محمد عبد الرحمن يونس - من تداعيات امرأة هزمتها السموات والأرضون والبحار والحروب

لدفء عيني تلك المرأة البعيدة البهية تغني الحساسين مواويلها جزلى.

أيتها الحساسين ، قلبي مزقته أشرعة الوحشة ، و التهمته حيتان المحيطات
كم أنا ثكلى . قلبي منتفخ بالمدى والأحزان. أنا الغريبة الشريدة ، والعالم كله خراب وحشي.
انا لقمة سائغة تأكلني الأحزان ومنافي المدن البعيدة.
كم حلمت في حياتي أن أعشق نورسا وشراعا، وأبني كوخا في جزيرة نائية.
امتدت أحلامي ،وكبرت.. استطالت، ما استقام لي حلم ولا رمح.
اشتعلت الحروب في مرافئ مدني وقلبي ، حرقتني .. هاجمني التتر من كل حدب وصوب، ما استطعت أن أدافع عن نفسي
توسلت المدن والنوارس والرجال الأشداء أن يمنحوني سيفا أهزم به أحلامهم، وأحلام الزمن الوحشي المرّ، ما منحني أحد أي سيف،
بحثت عن ظل آمن يمنع عني قيظ الحرائق ، والهمج والتتر، ما وجدته, درت أسواق النساء والبزّ والحرير واللؤلؤ والسيوف ، ما وجدت إلا الصدأ .
أنا الغريبة الثكلى ، الواحة الظامئة، وهم الأوغاد الذين احتكروا منابع المياه، وسدوا الآبار . أنا الحزينة الثكلى التي نادت البراق لاهثة مسترحمة : (ليت للبراق عينا فترى ما ألاقيه من بلاء وعنا). ما رد علي أحد ، لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا استيقظ رجل.
كم أنا سروة مفجوعة، ونخلة حزينة، قلبي هذا الذي يتسع للكون والمرافئ والمدن صار أضيق من ثقب إبرة.
ظهري الذي ردّ صخور العالم صار أضعف من قشة . تمددت في الفراغ الوحشي، بحثت عن عيني رجل وقلبه ، راقبت الرجال جميعا ، ما وجدت عينا واحدة بهية، وما وجدت قلبا واحدا يتسع لأحلامي وصباباتي. كم أنا سروة حزينة , أعرف أني مهزومة ، أعرف أن الأوغاد الذين اشتروا البحار والهواء والشموس ، حرقوا كل نخيل أبائي وأجدادي، ثم استولوا على سيوفهم ورماحهم، و باعوها في أسواق النساء والحرير، ثم اشتروا بها الجواري والعاهرات والمومسات.
استصرخت زماني وتاريخي وأرضي وصحرائي وبحري وسمائي ونخيل أجدادي ، وخوابي خمورهم المعتقة ، ما رد علي أحد .
أنا امرأة ثكلى ، أنا أم بلا ولد ،أنا امرأة بلا زوج، أنا أخت بلا أخ، أنا صاحبة البلح والشهد والعسل ، وهؤلاء التيوس والدببة لا يعرفون قيمة بلحي وشهدي .
شمسا كنت وقمرا ، وبحرا كنت ، وسفينة . ، ما اكتشف جمالي فرد واحد في هذا العالم. ملأت الحقول حصيدا بهيا ، حصدوني ، أكلوني، تدفأوا بي ، كسوا عريهم ، ثم هجروني كم هم قساة ناكرون جاحدون!!!
سافر أبنائي ، سافرت أمي وأبي وأخي،و زوجي. سافرت نجوم حياتي كلها ، توسلتهم جميعا :أنا الثكلى خذوني معكم،
سأظللكم بظلي الوارف، سأبيع عقودي وسفني وعقارات والدي، ومزارعه كلها ،وأهبها لكم.
لكنهم كانوا منهمكين معربدين، في مغازلة الجواري . ما سمعني أحد، ما رضي أن يصحبني أحد.
الليل طويل كئيب حزين، يطويني بطوله ، ( وليل كموج البحر) . لست الوحيدة الحزينة في هذه الحياة، ألف شاعر ومغن وتروبادور حزين مثلي ، نعم حزينة أنا، وحزني أشد فتكا من النمور المفترسة ، حزني وحش يفترس صباباتي ،ويحرق بيارات والدي، وكتبه الصفراء، وكل فلسفاته حول الغزل الصوفي والفلسفة الصوفية والشيوخ والمريدين.
أنا مستعدة أن أتخلى عن كل طموحاتي في الاستيلاء على الحلقات كلها ، وأسلّم زمام حلقاتي لأي مريد في هذا العالم شرط أن يهبني سيفا وشراعا ، ويأخذني معه. ما قيمة الحلقة بدون شيخ صادق أو مريد نبيل .
أنا النجمة والسروة والصفافة، والأحلام الجامحة البعيدة، أتخلى عن كل أحلامي إن وجدت مريدا نبيلا له عينان شفافتان، وجناحا نورس، وسيف قادر أن يرفعه في وجه طاغوت أو سفاح أو مغتصب .


أ. د. محمد عبد الرحمن يونس
جامعة ابن رشد في هولندا - كلية الآداب العلوم الإنسانية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى