مرزاق بقطاش - عناقيد الصمت..

هذه بكائية لصديق. لعلها تلفت الأنظار إلى دوامات العنف والموت اللامنطقي التي تلف الجزائر الشقيقة التي كانت يوما ما منارتنا في الكفاح ضد الحرية. الجزائر التي يوجع الإرهاب قلبها وقلوبنا جميعا.

الغيوم التي تتقوقع في أجواز السماء مدة طويلة لا بد وأن تهطل دفعة واحدة. دموع زميلنا عبدالقادر ظلت رهينة أعماقه طيلة أربعين عاما. وقد شاءت الظروف أن نراها تتدفق على مدى نصف ساعة في قاعة التحرير التي جمعتنا. بدا لنا أشبه بمن تلقى طعنة خنجر في خاصرته ولم يقدر أحد منا على إسعافه ولو بشربة ماء.

وعلى سبيل الإفلات من قبضة الواقع المضني, فلسفنا الثورات والاغتيالات السياسية. ولعلنا, من حيث لا ندري, نظرنا في أمور الدموع والأحزان منذ مبدأ الخليقة. وفي آخر المطاف عدنا من حيث بدأنا وحكمنا بيننا وبين أنفسنا قائلين: بكاء محرق مرمض لا يعرفه أحد إلا عبدالقادر. يستحيل أن يبكي ذلك البكاء إنسان آخر.

سحابة بيضاء متراقصة تظللنا في أثناء غيابه. تتعلق في سمائنا بضعة أيام وترفض أن تمطر. ونبقى في انتظار كلماته وإشاراته التي تكون بمنزلة الملح في طعامنا اليومي. عبدالقادر يزور والدته المريضة في بيتها الذي لا تغادره بمدينة قسنطينة. ثم يعود إلينا إنسانا بلغ قمة الوجد في رحلته هذه. منابع الأمومة عنده هي الموقف الأسمى الذي يحار فيه أرباب الهوى من أهل التصوف.

يتحول في ظرف أيام معدودات إلى مخلوق من تلك المخلوقات البحرية الهلامية التي تزداد شفافية كلما صفا ماء البحر. ذلكم هو عبدالقادر, زجاج شفيف قد يتهشم أمام أدنى هبة من ريح, وما أكثر الرياح وما أعتاها في حياته وفي حياتنا جميعا!

وعبدالقادر هذا حبب إليه من دنيانا أمران: الضحك والرقص. حين يرسل ضحكته الطويلة المتكورة يقع في ظننا أننا قبالة جرة ماء تندلق لا يريد أحد أن يتلقفها ليسندها إلى جدار أو إلى صخرة.

وحين يرنو بعينيه الشفيفتين نفهم من بريقهما أنه مبحر في عالم الجاز والفوكس تروت والفالس.

ذات مساء, ضحك طيلة ساعتين بلا انقطاع. وقعت عيناه على إعلان في صحيفة فرنسية تعلوه صورة لرأس جحش. لم ننتبه لتفاصيل الإعلان, ولكنه اكتشف بفضل شفافيته العجيبة أن الجحش يرسم مايشبه ابتسامة على شفتيه الغليظتين.واقتنعنا جميعا أن الجحش يضحك فعلا. ومضت بنا الأمسية ونحن نشفق على عبدالقادر من أن يقع ضحية الاختناق بسبب ضحكه المتواصل.

ذهب مرتين إلى الولايات المتحدة الأمريكية, وعند عودته وقف بيننا في قاعة التحرير وقفة فيها الكثير من الإعجاب والتردد في الوقت نفسه:

- ما أعظم الإمباير ستيت بلدينغ! سهم ينطلق في السماء, بل حربة يوجهها فارس سمهري نحو الفضاء. لعل الذي بناه هو هامان وزير فرعون!

ونظر إلينا وهو يواصل حديثه عن الإمباير ستيت بلدينغ فخيل إلينا أننا نرى البناية الضخمة في عينيه. ثم ابتسم وأطرق برأسه وقال في شبه مناجاة هامسة: مدينة قسنطينة أعظم من الإمباير.

قسنطينة خططها وبناها في الصخر إنسان أعظم من هامان! لدينا في قسنطينة كهف شكارة. الأتراك كانوا يرمون من أعاليه كل من وقعت عليه طائلة الحكم بالإعدام. ولكن في أمريكا لديهم غرف الغاز. إنهم يتفنون حتى في تقديم الموت! موسيقى جورج جرشوين(1) جميلة جدا, ولكن غناء المالوف الذي ينطلق من حنجرة الطاهر الفرقاني(2) أجمل وأروع!

عبدالقادر يبكي بلا دموع منذ سنوات طويلة, بل لعله يبكي منذ عهد الصبا الأول. تخمينات وراء تخمينات دون أن نعرف يوما سبب بكائه. عيناه تزدادان شفافية عندما يحدق في الخواء, ونحن لا نفهم شيئا من سلوكه هذا. الشفافية تساوي البراءة.

شفافية عبدالقادر تساوي البحث عما هو مضحك في هذه الدنيا. ذات مرة, ركب القطار من قسنطينة, وحين حان وقت الفطور طرح بعض المأكولات ودعا المسافر الجالس قبالته إلى مشاركته. الغريب في الأمر أن ذلك المسافر راح يضع حبة المقروض في فمه ويبتلعها دفعة واحدة. مازحه عبدالقادر وطلب منه أن يقف فإذا به أمام عملاق يكاد ينطح سقف العربة.

عاود الفلاح الجلوس وقال: لم أشعر بالغيرة من أحد في حياتي إلا في شيء واحد. انحنى قليلا وتناول حذاءه. حذاء عملاق صنعه بنفسه من بقايا عجلة مطاط قديمة. لم يجد حذاء على مقاسه في يوم من الأيام. ويقسم عبدالقادر أنه خنق ضحكته طوال الرحلة وانتظر الهبوط من القطار لكي يطلق العنان لنفسه على رصيف المحطة بالعاصمة.

- أين هو عبدالقادر?

- إنه يمارس جنونه في الغرفة المجاورة.

والجنون في عرف عبدالقادر هو الرقص الأمريكي, ذلك الذي رآه ذات يوم في فيلم (الرقص تحت المطر). ينعزل في إحدى الغرف في دار أهله بقسنطينة, ويطلق العنان للموسيقى. مقطوعة الفيلم للموسيقار جورج جرشوين يحفظها عن ظهر قلب. ورقصة الممثل جين كيلي في الفيلم يقلدها خطوة خطوة, حركة حركة, ابتسامة ابتسامة. يتصايح وحده: المطر هو الذي ينقصني. لقد رقصت تحت المطر وحدي, ولكن في الخلاء, خارج مدينة قسنطينة.

رقصت أولا في الثانوية فعوقبت. الخلاء هو الذي يصلح لإنسان مثلي ولقطعة موسيقية مثل (رابسودي إن بلو) لجرشوين.

لا بد وأن هناك علاقة بين حزنه المقيم وموسيقى جرشوين.

عندما صار الحزن بناية ضخمة مثل الإمباير ستيت بلدينغ تهدد بالسقوط تحول الرقص أو رغبة الرقص إلى بكاء في أعماق عبدالقادر.

سذاجة وطفولة بريئة. الدنيا تبدأ عند قدميه. لا يمكن أن يوجد محيط إن هو لم يوجده بنفسه وحسب هواه. ولهذا السبب كثيرا ما وقع في حبائل الشرطة ومع أناس السياسة في قسنطينة وخارجها. زميلنا هذا مجموعة حكايات. لكن أبرزها هي حكاية الحرس المدني الإسباني والجنرال فرانكو. وصف لنا مرة كيف أوشك أن يقع بين أشداق الشرطة في إسبانيا. تفسح ذات عصر مع زوجته في شارع الرامبلا بمدينة برشلونة. ثم جلس في مقهى, ومن دون أن يدري, جعلت أصابعه تنقر الطاولة. لعل الجو الاسباني الرائق هو الذي أفسح له في المجال لكي يعيش على سجيته في تلك اللحظات. وشيئا فشيئا راح يدندن لحنا إسبانيا ثم يغني بصوته الجبلي أغنية إسبانية شهيرة: فرانكو لامورتي... أي فرانكو القاتل. الناس الإسبان الذين كانوا جالسين إلى جانبه نظروا إليه ببعض الشك والارتياب. البعض منهم انسحب خوفا من حلول الشرطة بالمكان. وعبدالقادر لا يدري ما يحدث حواليه ولا مضمون الأغنية التي يرددها. قال لنا جازما: ما كنت أدري أن كلمة لامورتي تعني القتل. زوجته هي التي لفتت انتباهه. قالت له: صاحب المقهى ينظر إلينا نظرة ليس فيها ما يعجب. وتوقف عبدالقادر عن الغناء فجأة ثم قام من مكانه وهو يحمد الله. منذ ذلك الحين, انصب اهتمامه على قصائد غارسيا لوركا المترجمة إلى اللغة الفرنسية. وحفظ عن ظهر قلب عددا منها, من بينها مرثية رامون ميخياس وقصيدة الحرس المدني للشاعر فدريكو غارسيا لوركا. بين الحين والآخر, يحدث له أن يقف في قاعة التحرير الواسعة, يخطو فيها بضع خطوات ويطلق صوته:

الخيول سوداء
سنابكها سوداء
وتحت المعاطف
تتراءى قطع الحبر والشحم السوداء.

أربع سنوات دون أن تقع عينا عبدالقادر على ابنه الموجود بسويسرا. عندما تتراءى له صورته, وما أكثر ما يحدث له ذلك في اليوم الواحد, يضع القلم جانبا ويتوقف كلية عن صياغة الأخبار والتعليقات السياسية. لحظات الاستذكار هذه مقدسة. وتمر اللحظات عليه وعلينا جميعا, ثم نبصر بملامحه وقد عادت إلى حالها الأولى فنعرف أنه ملأ نفسه بصورة ابنه الغائب الحاضر أبدا.

وها هو ينطلق في الحديث: يا إخواني, هذه القعدة تحتاج إلى سي الطاهر. ونتساءل فيما بيننا على سبيل استثارته: ومن يكون هذا السي الطاهر, يا عبدالقادر? فيجيبنا بشيء من الاحتداد: سبحان الله العظيم, هو السي الطاهر الفرقاني!

ويبدو عليه وكأنه أفحمنا جميعا. يقوم من مكانه ويدور في قاعة التحرير نافثا دخان سيجارته, مرددا أغنيته المحبوبة: (يا غصن نقا مكللا بالذهب!), ويتعمد كسر اللحن, يجعله ثقيلا متباطئا, وهو يميل يمنة ويسرة كأنما هو على متن مركب. ثم يبلغ ذروة الانتشاء في ظرف دقائق معدودات ويتوقف وينظر إلى الجميع قائلا بزهو: أواه, الجلسة مع السي الطاهر الفرقاني تحتاج إلى صينية بقلاوة على متن سفينة سياحية تقطع بنا مضيق الدردنيل وتنزل بنا عبر البوسفور! هذه هي الحياة! ونسأله: وما دخل البوسفور في الطاهر الفرقاني? ويجيب قائلا: لأنه يذكرنا بأسباب الزهو والقوة. ويضرب بجمع يده على الطاولة المستطيلة: البحر الأبيض المتوسط لم يعرف الزهو والقوة منذ أن غادره العثمانيون وضاعوا في زحمة التاريخ! استنتاج عجيب لكنه معقول ومقبول في نظرية عبدالقادر.

عندما يستبد به القلق يجلس في مكانه دون حراك كأنما هو صنم بوذي. البرقيات المستعجلة نفسها لا يقرأها وهو على هذه الحال. ويظل بعض الوقت باحثا عن الاتزان في قرارة نفسه. ومن الدرج الذي يضع فيه أوراقه وأقلامه يستخرج كتاب رياضيات هو عبارة عن دروس وتطبيقات. ونعرف عندئذ أنه على وشك أن يعثر على ضالته. يختار من الكتاب تمرينا في الرياضيات معقدا جدا. رأسه بين يديه وهالة من دخان سيجارته تحيط به. يمضي به الوقت ثم يتوقف ويرتب أوراقه ويغلق كتاب الرياضيات وقد ارتسمت دلائل السرور على وجهه. يقول حينئذ: ابني الموجود في سويسرا يسألني: يا بابا, لماذا تميل إلى كتب الرياضيات المطبوعة في روسيا? وأنا أجيبه: لأنها, يا بني, تتحدث عن الأسباب والمسببات. الكتب الفرنسية تعطينا المسألة, وهي قد تعطينا الحلول أيضا, لكنها لا تقول لنا كيف ينبغي بلوغ هذه الحلول. في الجامعة, عندما كنت أدرس الصيدلة كنت متفوقا على أصحابي لأنني كنت أرجع إلى هذه الكتب بالذات.

ونحن نفهم منه أن كتاب الرياضيات باللغة الروسية ليس إلا وسيلة لاستحضار صورة ابنه الغائب في سويسرا.

وجاء وقت نسي معه عبدالقادر ذلك الكتاب. وفي بعض الأحيان كان يقوم ببعض الرسوم عن التفاعلات الكيماوية والفيزيائية بين الأوزان الذرية وينتهي به الأمر عند هذا الحد. كأنما يريد بذلك أن يستذكر أيام السعادة التي عاشها في قسنطينة, أيام كان يمارس جنونه على حد تعبيره.

لعل الموتى أنفسهم اهتزوا لبكائه في تلك الصبيحة المضنية.

بكى أمه وعذابه الطويل وبكى ابنه الغائب. كلا, ليست الهزيمة هي التي أبكته, بل هناك شيء أكبر وأشد إيلاما من الهزيمة في هذه الحياة. شعر بالإهانة في هذه الدنيا وبأنه لم ينل حظه منها.

ذلك هو سبب المطر العنيف المفاجئ.

ها نحن اليوم نبكي عبدالقادر بعد ان انتقل إلى العالم الآخر.

رجع إلى بيته على الرابعة عصرا. طلب قهوة من زوجته, ثم استلقى على سريره ريثما تحضر القهوة. عندما دخلت عليه زوجته بالصينية, كان قد ارتحل وابتسامة جميلة على شفتيه.

وها هي خطواته الهادئة تتردد بيننا في قاعة التحرير يتبعها صوته الشاعري:

في تمام الساعة الخامسة عصرا, تجمعت عناقيد الصمت!
[SIZE=3]

مرزاق بقطاش مجلة العربي فبراير 2003[/SIZE]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى