أشياء وفي عقلي أشياء، ولكنني أصمت وأنكفئ علي نفسي لأن ما أريد قوله لا يقال إلا في جلسة أكون معك خلالها وجها لوجه وليس عبر هذه المحيطات التي تفصلنا.
علي أي حال، كان آخر ما جاءني منه رسالة بتاريخ 17/ 12/ 1976 حدثني فيها عن نيته في البحث عن عمل في إيطاليا. وأجبته بتاريخ 5/ 1/ 1977 وانقطعت عني بعد ذلك رسائله فلم يكتب إلا بعد ستة شهور، وكانت بطاقة تحتوي علي ست كلمات أرسلها من إيطاليا، ومن المضحك المبكي أنني كنت في إيطاليا في نفس الوقت ووجدت البطاقة تنتظرني حين عدت من رحلتي في الأسبوع الأول من أغسطس.
أما لماذا لم يتذكر أن يسأل إلا بعد ستة أشهر، أما لماذا لم يفعل ذلك إلا وهو في مكان ما في إيطاليا، فهذا ما بقي غامضا بالنسبة لي.
شيء آخر ربما لم يتحدث به إليك. شيء يتعلق بزميل رديء له اصطلحنا علي تسميته باسم »‬iago” كان قد عمل علي تحطيم صورة سامي في نفسي، ولكن إعزازي وإيثاري لسامي كان أقوي من كل النذالات التي تعمل في الظلام، ورضيت أن تمتلئ نفس »‬اياجو» بالحقد علي، وأن يحمل لي العداء والضغينة إلي الأبد. رضيت بكل هذا لكي أحمي ظهر سامي من الكلاب العاقرة. فماذا كانت النتيجة؟ باختصار: sami has let me down!
سليه وهو يفسر لك، أما أنا فإنني عاجزة عن التفسير، وفي كل يوم –مع انقطاع سامي عن أي اتصال- أزداد شعورا بالعجز عن التفسير. ولقد كانت مقابلته الودية مع ذلك الزميل علي الهواء، إيذانا منه لي بأن كل ما بيننا وصل إلي نهايته. ومنذ ذلك اليوم لم أحاول التفكير في أن صداقتنا تعني قليلا أو كثيرا بالنسبة له. وكم يحزنني أن تنتهي الأشياء إلي ما انتهت اليه.. من طبيعتي أنني لا أشكو حين يجرحني الآخرون، بل ألتزم الصمت كأسلوب نظيف للتعبير عن نفسي.
مع كل ذلك، إنني مشتاقة إليه، بلا مكابرة. مشتاقة، مشتاقة كثيرا..
كتبت في روما قصيدة عن (حصار تموز لروما) فقد كان وجهه يطاردني في كل مكان هناك، وأدركتني لحظة ضعف وأنا في ميونخ بألمانيا، فقد كان حنيني إليه يشتد يوما بعد يوم. وبيضت القصيدة، وأودعتها غلافا كتبت عليه عنوانه في لندن. دخلت إلي زاوية صندوق البريد في قاعة الصندوق لأطلب طابع البريد.. وفجأة قام ذلك العائق النفسي فمنعني من تنفيذ رغبتي، وعدت إلي غرفتي أغالب رغبتي في البكاء، ولم أبك.. وانتصرت علي سامي..
وفي لندن –ولم أكن أعلم أنه في الخارج- وربما كان قد عاد إليها، قاومت الرغبة في الاتصال به، وكنت أموت شوقا إليه، وانتصرت.. حتي »‬جوبيلي» (شارع في تشيلسي حسب ما توضح في رسالة أخري) حيث كنا نلتقي في العام الماضي تجنبت المرور به، وكأن أجمل أيام حياتي لم تنزلق هناك من بين أصابعي وأنا أحاول التمسك بها وإيقاف الزمن معها.
لقد قتل سامي كل الأشياء الجميلة. وفي يقيني، بعد أن عرفته، أنه يملك موهبة تدمير الأشياء حتي لو كان الحفاظ عليها لا يكلفه أي جهد أو تضحية.
عفوك يا ثريا، هذه أول مرة أجد فيها متنفسا لما أنا عليه من ضيق وحزن، فأرجو أن تفهميني وتعذريني. لك محبتي أيتها الإنسانة الطيبة.

فدوي طوقان
2/9/ 1977


************


9/ 2/ 1978

عزيزتي ثريا

لك التحية والمحبة والشكر على الدماثة والهدايا والصورة. ردك على رسالتي ممتع، ورأسك العامرة بالعقل والحكمة ووضوح الرؤية لا تستحق الأوجاع. أرجو أن تكوني الآن ودائماً في أحسن حال. لم أكتب إليك حتى اليوم لأننا نعيش هنا قلقنا السياسي الذي يصرفنا حتى عن الخلوة بأنفسنا لنتحدث إلى أصدقائنا الأعزاء. الجسر الذي مدّه السادات على الهاوية تحطم تحت قدميه قبل الوصول ولكنه «يهدد» بأنه «سيلخبط» الدنيا إذا لم تسلحه أميركا كما تسلح إسرائيل.
هذه هي حياتنا العربية يمتزج فيها دائماً المضحك بالمأساويّ، والعالم العربي كرجل عاجز مكسح القدمين يتلقى الضربات من كل جهات الأرض ولا راحم إلّا الله الذي يبدو أنه قد هجرنا إلى غير رجعة. أغبطك على غربتك الجغرافية، فالهجرة والعمل وراء حدود الوطن وجه من وجوه النشاط الإنساني، والإنسان توّاقٌ دائماً لاكتشاف المجهول واختراق الآفاق الجديدة.
إنّما الغربة الحقيقية هي غربتنا هنا في أرض الوطن تسحقنا نعال الاحتلال الفاشيستيّ ويلتف علينا ثعبان الاستيطان.. ننتظر الطوفان لعله يجيء فيغسل الأحزان ولكن كل المؤشرات تقول: لا خلاص! صدقيني إن مجرد الحياة في قلب هذا الواقع المريع شجاعة وبطولة، فاللهم زوّدنا بمزيد منها. كل ذنبنا نحن الفلسطينيين أننا نرفض الانقراض كالهنود الحمر وأننا نتناسل كثيراً، وهذا مما يجعل أمن إسرائيل مهدّداً بالأطفال الذين لم يولدوا بعد. أكتب لك الآن والبلدة مغلقة والجيش يلاحق الأطفال الذين يرجمون الدبابات بالحجارة.. ويعتقل تلاميذ المدارس.. ويسب ويشتم ويتميز غيظاً من هذا الشعب الذي لا يعرف الخوف ولا الاستسلام.
عفوك يا ثريا وسامحيني على هذا الحديث الكئيب. لعلنا نلتقي في عمان ولكني سأسافر إلى إسبانيا في الصيف.
لك حبي ـــ فدوى

نعاني حالة كئيبة من الهبوط المعنوي...


****


نابلس 2/ 5/ 1979


ثريا الغالية

كلمة خاطفة. وصلت الرسالة مع ألف شكر. سأكتب إليك مطولاً. الآن مثلي مثل الآخرين هنا، كلنا نعاني حالة كئيبة من الهبوط المعنوي. حقق «السلام» أهداف بيغن التوسعية: استمرار السيطرة على الأرض والمباني والسكان ومصادر المياه. الأخبار السيئة تنهمر، ونحن نواجه خطر الاقتلاع من الجذور وفقدان الهوية. لا تعني «الإدارة الذاتية» شيئاً أكثر من إدارتنا لشؤوننا المحلية – إدارة للسكان وليس للأرض- التي أصبحت تحت السيطرة الإسرائيلية مئة بالمئة. يعني أصبحنا أقلّية كالأكراد في إيران والعراق أو باسك إسبانيا.. أقلية تابعة ومملوكة لدولة تمارس سيادتها على الأرض.
عجَّلت بهذه السطور القليلة فقط لأطمئنك على وصول رسالتك العزيزة، وآمل أن يرجع إليّ مزاجي لأتحدث إليك طويلاً. كيف صحة سيدتي الوالدة؟ أرجو أن أسمع أخباراً حسنة، لو عرفت بوجودها في عمان لسعيت إليها لأراها، فقد عدت أمس من عمان ووجدت رسالتك بانتظاري. لك كلّ حبي

لماذا كل هذا يا إلهي!؟


***


نابلس 19/2/1981

ثريا الحبيبة

هذه ليست رسالة ولكنها كلمة سريعة أرد بها على بطاقتك المعزِّية. كلماتك الصادقة مسحت على قلبي بيد حانية رقيقة، سلمك الله وعافاك مع من تحبين.
حبات العقد تنفرط حبة بعد حبة، موت ثم موت ثم موت، والفعل هذا مستمر لا ينقطع، سلَّمنا به على كره، وقلنا إنه الحقيقة الوحيدة في الوجود، تولد بذرته فينا منذ اللحظة الأولى من ميلادنا، وكلٌّ منا ينتظر دوره، فالمصير مفروض علينا ولا مفر ولا مهرب.
ليس هذا ما يقلقني ويشوشني، في حالة أخي أحمد كان الموت رحمةً وإنقاذاً له من عذاب جسديّ عانى شدته على مدى عام كامل. قال لي قبل شهور وأنا أقف أمامه بكل عجزي وضعفي الإنسانيّ: الانتحار أفضل من هذه الحياة، لماذا لا يأتيني الموت فأستريح. كان كالطفل، بلا حول وبلا قوة، حتى جرعة الماء كنَّا نقطِّرها في فمه تقطيراً.
ليس الموت هو الفاجع؛ الفاجع الحقيقي والسؤال الحائر هو: «لماذا كل هذا يا إلهي!؟»
هذا السؤال الصارخ الذي تجمعت فيه كل آلام البشرية، وجدت له المسيحية جواباً شافياً وحلّاً مثالياً لمشكلة الألم المحيّرة. أما الإسلام، فأوصى بالاستسلام والاتكال على الله فلا اعتراض على ما أراده الله وارتضاه وعلينا أن نتمسك بالصبر والإيمان.
مشكلتي يا ثريا أن السماء في نظري فارغة، فقلبي قد فقد الله منذ بعيد، ومع هذا الفقد انكسرت فيه تلك الدائرة السحرية التي تحيط بقلوب المؤمنين.
بعد وفاة أحمد بخمسة أيام، أصيبت شقيقتي التي أجاورها في السكن بنزيف في الدماغ، ضربها فجأة كالصاعقة وتركها مشلولة النصف الأيمن من جسدها، عاجزة عن الكلام والحركة. والمأساويّ في الواقعة أن شقيقتي ظلت طوال حياتها – وهي أصغر مني بعامين- ظلت تتصف دائماً بديناميكيتها التي لا تقف عن الحركة. كان العمل المنتج هو رئتها التي تتنفس بها ومصدر سعادتها وبهجتها. والأكثر مأساويةً الآن أنها عادت إلى حالة الصحو الطبيعي وأصبحت تعي وضعها العاجز كلياً، مما يسبب لها نوبات شديدة من الكآبة والحزن والقنوط. فلماذا كل هذا يا إلهي؟!
يؤسفني يا ثريا أن يصبغ كلماتي إليك هذا اللون القاتم، ولكنك أخت وحبيبة أبثّها بعض ما بي، فأجد التخفيف والتطهير من الألم في هذا الوقت الصعب. على كل حال، الطبيب غير يائس وإنما الأمر يأخذ وقتاً، والتحسُّن في مثل هذه الحالات يكون بطيئاً ولكن ليس ميؤوساً منه.
أتطلع إلى لقائنا بأمل وشوق. إذا لم يحدث ما يعيق فليكن لقاؤنا بلندن في شهر مايو وأرجو أن ألقاك هناك بخير وعافية.
مع كلّ الحب – فدوى




* مقتطفات من كتاب «رسائل فدوى طوقان مع ثريا حداد: أضواء جديدة على حياتها وشعرها» (أعدها للنشر: سمير حداد، راجعها وقدم لها: عبد اللطيف الوراري) ــ «دار طباق» (رام الله، فلسطين، الطبعة الأولى، 2018)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى