محمد المخزنجي - البئر.. قصة قصيرة

استيقظ مبكرًا كعادته, لكنه لم يخرج من خيمة العريف الخاصة به منشرحًا ويفتح ذراعيه وعينيه وفمه على رحابة المنظر الرائع من حوله: الجبال وهي تتوالى أمام بصره المفتون بتدرجات لونية تبدأ بالأخضر فالزيتوني فالبنفسجي حتي تتبدّى في الأفق البعيد بلون دخان رمادي مزرق. والوديان المتناوبة في العمق تحت هامات الجبال, ومسارب الطرقات الدقيقة التي تدور حول الجبال وتنساب في الأودية. لم يؤد فرحان تمارين الصباح المحتفية بهواء هذه الدنيا الطازج النظيف, وحده, بحمية وابتهاج وضوضاء ذاتية كما اعتاد أن يفعل.

ولم يستدر بعدها رائق المزاج نحو خيمة العساكر الكبيرة ليوقظ أفراد نقطته الحدودية بمرح كما من قبل: (يلّه يا جحش انت وهو.. اصحوا.. البغال صاحية). ولم يعابثه أحد أفراد نقطته خارجًا من خيمته يتمطى ويتثاءب ويقول غامزا: (صحيح يا حضرة العريف.. أنا شايف البغال صاحية.. صاحية من الفجر). ولم يجر صاحب الغمزة ولم يجر العريف وراءه ولم يحدث الهرج المرح الذي عرفته هذه البقعة الجبلية الحدودية كثيرا من قبل.

صحا العريف فرحان غير فرحان بالمرّة. وبغم وتثاقل جمع أفراد النقطة في طابور الصباح وبكمد أبلغهم الأوامر التي عليهم تنفيذها:

- (من المتوقع وصول قافلة تهريب الساعة 12.. والمطلوب إعدام المهربات والمهربين وعدم الاحتفاظ بأي ذرة من أي شيء.. أو الاطلاع على أي شيء.. لا أسئلة ولا استفسارات).

لقد تلقى الإشارة باللاسلكي في المساء فلم ينم إلا خطفًا. وحتى اللحظات التي اختطفها للنوم مزقتها الكوابيس. رأى نفسه يجري مرعوبًا وقد أمسكت بمؤخرته النيران. ورأى نفسه يسند الجبل ببطنه الكبير بينما ثيابه العسكرية المموهة مصنوعة من الفولاذ, وثمة من يخترق الجبل من الناحية الأخرى بمثقاب جبار يتوقع وصوله إلى بطنه بين لحظة وأخرى. ثقوب ونيران لعلها كانت مستوحاة من الأمر الذي صدر إليه, وهو أمر غريب لم يحدث من قبل. فحتى المرات القليلة التي تلقى فيها أوامر بإطلاق النار لم تكن الطلقات المستخدمة إلا من نوع (الرش) لإيقاف المهربين دون إحداث إصابات جسيمة بهم. فالمهربون في نهاية الأمر كائنات تثير شفقة حتى أقسى القلوب, قلوب أصحاب الأصوات الثقيلة التي تصدر إليه وإلى غيره الأوامر من مكاتبها البعيدة. كان المهربون كائنات لا تعي ما تحمل ولا تعي ما يراد بها. مجرد بغال بكماء ذات عناد وجلد. لا يضاهيها أي كائن آخر في شق طرقها الصعبة منفردة دون قيادة بشرية, وبثبات واحتمال فائقين عبر الدروب الجبلية الوعرة والمتوارية عن الأعين. دربها على اجتياز هذه المفاوز سُيّاس بغال محنكون يقطنون القرى الجبلية المتناثرة بتناء بين قمم وسفوح هذه السلسلة من الجبال التي ترسم الحدود بين بلدين. بلد مفتوح على كل شيء في جانب وبلد مغلق على كل شيء في الجانب الآخر. تم تدريب البغال لصالح شبكة واسعة من المهربين بين البلدين برغم اختلاف الأنظمة. في أحد الجانبين يتم تحميل البغال بالبضائع المستوردة والمحظور دخولها في الجانب الآخر. تستمر رحلة البغال نصف يوم كامل حتى تصل إلى أهدافها. في البداية كانت رحلات بغال التهريب تتم تحت جنح الظلام في الليل. لكن عندما تغلغلت الشبكة في نسيج المتنفذين في الحكم لم يعد الليل شرطا لتلك الرحلات البكماء الثمينة. صارت قوافل بغال التهريب تشق دروبها الجبلية في النهار كما في الليل, بل في حراسة النقاط الحدودية نفسها التي كانت تنال نصيبها إما في هيئة مكافآت مالية منتظمة تصل إليها من المهربين سرًا, أو من الإغارة على بعض القوافل التي لا تصدر أوامر واضحة بتركها تمر في سلام, لأنه لم يُدفع عنها , أو لم يُدفع كفاية لمن يصدرون الأوامر. كانت المهرَّبات أشكالا وألوانا وكلها تتزامن مع ما يشح أو يندر وجوده في البلد المنغلق على نفسه. معظمها مما يمنع استيراده من مواد وأجهزة تجدها بوفرة في بيوت أهل السلطة وأصحاب النفوذ. وكثير منها مثيل لما ينتجه هذا البلد نفسه وتُفتعل الأزمات في توافره. أشياء عرفها فرحان بالمعاينة عندما كان يتلصص هو وعساكره على ما تحمله القافلة - التي يُغضّ النظر عن مرورها - عن قرب, أو من خلال نهب القافلة التي يغمزون بمصادرتها, أو يوشون بنهب شيء منها. فأي شيء يمكن أن تحتويه شحنة هذه القافلة التي لا يوحون بتمريرها ولا حتي بمصادرتها. (مخدرات? أسلحة? ثعابين? بلا أزرق?).. ظل فرحان يدور حول نفسه وهو ينبس بالأسئلة, يزفر, وينفخ, حتى أعلن عسكري الاستطلاع عن أول ظهور للقافلة.

كانت الساعة قريبة من منتصف النهار, كما توقعت الإشارة, لكن قافلة البغال وما تحمله على ظهورها كانت لا تزال في الجانب الآخر من الحدود مما لا يسمح بالتعامل معها على الفور. وكان هذا مناسبًا تمامًا ليكمل فرحان تنفيذ بقية الأمر كما صدر إليه: ألا يجعل العساكر يبدلون ذخائر أسلحتهم إلا في اللحظة الأخيرة. جمع العساكر وجعلهم يفرغون الطلقات العادية من بنادقهم ويستبدلونها بذخائر أخرى. وما إن أمسك أحد العساكر بالطلقات قبل أن يعمّر بها سلاحه حتى هتف مروعًا (حارق خارق?) وصرخ فيه العريف: (ولا كلمة ياعسكري.. نفذ.. الأمر يقول لا أسئلة.. ولا كلمة) نعم قالوا: لا أسئلة, وقالوا أيضًا: يتم إطلاق النيران عندما تكون القافلة في (البير)!

أخذت القافلة تقترب على الممر الجبلي العالي الذي يبعد عن مكان تخييم النقطة الحدودية بنحو ربع ساعة. وكان هذا يعني أن تصل القافلة إلى (البير) بعد خمس وعشرين دقيقة. فالممر العالي يدور حول أقرب قمة مواجهة لقمة النقطة, ثم يهبط رويدا رويدا إلى أعمق الوديان قبل أن يعاود الصعود متجهًا نحو ممر آخر يرتفع ويدور حول قمة تالية. النقطة الأكثر انخفاضًا في الوادي العميق هي (البير), وهي تشبه بئرا بالفعل إذ تنحدر فجأة إلى أسفل وتستوي لمسافة قصيرة قبل أن تصعد ثانية في مستوى الوادي. بئر ضخمة يستحيل على غير البغال الخروج منها. لكنها تخرج برغم ثقل الأحمال فوق ظهورها.

تتعثر وتكبو أحيانا وتنهض في أنين لكنها لا تتوقف لحظة عن الحركة إلى الأمام حتى تخرج. والأوامر هذه المرة تشدد على ألا تخرج. والبئر تقع مباشرة في مسقط رأسي تحت نقطة العريف فرحان. هكذا ستكون البغال وأحمالها عندما تصل إلى البئر في المرمى المباشر والأسهل لأسلحة العساكر. لن يكونوا في حاجة إلى تصويب دقيق. فقط يدلون بفوهات أسلحتهم ويواصلون الضغط على الأزند حتى تنهمر الطلقات على أهدافها دون أن تخطئها.

مرّت على فرحان أطول ثلث ساعة في حياته البسيطة الخشنة. إنه آمر نقطة حدودية منذ عشر سنوات. وهو في هذه النقطة فوق (البير) منذ أربع سنوات. لطالما اعتبر نفسه محظوظا بوصوله إلى هذه النقطة. صحيح أنه (دفع) ليُنقل إليها. لكنه سرعان ما أدرك أنه الرابح بلا شك. فالنقطة (عائدها) كبير. سواء مما يصل إليه من نقود في مغلفات بلا عناوين يلتقطها خلسة من عريّف التموين الذي تمر سيارته اللوري لتزويد النقطة باحتياجاتها كل شهر, أو من البضائع المهربة التي يباح له أن يختلس القليل منها عندما تصدر الأوامر بالمصادرة. هو يعرف أن كثيرين يصفون أمثاله بأنهم مختلسون ومرتشون. حتى عساكره الذين لا يحرمهم من بعض ما يناله يتهامسون فيما بينهم بذلك.

لكنه أب لعشرة أطفال ولديه زوجة وأم عجوز مريضة وأخت مقعدة. ثلاثة عشر نفسًا عليه أن يعولهم في قريته البعيدة. لقد استفتى نفسه وأصدر الفتوى: (الخطف من الحرامي ليس حرامًا).. فماذا ينال هو مقارنة بما يناله المهربون الكبار في مكاتبهم الفخمة البعيدة, الكبار الذين ينسقون (اللعبة) كلها. لم ير الأمر إلا (لعبة), لكن اللعبة ستتحول إلى جد مخيف عندما تصل إلى (البير) هذه المرة.

مر ثلث ساعة وقافلة البغال تقترب, وهي في أقصى اقتراب لها ستكون على مسافة خمسمائة متر, ومع ذلك ظل فرحان يحس أن هذه الكائنات المقتربة بأثقالها تنظر بعيونها مباشرة في عينيه. عيون كبيرة فيها طيبة عيون الحمير ولمعة عيون الخيول. كحيلة وعندما ترمش يحس بلمسة رموشها الطويلة لقلبه العاري مباشرة. ذكرته بعيون عياله في القرية البعيدة على ضفة النهر عندما يلتمون حوله في الإجازة التي ينالها بتباعد: أسبوع كل أربعة أسابيع.. ينفق من الأسبوع يومين في الذهاب والعودة ولا يتبقى له مع عياله إلا خمسة أيام لا يبتعدون عنه خلالها أبدا. ولا يكفون عن النظر بعيونهم مباشرة في عينيه إلا عندما يغمضون للنوم. لم ير خلال الدقائق العشرين برغم سطوع الضوء وتغيّر المنظر غير عيون كائنات القافلة المتجهة نحو (البير)..

لم ير سلسلة القمم التي تضيئها شمس الظهيرة فتتألق ألوانها بتنوع خلاب يكشف عن أطياف ألوان صخورها العارية التي نحتتها الرياح وغسلتها الأمطار وشقتها يد الزلازل السرمدية: طبقات لونية تتتابع من أسفل إلى أعلى ومن أعلى إلى أسفل, وردية وشهباء, وضاربة إلى الزرقة,وثمة مساحات خضراء خضرة مشرقة حيث تتكون مروج معلقة في جروف الجبال بالمواضيع التي تسيل منها عيون الماء. لم ير خطوط الدروب والمدقات والممرات الطويلة التي لونها الضوء ببياض ضارب إلى الحمرة وهي تلتف وتصعد وتهبط في تواصل طويل جميل خلال هذه الدنيا الجبلية. لم ير السحب البيضاء الخفيفة التي تمر قريبة يكاد يمد يده ويلمسها. لم ير أصفى زرقة لأنقى سماء فوق تلاوين الذرى السامقة. لم ير إلا تلك العيون الكبيرة الكحيلة طويلة الرموش تنظر إليه في عينيه. وبأسرع خمس دقائق مرت عليه في هذا المكان, وجد قافلة البغال تهبط كأنها تنزلق انزلاقًا في (البير) الذي احتواها جميعًا. وقدّر وهو غائم الذهن أنها أكثر من عشرة. وجد عساكره المصطفين على الحافة يمسكون بأسلحتهم في وضع الاستعداد وينظرون إليه في صمت متسائل. رأى عيونهم تقترب وكانت عيون الكائنات البكماء في البئر تنظر إليه أيضا وتقترب. شعر بدوار, وفزع أن يتهاوى ساقطًا في البئر الممتلئة بالعيون فانطلق صوته كأنه يصرخ من غياهب صدره العريض الأشعر طالبًا النجدة: (سلاااااح). ولم يتبق إلا أن يكمل أمر إطلاق النار.

(اضرب) - قالها في أعقاب صرخة التهيؤ العالية التي هزت عساكره, لكن بأخفت صوت يمكن سماعه, وكأن الكلمة انحدرت من فمه دون إرادة منه (اضرب) خافتة وبائسة لكنها كانت كافية لأن تلتقطها آذان العساكر التي أرهفتها الصرخة السابقة, وانهمرت الطلقات.

في البئر راح مطر الطلقات الحارقة الخارقة يشعل أتونا تغلي فيه البغال بينما تثقبها وتكويها تلك المقذوفات الجهنمية. جعلها هذا الغليان تدور دون أن تبتعد عن قاع البئر فتصطلي بمزيد من الطلقات. تهوي الأحمال عن ظهورها وتنفك أربطتها وتتمزق الصناديق فيؤجج ما بداخلها النار. كان ثمة ما يغذي النار في هذه الصناديق فيجعلها نارًا وحشية تشوي البغال المنتفضة حتى آخر أنفاسها.

لم يستطع فرحان أن يحذر ما كان بداخل الصناديق. ولم يستطع العساكر. لكن دوامة حامية من لظى النار وسحب الدخان أخذت تدور في جوف وهدة البئر.. تدور وتدفع إلى الأعلى.. إلى الأعلى بدخان رمادي ورائحة لحم يحترق وبقايا أوراق متطايرة, متفحمة أو لم يكتمل تفحمها, وصلت إلى حيث تسمر العريف وعساكره.. كانت بقايا صفحات من كتب أو من نُسخ عديدة لكتاب واحد. وكانت ما إن تستقر بين الأصابع الفضولية المتشنجة حتى تتفتت, ولا تمنح المحدقين والممعنين فيها إلاّ هشيمًا من أحرف لم تكمل جملة, ولا حتى كلمة واحدة تدل على شيء.


[SIZE=3]محمد المخزنجي مجلة العربي يناير 2004[/SIZE]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى