نعمات البحيري - تاكسي الفضفضة..

عوّدت نفسي في الليل على قراءة خفيفة أو سماع موسيقى أو متابعة فيلم سينمائي, بعدها أتهيأ لنوم عميق وأحلام أتوسّم أن تكون سعيدة.

لكن دائما تأتيني أصوات غير مألوفة لرجال ونساء يطالبونني بالحديث إليهم, ولحساسية وضعي كامرأة وحيدة في العالم الثالث, أتوجّس من هوية الطالب أو الطالبة فأتحصّن بالردّ بعنف ورفع سماعة الهاتف. ويبدو لي أن النوم الهادئ فكرة أقرب إلى السراب. وبقليل من التأمّل أكتشف أنه حتى الأهل والأصدقاء صاروا مجرد علاقات صوتية لا تُرى, تسمعها فقط في التليفون وفي الليل تحديدا حين تتعاظم على الناس مشاعر الفقد وعدم التحقق وفقدان البهجة والسعادة.

فكرت في تلك الظواهر التي انتشرت في المرحلة الأخيرة وقد تعددت أسباب العنف والملل والضجر وتقطعت على نحو ما أسباب التواصل والعلاقات الإنسانية, حتى أغلب علاقات الزواج والحب والصداقة والزمالة في سياقاتها المألوفة لم تعد علاقات مشبعة لأطرافها, وتتفاقم يوما بعد يوم الضغوط الاقتصادية والمناخ السياسي العام في الكرة الأرضية من حولنا لتزيد الطين بلة, وتصير الطرق التي كانت من الممكن أن تمهّد بين البشر ليمتلكوا القدرة المعقولة لصياغة علاقات إنسانية جميلة ومشبعة - تصير أوحالا, فتفشّت ظاهرة البرامج الكلامية أو برامج الفضفضة وطلب الوقت للبوح مثل الاعترافات الليلية والدردشات على الإنترنت والمراسلات على البريد الإلكتروني, والمحادثات التليفونية لأطراف غير معلومة لبعضها, وهي بديل مقنع للحوارات مع الطبيب النفسي لنقنع أنفسنا بأنه ليس ثمة خلل نفسي أو اجتماعي يخدش الصورة الجميلة التي نحرص عليها جميعا في المرآة كل صباح.

كل الذي نرغبه فقط هو أن نتحدث, ويسمعنا أحد. هذه الظواهر لم تستثن دولا فقيرة أو غنية, فالمشكلة واحدة في كل بلدان العالم. منذ أيام قرأت خبرا طريفا نقل عن جريدة الأوبزرفاتور البريطانية أن الحكومة تعد خطة فريدة من نوعها تقضي بتنظيم برنامج جديد يهدف إلى تدريب سائقي سيارات الأجرة على الإنصات إلى الركاب بدلا من توجيه الكلام إليهم, فقد اكتشفت الدراسات أن سيارات الأجرة توفر مناخا مريحا لمساعدة المواطنين على البوح بمشكلاتهم خاصة النساء اللائي يعانين العنف الزوجي ويسارعن بطلب سيارة أجرة للابتعاد عن البيت, ومن خلال البرنامج الجديد هذا يمكن لسائق سيارة الأجرة تقديم النصح لهؤلاء السيدات وإرشادهن للوجهة الصحيحة التي يحسن اللجوء إليها, وقد تبين أن العنف الزوجي يكلّف الحكومة البريطانية 378 مليون جنيه إسترليني في السنة نفقات شرطة ومحاكم ورعاية صحية وساعات عمل مفقودة.

وخبر آخر أكثر طرافة عن أرقام مكاتب بأمريكا يمكن للمواطن الذي يرغب في إزاحة قدر من التوتر والحزن والغضب أن يطلبها لتحكي له نكتة وإن لم يضحك فلا تضاف نفقاتها إلى الفاتورة. وصارت الرغبة في أن يسمعنا أحد أو في البوح والإفضاء لتخفيف حدة القلق والتوتر وتقليل الآثار الناتجة عن براكين الحزن والألم والغضب التي تتفجّر من حولنا صارت شاغلنا الشاغل أفراداً... وحكومات!
[SIZE=3]نعمات البحيري مجلة العربي مارس 2003[/SIZE]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى