توفيقي بلعيد - قهوة أول الفجر

الليل يغطي، بردائه الأسود المثقوب بالمصابيح والنجوم، مربعات أسمنت هذه الغابة النائمة على الدوخة والجوع وبرك القيء والخوف… يقترح بأدب جم ثم يصر (ح )الأصغر سنا، بعد ليلتنا التي مرت سريعا، على شرب كأس قهوة لطرد ماتبقى من رذاذ الدوخة، من على دماغه الذي لم ينفذ صبيب النبيذ لأديم صحوه الصخري إلا بصعوبة شديدة. يهلل كافكا الذي انتهى من خطبته حول تفاهة الجلسة، التي لم تخرج عن استهلاك طعام يكفي قبيلة جوع ببلدان الجفاف الدائم.. وافق عازف العود، الذي كان يصاحب قراءتي الشعرية التي كانت تضيع في الصخب، على الاقتراح.. (ح)الأكبر سنا، الذي التحق بجلستنا بعد أن صلى العشاء، لبس حذاءه وأسرع الخطى نحو السيارة، جلس كطفل كبر قبل الأوان وراء المقود… بصعوبة وافقت (ح) الأصغر سنا على مرافقة هذه الكتيبة من الدوخة والجنون للخروج نحو المجهول في هذه الساعة من جراح الليل…
عندما تحركت السيارة وجدت نفسي جالسا بين كافكا، الذي كان يعمل جاهدا على الإبقاء على رأسه ثابتة بين كتفيه، وبين مضيفنا، حاء الأصغر سنا، الذي كان فرحا لانصياعنا لاقتراحه ولنجاح الجلسة…
الطريق كان خاليا تقريبا، وهو ما يغري بالإسراع نحو الشراك: المنعرجات وتقاطع الطرق يحفل، في هذا الوقت، بكل المفاجآت…
كنا نسير كمركبة فضائية تحمل مخلوقات من العالم الخارجي.. وكل رأس من الرؤوس الخمسة تحتفظ بتصورها الخاص للعالم وإن كانت تحاول التواصل من خلال لغة واحدة…
القهوة السوداء قد تعني بالنسبة لحاء الأصغر سنا حبوب بن مهصورة أو معصورة مما يخلصها من كل دمائها الحمراء والبيضاء وكأنه يريد أن يركز الظلام في فنجان ويشربه... عند حاء الأكبر سنا، سائق المركبة صاحب الرأس الكبيرة، تعني قهوة أخرى حمراء أو حتى صفراء تشيع مزيدا من الدوخة وتجعل الباب مشرعا أكثر على كل الحماقات التي تعبر دماغ هذا الطفل الكبير المتنكر خلف مظهر كهل وقور… بالنسبة لكافكا القهوة قد تعني الليل بقطع نجوم باردة يحركها كما يشاء في كأس الوجود.. قد تعني جسد امرأة فوق شاطئ خال من العيون ليجري حافي القلب بين الموج والنهد ويسقط صريعا فوق الرمل.. قد تعني لوحة إشهار على جدار، أو فقط فنجان قهوة… وحده عازف العود، الذي كان في المقعد الأمامي، والذي كان دمثا وسط هذا الصخب البذيء، وطيبا لحد كرهت معه نفسي، لأنني تذكرت عمري الذي قضيته في طيبوبة جرت علي طمع الطامعين وحقارة الحقراء والحقيرات أيضا، وبالرغم من تحديقي في رأسه، استعصى علي أن أحدد قهوته، لأن الطيبوبة تفسد مقاييس تحديد الموقف، فهي سلوك قابل لكل المواقف المهادنة، لذا قد تكون قهوته كل هذه الأشياء السابقة أو لاشيء البتة...
لم تكن قهوتي قهوة، ولا كانت ليلا.. فأنا أكره أن أفسد نشوة النبيذ وأكره أن أختصر الليل في فنجان.. لقد كنت ميالا، في خوف لم أخفيه، إلى إنهاء هذه الخرجة والعودة سريعا إلى حضن المرأة التي تركتها تحت تأثير دواء الاكتئاب، فالخمرة والنساء، بالنسبة لي متلازمتان، ليس لـحد التماهي، ولكن مع الكأس لابد من جسد يحتوي جنونك.. زد أنه كانت بي رغبة شديدة إلى الاختلاء بنفسي على الأقل، فأنا أكره أن أندمج من الوهلة الأولى،ل كن حاء الأصغر سنا ركب رأسه، ورفض أن يتركني خلفه، لأجد نفسي محشورا في هذه الرحلة التي يقودها حاء الأكبر سنا على هواه.. أو على الأقل انطلاقا من تفسيره الخاص لكلمة قهوة…
وقد قفز إلى ذهني مفهوم آخر للقهوة، تلك التي نقدمها لهذا الموظف أو ذاك من أجل أن يقضي لنا حاجة من الحاجات التي قد لا يكون من حقنا الحصول عليها..تذكرت أحد أصدقائي البويهميين وهو يقول:
- على المشرِّع أن يقنن الرشوة، فيفصل بين الضرورية والمباحة والممنوعة، بروح تستحضر بقوة مصالح الوطن وخدمة المواطن. الرشوة التي تعفيك وتعفيني من ضياع الوقت والمال والجهد ضرورية أو مباحة، مادامت لا تسلب حقا ولا تغتصب قانونا ولا تعطل مصلحة عامة…
ويوضح:قهوة فقط !!
عدت لنفسي على صوت كافكا الذي كان يتكلم في شبه هذيان:
- لدي أطفال معلقين في حبال الوقت… لدي زوجة ستعود من الموت.. لدي كل هذا السراب المتدفق على امتداد الأفق…
منظر الشوارع الخالية ليلا إلا من سكارى بدأت تلفظهم الخمارات التي تستعد للإغلاق قبل صلاة الفجر، ومن امرأة هنا أو هناك، في هذا الزقاق أو ذاك، قرب هذه السارية أو تلك… جعلني أقتنع أن رحلة القهوة هذه عمل صائب، مع تحفظي، طبعا، عن بعض المسائل الجانبية… مثل أن يتحرش قائد المركبة بكل أنثى تترنح من السكر وهو يقسم بأغلظ الإيمان بأنها مومس… أو أن يوقف سيارته ليطلب من مومس تقف قرب سارية إحدى البنايات أن تأخذ كافكا لترضعه، لأنه فقد أمه في الزحام،ولم تجد المجموعة دكانا لبيع الحليب…
- هذا الرجل.!!
- تعالي اكشفي عنه، فهو لم يبلغ لا مرحلة الختان ولا الفطام..
أو مثلا أن ينطلق في سرعة جنونية لاختراق حاجز شرطة المرور، وهو يقهقه صارخا: أبناء الكلاب لم يشبعوا من قهوة الليل، فقاموا لقهوة الفجر…
كانت السيارة تقطع طريقها نحو القهوة التي توجد في رأس كل واحد من الأشخاص الخمسة الذين يستقلون مركبتهم الفضائية... وما هي إلا منعرجات عن اليمين وعن اليسار حتى اتضحت،على الأقل، نوع القهوة التي يبحث عنها حاء الأكبر سنا.. ورغم أن كل خمارات شاطئ البحر قد أغلقت أبوابها، فإن قائد المركبة، الذي لم يعارضه أحد، بقي مصرا على أن يجد كأسا لعطشه، فبدأ يتوقف في كل منعرج لقراءة ما كتب على أبواب محلات الدوار والألوان الصفيقة، ومع يأسه من الحصول على جعة في هذا الفجر، تحول عطشه، أو قهوته، إلى بحث عن جسد أنثى...
أما أنا فقد اكتشفت أن للمدينة وجوها أخرى، أشدها غرابة وجه الفجر عندما تتقيأ الخمارات روادها، نساء ورجالا، فيتيهون بحثا عن حضن أو ركن، أو كرسي في مقهى لا تغلق أبوابها أبدا… وفطنت لكوني، أنا الذي غادر تسجني منذ سنين، لازلت أحمل زنزانتي معي، وتراب زقاق حينا الفقير، وعطشا لا يشبه عطش الآخرين…

توفيقي بلعيد السبت 13/ 02/ 1999



توفيقي بلعيد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى