بنسامح درويش - هباء خاص

ليس لي من كينونتي سوى فخاخها.
وليس للمر المعتم الطويل في سيرورتي الخاصة سوى دلالة واحدة: غمد الهاوية.

-1-
إن لم تخنّي جمجمتي هذه، المحشوّة بالتراب ورخويات الأرض، فإنني أجزم أن هتاف الحرية كان آخر ما التقطتِه أذناي وهم يعبرون بي الممرّ المعتم الطويل، وأجزم قاطعا أنني في تلك الفجوات القصيرة التي كانت تتخلل غيبوبتي، أستطعت أن أرتب خلاصاتي في رفوف الذات ترتيبها النهائي، وأن أزين شرفات الروح بما طاب من مفاهيمي التي ربّيْتُها بين جوانح غيْهبي ، احتفالا بالحلول المطلق في العتمة المقدسة.
إن لم تخنّي جمجمتي ، فإنني تركت شعبي يهتف بالعدالة.

-2-
عدا تلك الارتجاجات التي كانت تصرّ لها عظامي صريرها المعهود من جرّاء مرور دابّة أو دبّابة جنب أو فوق قبري، لم يعكّر عليّ أحدٌ موتي الوثير، ولم يجرؤ لا إنس ولا ملك ولا جان من وضع جزمته مباشرة فوق جمجمتي بمثل هذه الفظاظة، لأفتح محجريّ على آمرِ فظّ، أخضر البذلة داكنها، غليظ القسمات، يأمرني بالوقوف/ التفكك، بنبرة جافة أعادتني رأسا إلى ردهات الممر المعتم الطويل، فحركت سلاميات يدي، لأمسح محجريّ من عمَش المفاجأة ، فانفصلتْ عني عظام أصابعي، ثم استأنفتُ موتي، لكن الجزمة نفسها عادت مرة ثانية لتخلخل جمجمتي بشكل أكثر وقاحة، ليخبرني الرجل بضرورة الالتحاق فورا بالمقاطعة الرابعة...
لأمر يهمني.

-3-
بضبط رميمي .
وقليل من رباطة القفص الصدري، أقدر أن أخمّن ما يجري..
بترابي الوقّاد، وحشراتي الوضاءة ، وديديان جمجمتي الوثابة، أستطيع أن أستنفر غريزة الزمن في عظامي ، وأنتزع من سلطان العدم هيولى الذاكرة، وبعض الدوال اليابسة الأحشاء تمكّنُ رميمي من مفاوضة العتموت، وأستطيع شيئا فشيئا أن أستعيد دغدغة الديديان ، فخدر الموت، فدفْء الهاوية ، فالممر المعتم الطويل...
لا بدّ لي من منفذ على الهاوية.
لا بد لي من ترعة تفضي بي خلل هذا الغياب الخاثر إلى رشد السرد: الممر المعتم الطويل.
أستطيع أن أخمّن أن هذه المقبرة التي أرقد فيها قد أصبحت دائرة انتخابية ، يتمتع موتاها بكامل حقهم في ترك أسمائهم – من بعدهم – على قيد الحياة، وحفظ بطائق هويتهم من التعفن في خزائن حديدية بالمقاطعة الرابعة، حتى إذا نودي للاقتراع نهضوا خفافا من موتهم وتقدموا نحو صناديق التصويت عازمين على تجديد الثقة في الوزير.
وليس هناك في أرجاء المقبرة أجدر بالثقة أكثر من معالي الوزير.
فهو يتمتع بشعبية منقطعة النظير في مقبرتنا، يتفقد موتاها ، ويشعل شموع ضريح وليّهم كل عام ، ويدْهن عظامهم بالوعود، ويدافع عنهم تحت قبة البرلمان، ويدعو إلى إشراكهم في شؤون البلد، ويرفع أكفّ الضراعة إلى عدسات مصوّريه داعيا لموتاه المخلصين برَغَد الغياب وطول الموت.
وأستطيع أن أخمّن من دون تشويش كبير أن اسمي هو: أمين طحّان.

-4-
فجأة فارت الرعشة في عظامي ، وتفتّقت ْمن التراب المترسب في خواءاتي غرائز بدائية متطاحنة، وسلائق متشابكة، واكتسح الصحو مفاصلي، وأينعت في هبائي الخاص فكَر مشوّشة ومعاني متضاربة، وانبثق لي من ديْجوري الحميم مخيال دافق، ونبتت لي على حوافّ الغياب المطبق بإحكام عوالم متنافرة، خمّنت من تلقاء وحشتي أنها تخصّني ، فشرعت للتو أمارس وجودا فجائيا ، وجودا مباغتا ، من دون أن أتبين لأمري مسلكا واضحا، ولا حتى من دون أن أستكين برهة إلى كينونتي الخُلبيّة لأمحّص شؤوني وأختبر الوجود نفسه على محك العدم، وأحطّ هواجسي ومساءلاتي ووساوسي – التي لم تكن قد تشكلت بعد – كتلة من خلجات متماسكة في ذلك البرزخ المهول الفاصل بين الحقيقة والوهم...
اندفعت بتلقائية نحو كيان مؤكد .
نحو مغامرة مؤكدة.
فاعتراني أول ما اعتراني ارتباك جارف، وقمّطت عظامي دهشة الانبثاق الأول من ضلوع الظلمة، وكان أول شعور حقيقي ينبع في كياني الطارئ مزيجا من التمزق والتهافت والضياع والتطاحن والتنازع بين رغبات متباينة من أصلها، ومتنافرة من أصلها أيضا، فوددت أن أباشر كل أبعادي دفعة واحدة، وفي نفس الوقت وددت أن أكون وأن لا أكون، أن أموت وأن أحيا ، أن أحب وأن أكره ، أن أضحك وأن أبكي ... وددت الشيئ وضده في نفس الآن.
ولم يكن ثمة سوى منفذ واحد لضبط التوازن بين الدفقات المتناقضة: الممر المعتم الطويل ، الفاصل القطعي بين الحياة والموت.. فتثاءبتُ لأول مرة .. وارتجلت نهوضي،
وقررت أن ألتحق بالمقاطعة الرابعة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى