زياد الحكيم - "كل إنسان" نموذج للمسرحية الأخلاقية

"كل إنسان" هي أهم مسرحية أخلاقية وصلت إلينا من العصور الوسطى. لا نعرف من ألفها في أواخر القرن الخامس عشر أو أوائل القرن السادس عشر. واعتقد كثير من النقاد على مدى مئات السنين أن المسرحية ذات أهمية تاريخية فحسب. ولكن دبت الحياة فيها من جديد عندما عرضت في المسارح في بداية القرن العشرين، وأصبحت منذ ذلك الحين المسرحية الأخلاقية الأكثر مشاهدة على خشبات المسارح العالمية. واكتسبت قدرا كبيرا من الإطراء النقدي نظرا إلى الرسالة الأخلاقية العميقة التي تقدمها بكثير من الظرف واللطف ونظرا إلى الشخصيات البسيطة والجميلة والحية فيها.

بين أيدينا أربع طبعات مختلفة لمسرحية "كل إنسان" وصلت إلينا من بدايات القرن التاسع عشر. وفي الفترة ما بين ظهور هذه الطبعات إلى بدايات القرن العشرين كان ينظر إلى المسرحية على أنها تحفة تاريخية فحسب. وطبعت في مجموعات المسرحيات التي سبقت المسرح الإليزابيثي كتأريخ للأدب المسرحي الانكليزي. ونقلت إلى لغات عالمية أخرى. وحظيت بإقبال شديد عندما عرضت في مهرجان سالزبورغ عام 1911.

مثل أي مسرحية أخلاقية من العصور الوسطى تقدم مسرحية "كل إنسان" درسا من خلال أشخاص يمثل كل واحد منهم صفة مجردة. وتركز المسرحية على الشخص الرئيسي واسمه "كل إنسان"، وهو رجل ثري يستدعيه الموت فجأة للمثول أمام الله لمحاسبته. وفي رحلته الأخيرة يتخلى عنه كل أهله وأصحابه ولا تفيده ثروته في شيء. وحتى "الأعمال الصالحة" تجد نفسها اضعف من أن تتمكن من مرافقته لأنه أهملها سنوات طويلة. ولكن "الأعمال الصالحة" تنصحه بأن يلجأ إلى "المعرفة" وهي تمثل الوعي بالخطيئة والاعتراف بها. وترافقه "المعرفة" في رحلته إلى "الاعتراف" الذي ينصحه بالتوبة. ويقبل "كل إنسان" النصيحة، ويعمل على تنفيذها، ويشتد بذلك عود "الأعمال الصالحة" بحيث تتمكن من مرافقته في رحلته إلى الخلاص الروحي. ويرافقه على الطريق كل من "الجمال" و"القوة" و"الفطنة" و"الحواس الخمس". ويتبرع "كل إنسان" بثروته في سبيل الخير. ويقبل بنصيحة "المعرفة" و"الفطنة" فيدخل الإيمان إلى قلبه. في الوقت نفسه تتحدث "المعرفة" و"الاعمال الصالحة" في أمر فساد القساوسة. وعندما يقترب "كل إنسان" من قبره يبتعد عنه جميع مرافقيه باستثناء "المعرفة" و"الأعمال الصالحة". وعند الخاتمة، تتراجع "المعرفة" في الوقت الذي تنزل فيه "الأعمال الصالحة" إلى القبر مع "كل إنسان".

الهدف من هذا العمل، كما هو واضح، هو توجيه المتلقي توجيها دينيا وأخلاقيا في طرق التعامل مع ربه ومع الناس من حوله. ويرى بعض النقاد "كل إنسان" أنها عمل مسرحي يعالج دراميا فكرة الموت كما كانت الكنيسة الكاثوليكية تراه في العصور الوسطى عندما يتخلى الإنسان عن كل ما في الحياة الدنيا من متاع ويعد نفسه للخلاص. غير أن الحديث بين "المعرفة" و"الأعمال الصالحة" عن فساد القساوسة ربما يشير إلى موقف حركة الإصلاح البروتستانتية أيضا. كما أن تخلي جميع الأصدقاء عن "كل إنسان" ما عدا "الأعمال الصالحة" يشير إلى الاعتقاد الذي كان سائدا في العصور الوسطى ومفاده أن المرء يجب أن يجرب الناس قبل أن يتخذ منهم أصدقاء.

واعتبرت مسرحية "كل إنسان" منذ عروضها الأولى في بداية القرن العشرين أروع مسرحية أخلاقية من العصور الوسطى. وبحث النقاد بحثا مستفيضا جوانب كثيرة منها بما في ذلك أصولها والعقيدة الدينية التي ترتكز عليها وأسلوبها. يقترح كثير من النقاد أن أصل "كل إنسان" يعود إلى مسرحية هولندية بعنوان Elckerlijc بل إن البعض يذهب إلى أبعد من هذا فيقول إن "كل إنسان" هي ترجمة للمسرحية الهولندية نظرا إلى التشابه الكبير بين العملين. وعن الشكل الدرامي للمسرحية يقول بعض النقاد إن العقيدة الدينية المقدمة تحدد شكل المغزى الأخلاقي وتساعد على وضع المسرحية في المكان الذي تستحق كأفضل مسرحية أخلاقية في الأدب الانكليزي. واهتم بعض النقاد بشكل خاص بالمغزى الأخلاقي للمسرحية. وقال بعضهم إن أهم ما يمكن للدارس أن يفهمه هو أن العمل الصالح في خاتمة المطاف هو مخلص وممكن. وامتدح البعض الشعر الذي كتبت به المسرحية لوضوحه ومباشرته. ويتفق معظم النقاد على أن رسم الشخصيات رسما حيويا وممتعا والشعر الواضح البعيد عن الزخرف وكذلك الأفكار والصور والقصة كلها تجعل من "كل إنسان" عملا فنيا لا نظير له.


[email protected]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى