بديعة الراضي - غرباء المحيـط

ركبنا الباخرة بعد إجراءات المرور المعقدة، المسافة بيننا وبين اسبانيا تتقلص عندما تهدأ أمواج المتوسط، لم يكن على ظهر الباخرة ركاب كثيرون، هؤلاء تركناهم هناك قرب الميناء يتصيدون فرصة الهجرة سراً إلى اسبانيا.
كانت عيونهم جد يقظة، يلتفتون يمينا وشمالاً، وكأن الفضاء يضيق بهم، قال أحدهم كان على مقربة من مدخل الميناء وهو يتحدث إلى صديقه:
ـ ميناء طنجة، اصبح محضي، علاش أصحبي مانحاولوش في باب مليلية...
أجابه صديقه:
ـ هاذو ولاد لحرام سادين علينا مزيان، وحارمينا حتى من سبتة ومليلية اللّي هي بلادنا...
ـ أشوف أخويا ماينفع في هاذ شي غير حراك صحيح...
هؤلاء حالمون بمستقبل أفضل، إنهم آتون من جنوب مضطهد، لا يحملون في ذاكرتهم الصغيرة إلاّ كل شيء سيء عن وطنهم، الحرمان، البطالة، القمع، الظلام، رغم شمس الجنوب الجميلة...
تذكرت في السنة الماضية عندما حملتني غيرتي على أهل الجنوب إلى باب مليلية، لأتضامن مع إخواننا الأفارقة الآتين من جنوب الصحراء والذين زحفوا بالآلاف من أجل الهجرة سرا إلى الشمال، فارون من الجوع والفقر والمرض، بشرتهم السمراء تميزهم عن بشرة أهل الشمال البيضاء، عيونهم حمراء دامعة، وبطونهم ملتصقة مع ظهرهم، كانوا بدون أحذية وقليل منهم ينتعلها، نظراتهم حادة، هجموا على السياج الحديدي وهم يصيحون:
ـ إننا أصحاب حق.
قلت لإحدى زميلاتي التي رافقتني في رحلتي إلى غابة "بليونش":
ـ نعم إنهم أصحاب حق، وهم ذاهبون إلى هناك لاسترداد ثرواتهم التي نهبها أهل الشمال، ألم ينتزعوا أجدادهم بالأمس كرها من أرضهم، لكي يجعلوا منهم أياد لا تتعب في بناء حضارتهم، التي يفتخرون بها اليوم...
نعم إنهم أصحاب حق، ألم يستنزف الشمال ثرواتهم، من ماس وذهب ليزينوا بها متاحفهم السرية والعلنية... إذن فليتحملوا كل هذا الزحف، إنهم مسؤولون أمام التاريخ...
قالت صديقتي:
ـ ليس في صالحنا كل هذا التدفق البشري...
ـ فلنجعل الأمر في صالحنا...
ـ كيف؟
ـ ألاّ نلعب دور الشرطي لحماية أهل الجنوب...
ـ الأمر سيصير فوضى...
ـ فليكن.. إننا معنيون ، ألم يستعمروننا، وقتلوا أطفالنا، واغتصبوا نسائنا، وأهانوا كرامتنا، ودنسوا أرضنا؟ فليكن إذن.. فليكن...
تركت حديث صديقتي، وركضت وراء إخواننا من إفريقيا جنوب الصحراء، صحت بصوت عال:
ـ ازحفوا، انتشروا، سندافع عن حقنا بسواعدنا لن ترهبنا هراوات البوليس المغربي، ولا رصاصات الحرس الإسباني، ازحفوا، حرروا مدينتنا من الاستعمار، فلتكن مليلية أولاً.. ثم سبتة.. ثم الجزر الخالدات.. ازحفوا ولنزحف جميعا، لم يعد الأمر يتحمل التأخير، وهذه أجسادنا أقوى من قنابلهم، وأسرع من دباباتهم، ازحفوا ستطأ أقدامنا أرضنا، وسنكون فاتحين جدداً، سنعيد مجدنا...
ـ ازحفوا.. ياأهل الأندلس قوموا من مقابركم، ولتنهضوا جميعاً، تأبطوا كتب التاري، احملوا كراساته، كما كتب في مخطوطاتكم، أو احملوا أسوار الأندلس واجعلوها أسواراً لهذا المكان.
اليوم سيكتب تاريخ جديد.. لينكسر كل هذا الصمت الذي طوق أعناقنا، وخنقنا، وكتم أنفاسنا حتى صرنا دمى تنفخ فيها الريح.
كررت الصياح حتى أغمي عليّ من جراء ضربة وجهها لي أهل الحال على رأسي...
كانت مياه المتوسط زرقاء، صافية، وتبدو الجزيرة الخضراء منتصبة في مقدمة اسبانيا، وكلما التفتت تبدو طنجة منتصبة في الجنوب، لكن سبتة ومليلة تبدوان في منحدر مغتصب، تغوص في أحشائهما أحذية العسكر الإسباني، ويخترق جسديهما علم يدنس طهارتهما عندما كانت المدينتان منذ مئات السنين نائمتين هادئتين تعانقان مغربيتهما بعشق كبير...
وصلت الباخرة إلى الجزيرة الخضراء، استغرق رصوها ساعات، دخل إلى الباخرة حرس بلباس أبيض وقبعات زرقاء، بدأوا يتجولون في الباخرة وينظرون بتفحص كبير للركاب...
نظرت إلى عيني أحدهم، كانت خضراوان، ذكرتني بإحدى قطط الميناء السمينة التي اعتادت التردد كل صباح على الميناء لترصد القوارب الآتية بالأسماك من أعماق البحر، قلت مع نفسي إن صاحب العينين الخضراوتين ذو الجسد الثخين اعتاد على أكل أسماكنا...
هؤلاء لم يكفيهم سرقة مدننا أمام صمت العالم، بل هم يسرقون مياهنا وثرواتنا...
أكيد أن السمين يعرف أعماق بحارنا، وهو يدري جيداً حجم ما يسرقه...
بدأ فضاء الباخرة يمتلئ بالقطط السمينة، كل العيون كانت تنظر إلينا، أحسست بدوران ثم أصابني غثيان حاد، انتبه أحد زملائي إلى وضعي فدلني على الحمام المجاور للصالون الواسع للباخرة الإسبانية.
حملنا أغراضنا، بعد تفتيش حقائبنا، لم تسلم من ذلك حتى مناطق حساسة من أجسادنا، قلت للمرافق الذي أتى لأخذنا في حافلة كبيرة إلى فندق المدينة:
ـ لماذا كل هذا التفتيش، ألسنا مدعوين رسميا إلى مدينتكم؟
ـ إنها إجراءات روتينية...
ـ تخص جميع العباد، أم العباد الذين مازلتم تستعمرونهم بكل جشع وظلم؟
نظر إلي المرافق في استغراب، لم يجب، وظل يرمقني بنفس النظرات طوال تواجدنا في اسبانيا...
وضعنا أغراضنا في الفندق، نزلنا إلى أحد المقاهي المجاورة التي تظم أكبر التجمعات للمهاجرين، كان زملائي تواقين إلى معرفة ما يحدث لجاليتنا عن قرب دون الإكثرات بالموضوع الذي أتينا من أجله على حساب الإسبان بتعاون مع إحدى التنظيمات الجمعوية المهتمة بالحوار بين الضفتين...
كان المقهى المجاور يعج بالعرب الفقراء، رائحة الشاي بالنعناع تفوح عن بعد وأم كلثوم تغني <<بعيد عنك>>...
قال زميلي:
ـ إنها معشوقة الجماهير
تذكرت حياتي الجامعية، عندما كنت بعيدة عن أهلي بمئات الكيلومترات كانت أم كلثوم تؤنس وحدتي، وتغذي روحي:
ـ <<بعيد عنك.. حياتي عذاب، ماتبعدنيش بعيد عنك>>
كل الأحلام الصغيرة والكبيرة تختزل في كلمات، يضفي اللحن والأداء عليهما قيمة الفن الراقي والرائع...
قلت لزميلتي:
ـ أكيد أن روح هؤلاء القابعين في هذا المقهى كأجسامهم، الجسد والروح واحد، كلاهما في خانة واحدة، البعد والغربة وأشياء أخرى سنعرفها من حكاياتهم، نعم هؤلاء يملكون حكايات مستمدة من واقعهم لأن أغلبيتهم جاؤوا عن طريق الهجرة سراً، إلى بلد كان يشكل لهم الفردوس المفقود...
جلسنا في طاولة مجاورة، طلبنا كؤوس الشاي المنعنع من صاحب المقهى المغربي الجنسية، بدأنا نقترب من زبناء المقهى، وما كاد يعرف هؤلاء أننا صحفيون حتى التفوا حولنا:
ـ بلاد السبليون، فيها الفلوس، ولكن خصك تجي بوريقاتك...
ـ البوليس السباليوني داير فينا حالة...
ـ الباطرونا في هاذ البلاد باغين يستغلونا...
ـ كيدونا للفارم كالحيوانات وكيخلصونا بنص الطاريفا...
ـ كون عرفت بلي غادي يوقع ليّ هاذ شي مانجيش لهاذ البلاد، أنا ستة أشهر وأنا بلا خدمة، كنعس في الزنقة وكناكل من الطاروات ديال الزبل...
ـ كيكولو علينا <<الماروك خرا>>
ـ كون عرفت بلّي غنتشرد في بلاد السباليون، مانضيعش رزقي ونعطيه للحراك...
انهالت الكلمات على رأسي، بدأت أبحث في الوجوه عن أهلي في المحيط، قلت لأحدهم:
هل هناك مكان آخر يوجد فيه "الحراكة" المغاربة؟
قال زميلي:
ـ هناك ضيعات كثيرة يوجد فيها المهاجرون السريون، وأصحابها يستقبلونهم بحذر، وفي أحيان كثيرة يخفونهم عن أنظار البوليس الإسباني، إنهم هناك يشتغلون بدون توقف، وعندما يتسرب التعب إلى أجسادهم، يلجأون إلى ممرات الأراضي المغطاة بالبلاستيك حيث يلفون أجسامهم ببقايا البلاستيك وبعض الكارطون الذي يجلبونه من صناديق القمامة...
كنت استمع إلى زميلي وأنا أرى في وجوه هؤلاء المرميين هناك وجهي حمان وحمدون، لا شك أنهما جاءا إلى إسبانيا هربا من جحيم المحيط، هنا ليست الجنة، هما يعتقدان ذلك، تذكرت يوم قال لي حمدون:
ـ مصّاب شي حركة لاسبانيا، تشوف فيا شي زعرا، خوك يولي اسباليوني، عندو الدار والطوموبيل، وحتى وليدات زوعر كيشبهو لمامهم...
كان حمدون يحكي أشياء غريبة عن مستقبله، ربما حبات القرقوبي تفعل به ذلك، أو ربما قسوة الزمن الرديء جعلته يهرب إلى الأمام الذي يرسمه في مخيلته الصغيرة، يبني فيه بيتا ويأتي بأنثاه وأبنائه المفترضين، عالم ملكه، يستطيع أن يعيشه مادام باستطاعته الهروب من واقع مرير...
في الأخيدو، كان هناك مغاربيون، أغلبهم من الجزائر والمغرب، وفي الأخيدو لا أحد يتحدث إلاّ عن "الهجرة" وما يترتب عنها من واقع أليم ومرير...
الإسبان يقولون إنهم ضحايا هذا الزحف البشري الذي لا يتوقف، والمغاربيون وآخرون في إفريقيا جنوب الصحراء يشتكون من القهر والعنصرية والمعاملات السيئة من الدولة الإسبانية والمجتمع...
لا أحد هنا ينسى أحداث الأخيدو التي عبّرت عن صدام حقيقي بين جنوب زاحف إلى الشمال بدوافع شتى أهمها الفقر، وشمال يعتبر أنه ليس مسؤولا عن معاناة أهل الجنوب.
بين الشمال والجنوب تاريخ وأحداث واستعمار واستغلال مباشر وغير مباشر، وإشكاليات كبرى لا يمكن أن تحل بالتموقع داخل الذات...
قال زميلي:
لنتخلص من هذا المرافق الإسباني المزعج الذي لا يقودنا إلاّ عند رؤساء البلديات والعمداء ورؤساء البرلمانات الجهوية، هؤلاء الذين يحبون الحديث إلى المكروفونات، ويهمهم كثيراً كتابة أسمائهم بالبنط العريض في جرائدنا، لنفعل مثلهم ولنبحث عن النقط السوداء، التي ستميط اللتام عن الوجه الحقيقي في التعامل معنا، ولا شك أن أهل الشمال يخافون من زحفنا نحوهم، ليس بأجسامنا فقط، بل بخصوصياتنا وأفكارنا، وأقلامنا التي تقول الحقيقة ولاشيء غير الحقيقة...
كانت خطتنا أن يبقى نصف الوفد الصحفي منضبطا لبرنامج من دعونا إلى بلدهم لتلميع صورتهم عند أهل الجنوب، والنصف الآخر منا يذهب للبحث عن الضائعين من أهلنا في هذا "الفردوس المفقود"...
كنا ثلاثة صحفيين، ذهبنا ليلا إلى الضيعات المجاورة صحبة أحد المهاجرين المغاربة، وصلنا في وقت متأخر من الليل، كان البرد قارصا، لمحنا عن بعد أمتار ضوء نار مشتعلة، كان الضوء خافتا في حجم الأخشاب القليلة التي وضعت بعناية لتدفئة المكان، وفي شكل دائري كان هناك عشرات الشباب يلفون أجسادهم بمعاطف ممزقة، جعلت أجسادهم منتفخة، وكأنها صنعت من أكياس الدوم، قساوة البرد جعلتهم يبحثون عن أي شيء يسترون به أجسادهم النحيلة...
وجدنا أنفسنا وسطهم، كانت بأيدهم قنينات، قال مرافقنا إنها من الخمر الرخيص جداً في اسبانيا...
لم أصدق المشهد، إنه نفس مشهد المحيط، لاينقصنا هنا سوى الصخر والبحر... بدأت العيون تبحث عن أشياء ضائعة، قال أحدهم:
ـ هاذا حالنا... باغيين نمشيو بحالنا، ولكن ماعندناش لا فلوس الطيارة ولا الباخرة...
شرع زملائي في تسجيل حوارات معهم، لم يكن الحوار همّي، بل سألت أحدهم:
ـ هل تعرف شابين وصلا الأسبوع الماضي إلى اسبانيا سرا؟ً
أجابني:
ـ وما اسمهما؟
قلت له:
ـ حمان وحمدون...
ـ لا..لا أعتقد أن هاذين الاسمين ضمن اللائحة التي وصلت هذا الأسبوع من المغرب...
آه يا حمان أين اختفيت صحبة حمدون، ربما ضعتما في هذه المدينة المتوحشة، ألم يكفيكما غربتكما في المحيط، جئتما إلى هنا لتعيشا غربة أقسى...
آه ياحمان لو أعرف مكانكما لأخذتكما إلى بلدكما لتحتجّا هناك، وتصيحا بأعلى صوتيكما ولتقولا بكل حرية، إنكما تريدان حقكما في العيش الكريم، هناك يا حمدون بلدكما، وهنا بلد آخر، لن تعيشا إلاّ قهراً مزدوجا، وهناك بإمكانكما أن تقبّلا الصخر، وأن تحفرا بأظافركما غضبكما في رمال المحيط، هنا لن تستطيعا فعل ذلك...
أحسست بدوران، عندما قفز إلى ذهني إمكانية أن يكون حمدون وحمان في قاع البحر وفي بطن الحوت، أوربما جسدان هامدان ومشوهان على صخور البحر الفاصل بين الضفتين...
لا..لا حمان وحمدون لا يستحقان كل هذه القسوة، لا هذا مجرد خيال، ربما هما الآن في الضيعات المجاورة لمدينة ألميرية، أو ربما رحلا إلى شمال اسبانيا، هناك بإمكانهما أن يختفيا عن أنظار البوليس الإسباني...
قال زميلي:
ـ لقد انتهينا من تسجيل الحوارات، فلنعد إلى الفندق، لاشك أن المرافق الاسباني يبحث عنا...
دخلنا الفندق، كان المرافق يجلس في الصالون المقابل لمنصة الاستقبال، وما أن رآنا حتى هرع نحونا:
ـ أين كنتم، لم نتفق على هذا الهروب...
لم نجبه، وأخذ كل واحد منا مفتاح غرفته، وصعدنا معاً في المصعد الأنيق جداً دون أن ننبس بكلمة واحدة...
في الساعة الثامنة من اليوم الثالث، نزلنا إلى المطعم، أفطرنا مع بعضنا كان زملائي يحكون عن البرنامج المميز والمسطر بعناية والذي وضعته جمعية اسبانية بتعاون مع الوزارات الجهوية المكلفة بالحوار شمال جنوب، وعن حفاوة الاستقبال الذي خصهم به المسؤولون الاسبان...
كنت استمع وأنا أنظر إلى باقي الزملاء الذين رافقوني في رحلتنا الليلية إلى الضيعات المجاورة، لم نقل شيئا لأن المرافق كان يتابع أحاديثنا عن كتب، اسبانيته الدقيقة لم تمنعه من فهم عربيتنا، لأنه من عشاق الذهاب إلى المغرب مرات عديدة في السنة، وما الذي سيمنعه، ليس هناك لا تأشيرة ولا عائق مادي أو معنوي، وباستطاعة هؤلاء الاسبان أن يشرفوا في أي وقت أرادوا، وكل مدن المغرب مدنهم، وحتى بيوت البسطاء هنا ترحب بهم...
إنهم الملائكة الآتون من الشمال، فليحجوا إلى المغرب ليلا أو نهاراً، وبإمكانهم أن يقاسموننا خبزنا وشاينا الساخن الذي نقدمه لهم عربونا على محبتنا لهم وطمعا في كسب صداقتهم، أليسوا ورثة الفردوس المفقود...
هؤلاء نتبرك بزيارتهم، أو ربما أنقدوا أبناءنا من الضياع، وبمجرد أن نكسب ودهم وصداقتهم فإن <<الوريقات كيوجدو>> كما قال علال صاحب الدكان المجاور لبيتي في المحيط...
كان البرنامج اليومي مكثفا، زرنا عمدة المدينة، ورئيس البرلمان الجهوي، وبعض الجمعيات، قال هؤلاء كلاما كثيراً عبروا من خلاله عن المشترك الكبير بيننا وبينهم، ثقافتنا واحدة، وأسلوب تفكيرنا فيه الكثير من نقط اللقاء، بل حتى طريقة الطهي رغم الاختلاف البسيط بيننا، قالوا إنهم يشبهوننا، فيهم أمازغيون بعيون خضراء وشعر أصفر، وفيهم عرب ببشرة سمراء وعيون سود، قال لي أحدهم أني أشبه حبيبته التي أحبها حد الجنون، لأن جمالها الأندلسي أفقده صوابه، حدث ذلك عندما كان شابا، قلت له:
ـ أخاف أن يحدث لك ذلك وأنت شيخ هرم، لأن طريقة كلامك تؤشر على أنك تريد إعادة المشهد من جديد...
ضحك زملائي من جوابي، لكني لم أكثرت، كان كلام المسؤول لا يعنيني وأنا أعرف قبلا أنه منافق وأنه يعرف الكثير عن أهلنا الضائعين هناك في الممرات الجانبية لضيعات الاستغلال والبطش الاسباني.
في اليوم الموالي كان رجوعنا إلى طنجة عبر باخرة مراكش، جاليتنا القادمة من العديد من المدن الأوربية، تختلف كثيراً عن السواح الأوربيين الذين اختاروا نفس الباخرة، الأمر يختلف في لحظة العبور، فأهل الشمال ليسوا كأهل الجنوب، بينهما مسافة في كل شيء، وأهم هذه الأشياء معاملة الحرس الإسباني لهم، وحتى البوليس المغربي...
إنها الديوانة كما يسميها المغاربة، كل شيء قابل للتفتيش والعابرون متهمون حتى تتبث براءتهم...
قال زميلي:
ـ إن أغلب هؤلاء الشباب الأوربي، الآتي إلى شمال المغرب، يبحث عن <<الدوخة>>، الكيف والحشيش يوزع بدراهم معدودة والدرهم ضعيف أمام الأورو، وهؤلاء لا يهمهم لا متعة الفنادق ولا شمس البحر، إن متعتهم تكمن في لفافة من الحشيش المهيء بالطريقة المغربية، وعند ذلك أراك للنشاط.. الشطيح والرديح حتى مطلع الشمس..
قلت لزميلي:
ـ فعلا لقد رأيت هؤلاء بكثرة في شفشاون وأصيلا وطنجة وفي العديد من فضاءاتنا الجبلية والبحرية في شمال المغرب، وجزء منهم يتجول ليلا في مدينة مراكش، وكأنهم يبحثون عن شيء، هم متيقنون أنهم سيجدونه أخيراً، وذلك هو مبتغاهم الحقيقي من رحلة لا تكلفهم الكثير مادام سرير نومهم ملفوفا وموضوعا بعناية فوق ظهورهم...
جرائد المغرب في ذلك اليوم أشارت بالبنط العريض في الصفحات الأولى إلى أن البرلمان المغربي دعا إلى إحداث لجنة لتقصي الحقائق حول أباطرة المخدرات في المغرب، في الأسبوع الموالي كان الشمال شبه جامد، كل المشاريع التي شكلت عمارات سكنية في قلب المدن الشمالية أصبحت جسداً بدون حركة، الإسمنت الأسود ازداد سواداً وبعض الآلات الكبيرة التي تحمل الآجور توقفت في الأدوار الأولى للعمارات الشامخة، حالة الصدأ واضحة للعيان، كانت طنجة تجسد الوضع بامتياز، وصحافتنا تترصد الحالة، وأهل الشمال يصيحون في المقاهي والمتاجر وممرات الأسواق:
ـ لا يمكن للشمال أن يعيش بدون حشيش...
ـ الحشيش رزقنا، عكازنا الذي نتكئ عليه...
ـ حقول كتامة رئتا الشمال التي يتنفس بهما...
ـ الكيف لا يقتل... إنه اختيار، والحلال بين والحرام بين، والطريق بينهما مختلفة، فإما أن تكون حشاشا تنمي منطقة بكاملها وأنت تحمل الحشيش على أكتافك إلى عشاقه، وإما أن تترك المنطقة جامدة بكاملها...
إنه الظلام، حالة كبرى من التردي الاجتماعي تغرق شمالا أهمل حتى شمت رائحة إهماله عن بعد، أي شمعة يمكن إشعالها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه...؟
قلت لجليسي:
ـ ترى ماهي البدائل؟
قال جليسي:
ـ البديل يحتاج إلى إرادة سياسية قوية، وعند ذلك يمكن نفض الغبار على أشياء كثيرة تحتاج إلى ذلك قبل أي وقت مضى، لقد أصبحنا نقطة سوداء في الضفة الجنوبية، والآخر يعتبرنا مسؤولين عن كل ذلك الضياع الذي صنعه أباطرة المخدرات هنا وهناك وفي مناطق كثيرة من العالم...
قلت لجليسي:
ـ إنها عولمة المخدرات...

.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى