محمد المنسي قنديل - حارس الموتى..

يتوقف "نفر" متظاهرا بأنه يعدل رمحه فيتوقف الكاهن الحليق الرأس أيضا، يستدير ويرمقه بنظرة باردة، يضطر "نفر" لمواصلة السير وسط جدران من الكلس الأصم، ينتهي الضوء ويمتد الظل، تختفي النقوش من فوق الجدران وتتكاثف رائحة البخور واللبان، تضيق الأروقة وتتحول إلى ممر طويل معتم، يحاول أن يلاحق خطوات الكاهن، كأنه لا يلامس الأرض، لابد وأنهما الآن يدخلان المنطقة المحرمة من المعبد، يجتاز "نفر" حدود الحرس ليدخل في ممرات الكهنة الغائصة في جوف الحجر، يستطيل الممر كأنه يقوده إلى العالم الآخر بلا منفذ للريح أو مصدر للضوء، يتوقف الكاهن ويضغط على حجر ما، ينفتح باب صغير ويشير إليه أن يدخل، يتردد "نفر" قليلا ولكن الكاهن يسلط عليه نفس النظرة الباردة فيضطر للخطو داخلا، قبل أن يفطن لما يحدث يبدأ الباب الحجري في التحرك حتى يلتحم مرة أخرى ويتحول إلى جدار مصمت، يحس "نفر" أنه قد انفصل نهائيا عن عالم الأحياء ودخل إلى عالم الموتى، ينظر إلى الباحة الواسعة التي يقف في أحد أطرافها، في منتصفها مذبح حجري تنبعث منه نار مشتعلة، مصدر الضوء الوحيد في هذا المكان الشاسع، يتلفت "نفر" حوله فيجد عيون الآلهة الحجرية تحدق فيه، "آمون" يحمل رأس الكبش ويمسك في يده صولجان المصائر، و"باست" رأس القطة الشرسة التي تقاوم ضبع الليل، "سخمت" اللبؤة المتحفزة، و "تحوت" سيد الكلمات وهو يمسك بيده ميزان العدل، وفي مقدمتها جميعا يقف سيد الآلهة "أزوريس" منتصبا متقاطع اليدين فوق الصدر في أبدية الحياة والموت، والمرة الأولى التي يرى فيها "نفر" كل هؤلاء الآلهة مجتمعين في مكان واحد، تحيط بها ظلال الرهبة والصمت مخيما، يظل متوجسا وهو يتوقع أن يتحرك واحد من هذه التماثيل، ولكن شخصا آخر ملتفا برداء أبيض يخرج من خلف المذبح، يحرك يده أمام وجهه ليزيح الدخان المتصاعد من النار المشتعلة فتظهر ملامحه، يشهق "نفر" وهو يحاول أن يرتد إلى الوراء ولكن الحائط في ظهره، يتقدم الكاهن الأكبر ويحدق فيه متفحصا، ينعكس وهج اللهب على صلعته فتتوهج وتصبح مستطيلة بدرجة غير عادية، لم يره "نفر" قبل ذلك بهذه الدرجة من القرب، رآه من بعيد وسط الكهنة، أو محمولا فوق المح فة، لم يتخيله بشرا عاديا، كأنه ينتمي إلى عالم هذه الآلهة الحجرية، ويمتاز عنها بالحياة وبتلك النظرة الصارمة التي يسلطها عليه الآن، يشعر "نفر" أنه عاجر عن التنفس، يرتفع صوت الكاهن الأكبر باردا كنصل المعدن:

ـ أنت شخص بلا فضائل، وبلا أخطاء ظاهرة أيضا وهذا يبدو نادرا ومحيرا بعض الشيء.

ولم يعرف "نفر" أي فضائل يمكن أن يتحلى بها، أو أي أخطاء عليه أن يتجنبها، حلقه بالغ الجفاف ولسانه ثقيل وليس هناك ما يقال، لا يبدو أن الكاهن الأكبر كان يتوقع أي أجابه لأنه أمسك إحدى لفات البردي وفردها وقرأ فيها قليلا ثم ألقاها بلا مبالاة وعاد يقول:

ـ لم تتغيب، لم تشك من مرض، لم تتشاجر مع أحد، ولم يصادقك أحد. لم تشارك زملاءك من الحرس الضحك، لم تسع وراء امرأة، ولم تشرب الجعة، لم تضحك بصوت عال ولم يرك أحد تبكي كذلك، أنت متفرد، دائم الصمت، مثل خفاش ليلي تبقى ساهرا بلا نوم، ربما كانت هذه ميزتك الوحيدة، لا أحد قد توجه بالشكوى منك، ولا أحد تحمس لك أيضا، أنت باعث على النفور والخوف، كأنك نوع من الموتى.

يبقى "نفر" مشدودا، هل كان مرصودا لهذه الدرجة؟ هل رأى كل تلك الخفافيش المظلمة التي تسكن في صدره؟ يمسك الكاهن ببقية لفافات البردي التي كانت على المذبح ويلقيها على الأرض كأنه قد مل من وجودها، يقترب أكثر من "نفر"، يكشف الرداء الأبيض المتهدل من على جسده عن ساقين نحيلتين، وصدر أمرد، ووجه عجوز ولكنه مشدود وخال من التجاعيد، يعاود القول:

ـ على أي حال لكل هذه الأسباب قد اخترتك، لا أريد للثرثرة أن تفسد الطقوس المقدسة، ولا أريد لأحد أن يتشارك في الأسرار التي ستراها هذه الليلة سوى آلهة الموت، لعلك تفهم ماذا أعني؟

زفر "نفر" نفسا حارا وازداد الكاهن اقترابا منه ونظر مباشرة في عينيه:

ـ من أين أنت على أي حال؟ يمكنك أن تتكلم.

يبحث عن صوته: إهناسيا يا مولاي.

يهز الكاهن الأكبر رأسه مفكرا:

ـ أذكر هذا الاسم، لابد وأنني قمت بزيارتها ذات يوم، لست متأكدا، فتلك البلاد الطينية المتناثرة على ضفتي النهر متشابهة لحد مرعب.

يعاود التحديق فيه، لعله يسائل نفسه إن كان يستطيع الثقة فيه أم لا، يهتف بملل حقيقي:

ـ أركع على ركبتيك واحن رأسك.

يسارع "نفر" بالركوع، أي حركة يمكن أن يقوم بها كانت أفضل من هذه الوقفة المتصلبة، يحس بيد الكاهن الباردة وهي تحط على رأسه ويسمع صوته قائلا:

ـ أقسم بحق رب الأرباب آمون أن ما ستراه الليلة هو سر لن تخبر به أي شخص حتى أباك وأمك، ولن تردده حتى لنفسك ولن يخطر في أحلامك وسوف تمحوه من رأسك ما إن يتبدد ظلام هذا الليل ويأتي ضوء النهار.

يبتلع ريقه ويردد كلمات القسم مرعوبا ومبهورا، ينزل الكاهن يده من على رأسه ولكنه لا يسمح له بالنهوض، يواصل القول:

ـ الليلة سوف تكون حارسا للموتى، إنها ليلة تبحث فيها ال "كا" عن منفذ لها لتخرج من الجسد المسجى وتجد طريقها إلى مملكة أزوريس، وغدا سوف يأتي المحنطون ليعدوا الجسد للحياة الأخرى، لا نريد أن يعلم أحد بما تقوم بحراسته قبل أن ينتهي الأمر، لا تقترب منها وتلمسها لا تدع بشرا ولا طيرا ولا ضبعا يقترب وإلا حلت عليك لعنة الموتى.

يتنفس "نفر" الصعداء، مهمة عادية من مهمات الحراسة، لا يهم إن كانوا موتى أم أحياء، لم يكن يرى أي نوع من النبل أو الأهمية في هذا الأمر، ففي بلدتهم يطمر الفلاحون في التراب بلا أي مبالاة سواء وجدت الروح طريقها لخارج الجسد أم لا، يقول الكاهن آمرا:

ـ انهض

ينهض "نفر" وقد تخدرت ساقيه، يضغط الكاهن الأكبر على أحد أحجار الجدار فينفتح الباب، يشير إليه أن يمضي، يحس بفرحة شديدة لأنه أخيرا سوف يغادر هذه الباحة المقبضة، يعود إلى الممر الضيق حيث يقف الكاهن الشاب في انتظاره، يواصلان السير في اتجاه الجزء الخلفي من المعبد، جانب آخر لم يكن يعرف عنه شيء يخرجان إلى فناء مكشوف، يهب عليهما هواء حقيفي مفعم برائحة النهر والزرع، ويحس بلمسة من دفء الشمس ويرى طيور النهر وأسراب الحمام وهي تنطلق قادمة من "طيبة" على البر الشرقي، أسفل المعبد تنحدر الأرض المزروعة إلى ضفة النهر، يقول الكاهن:

ـ يوجد حطب يمكنك استخدامه لإشعال النار ولكن لا تفعل ذلك إلا للضرورة القصوى، إذا ما هاجمتك الذئاب أو الضباع، غير ذلك فلا ضرورة فالقمر مكتمل هذه الليلة، وابق ساهرا ففي النوم هلاكك.

يشير إلى منتصف المكان حيث يوجد تابوتان من الحجر الأسود، قبل أن يسأله "نفر" أي سؤال يستدير وينصرف مبتعدا، يحس "نفر" بالسعادة لأنه قد أصبح وحيدا أخيرا، فالموتى مهما كانوا مجرد موتى، حدودهم هذا التابوت، سواء خرجت الروح الليلة أو لم تخرج فقد أصبحت تنتمي إلى عالم اخر. يقف منتصبا والرمح في يده، ترفرف فوقه أسراب من طيور النهر، تراقبه بعيونها الصغيرة المستديرة، يحط واحد من طيور "البشاروش" على حافة أحد التابوتين، يتأمل ما فيه قليلا ثم ما يلبث أن يتوفز ريشه وتتصلب أجنحته ويعاود الطيران من جديد، لابد وأن رائحة الموت كانت نفاذة لدرجة لم يطقها هذا الطائر العابر، تبدأ الأسئلة في التجمع داخل "نفر"، ترى ما هو السر الذي جعل الكاهن يستدعيه ويجعله يقسم السر من أجل صونه؟ ماذا في هذين التابوتين؟ ولماذا معا؟ ولماذا اختاروا شخصا بلا فضائل مثله؟ أسئلة كثيرة ولكن الوقت أكثر، والصمت يجعل مروره أكثر بطئا، تبدأ الشمس في الانحدار نحو النهر، تلون كل السحب بمسحة قرمزية ناعمة، ويصعد الخدر من قدمي "نفر" إلى بقية جسده، يبدأ في تحريك رأسه ببطء، ترى هل هناك من يراقبه من خلف هذه الأعمدة، يتأمل التابوتين المصنوعين من الحجر المقدس الذي لا يستخدمه إلا الأرباب الذين يحكمون الوادي، يحاول من بعيد أن يتأمل النقوش لعلها تشي بسر من يرقد فيهما ولكنها غير مكتملة، سبق الموت صانعيها، كل شيء يشوبه نوع غامض من النقصان، يهب الهواء من ناحيتهما فيشم رائحة الشيح والزعفران، لم تبدأ روائح العفونة بعد، ولابد أنهما وضعا في التابوتين في هذا المكان المكشوف حتى يتأجل زمن التعفن قليلا، تمل الطيور من الحومان، وتتمدد الظلال قبل أن تذوب في عتمة المساء، يحس بحاجة ملحة إلى أن يتحرك ولو لعدة خطوات، ربما دورة واحدة حول المكان تجعل الدم يعود إلى السريان في ساقيه، يتلفت في أكثر من اتجاه، ثم يبدأ السير في حذر، لا يحدث شيء، لا يأتي الكهنة ولا ينهض الموتى من التوابيت ولا تكف الشمس عن الانزلاق في النهر، يدور للمرة الثانية وقد أحس أن الحياة تعود إلى جسده، يتوقف وقد أصبح أكثر قربا من التابوت، كأن هناك قوة تدفعه وتشده إلى مجال اللعنة، تابوتان مختلفان في الحجم، ربما كان الأصغر منهما هو الأقل خطرا، لا يقدر "نفر" على مقاومة فضوله فيتطلع إلى داخله، نسيج رقيق من الكتان يغطي الجسد المسجى،يحميه من الذباب والأوساخ ولا يمنع عنه الهواء، يظل "نفر" واقفا كأن لم يعد هناك مجال للتراجع، يبدو الغطاء متجعدا، يشي بتضاريس الجسد الساكن تحته، حركه طفيفة له كفيلة بتحريك كل اللعنات الخفية، هل يمكنه أن يتراجع ويعاود الالتصاق بالج دران متظاهرا بأن شيئا لم يحدث؟ أم أن عليه أن يسعى خلف فضول معرفته وليكن ما يكون؟

"نظرة واحدة لن تقتل أحدا" يحدث "نفر" نفسه وهو يمد أصابعه المرتعدة، يضعها بخفة على الغطاء يحاول أن يفعل ذلك دون أن يلمس ما تحته ودون أن تتسلل برودة الموت إليه، يشده برفق إلى أعلى، ولو أن الغطاء قد قاومه قليلا لتراجع، لكنه ينصاع لأصابعه ويبدأ في الارتفاع كشفا عما تحته، رأس صغير لوجه شاحب وعيون مغمضة مستكينة في نبل، تاج ذهبي يغطي الشعر والجبهة، التاج يأخذ شكل قرص الشمس الذي تمكن داخلها ثعابين ملتوية، وجه فاتن لا مرأة مكتملة الزينة، أصباغ على الشفتين وخيوط من الكحل تبدو خلف الجفون المسدلة، يا رع يا آمون، أين رأى هذا الوجه الدقيق البالغ الجمال قبل الآن، داخل المعبدأم في أحد الاحتفالات؟ هل هي أميرة؟ وهذا التاج هل هو حقيقي أم أنه حلية زائفة لعالم الموتى؟ يترك الغطاء ليسقط من جديد، ولكنه لا ينجح في تغطية الوجه الذي يظل يحدق فيه بزرقة هادئة، يحرك قديمه بتثاقل إلى التابوت الثاني الأكبر حجما، حتى ولو كانت اللعنة بداخله فلم تعد هناك فرصة للتراجع، يغطيه هو أيضا نسيج الكتان الأبيض، يستند "نفر" إلى حافة التابوت ويمد أصابعه المرتجفة المبللة بالعرق، يرفع الغطاء متوقعا أن تحل اللعنة ولكنها لا تحل، يتطاير الكتان الرقيق مع هواء النهر فينكشف الجسد كله.

حتى الشهيق لا يقدر عليه، يقف مشلولا أمام الجسد المسجى، ذراعان متقاطعان فوق الصدر ويد قابضة على الصولجان ذي الرأس الثعباني والقلادة المطعمة بكل ما في مصر من أصناف الجواهر، وتاج ضخم متداخل من اللونين الأحمر والأبيض، يخر "نفر" على الأرض مذهولا، يسير على أربع مبتعدا عن التابوت، يستند بيديه إلى الجدار حتى يستطيع الوقوف، ولكن لا شيء يسعفه، يشهق أخيرا وهو يهتف: "هل يطول الموت الأرباب، هل تكسوهم زرقة الموت الدامغة"، هذا الوجه الذي لا يجهله أحد، حتى ولو كان حارسا مسكينا مثله، فرعون الوادي المقدس، ولابد أن هذه هي زوجته بجانبه في التابوت الآخر، أهذا هو السر المرعب الذي جعله الكاهن يخضعه للقسم، كيف ماتا معا في نفس اليوم واللحظة، مصادفة أم مؤامرة أم اغتيال؟ ألم يستعد المحنطون بعد أم أن روحيهما التي زهقت عنوة لم تجد لها بعد مستقرا في العالم الآخر؟ يرتفع من بعيد صوت عواء متصل، الضباع هي أيضا قد اشتمت رائحة الموتى، ارتجف "نفر" وقد فطن فجأة إلى أن نور النهار قد تبدد وأنه أصبح وحده في مواجهة كل ألغاز الموت، هل يمكن أن يتقدم ويعيد أغطية الكتان كما كانت؟ هل يكفي هذا ليحجب كل شيء، ليزيله من أمام عينية ويخرجه من ذاكراته أم أن اللعنة مازالت في بدايتها وسوف يتواصل عواء الضباع حتى لا تجد الأرواح مهجعا لها؟.

يقف "نفر" ملتصقا بالجدار لعل أنفاسه تعاود الانتظام، تعلو أصوات قادمة من ناحية النهر، صوت تدافع الريح خلال الموج والشجر وأفراس النهر وهي تتثاءب استعدادا لليل طويل، وفي الأعلى النجوم باردة شحيحة الضوء تزيد من إحساسه بالوحدة، لا أحد يحمل ثقل ما يحمله، هل حان وقت مجي الضباع؟ وهل يقدر وهو في هذه الحالة أن يرفع رمحه في مواجهتها؟ لا أحد من الكهنة يظهر، القمر فقط هو الذي يصعد من خلف أشجار النهر كاشفا ظلا ضئيلا من الحقيقة، تبدأ ظلال الأعمدة في الاستطالة، تستدير حول "نفر" وتحاصره، يحس أنه لا يستطيع أن يبقى في هذا الوضع طويلا فيبدأ في الحركة وهو مازال يرتجف، مرة أخرى وكأنما لا مفر من ذلك يذهب إليهما، يتأمل وجهها الصغير الذي لم يجرؤ الموت بعد على تبديل ملامحه وتطويعه لمشيئته، كيف تأتى لها أن تموت بهذه الرقة والوداعة، كأنها تستسلم لسيد قاس كانت تنتظره منذ ولادتها، أما وجهه هو فقد كان حافلا بكل ملامح المباغتة، كأنه قد واجه شيئا لم يتوقعه، خيل له أن الفرعون يراقبه من خلف جفنيه المغلقتين، استند إلى رمحه حتى لا يضطر للمس التابوت، تبدأ لحظات الزمن الميت في التيقظ من جديد، تمور داخل "نفر" وتزيد من رعدته، هل حانت اللحظة التي لم يتوقعها أبدا طوال حياته، اللحظة التي حولته ـ كما قال الكاهن ـ إلى خفاش ليلي، يقول في صوت مرتجف:

ـ هل تعرفت عليّ يا.. مولاي

لا يتلقى إجابة ولا يسمع صوت حركة، الجسدان المسجيان غارقان في صمت أبدي، يواصل القول:

ـ لم يتعرف عليّ الكاهن الأكبر فهل تعرفت أنت عليّ أيها المولى العظيم أم أننا جميعا متشابهون كأعواد القمح والبقر وأكوام السباخ.

ينحسر رماد الزمن، تبدو لحظاته البعيدة مؤلمة من فرط ما فيها من ذكرى قاسية، كأن لم تغب أبدا، هل كان عمره وزمنه يتحملان مثل هذه المصادفة؟ وهل كان بمقدور أمواج النيل الخانعة دوما أن تقود سفينة الفرعون إلى مخاضة الطين على شاطىء "أهناسيا" في هذا الصبح البعيد؟ في تلك اللحظة يستيقظ أهل القرية ـ الذين لم يتعودوا إلا على جباة الضرائب والجنود ذوي السياط ـ ليجدوا أنفسهم فجأة في مواجهة سفينة ملونة بكل ألوان الطيف يهبط منها جيش من الحرس والأعيان والكهنة، يخطون بأقدامهم على الأرض الترابية، يتأملون القرية الطينية الراقدة تحت سعف النخل كأنها عالم غريب، ينشغل العبيد بمحاولة دفع السفينة إلى النهر مرة أخرى، ويسرع الجنود يفتشون الشاطىء بحثا عن عدو محتمل، ثم يظهر الفرعون مثل شمس تبزغ من جوف السفينة، يشير للعبيد أن ينزلوا فرس النهر الذي اصطاده، المرة الأولى التي يحمل فيها أحد الآلهة شيئا للقرية التي تعودت أن تعطي ولم تتصور أن تأخذ، ولكن الفرعون كان يدرك أن هذا الفرس المذبوح لو بقي على سفينته سوف يصيبها بالعفن، لذلك ألقاه وجبة شهية أمام أعين الفلاحين الجوعى، كان في حالة من البهجة لم يفسدها تعطل السفينة، يسأله الحرس الأذن بإقامة خيامه على الشاطىء فيصر على أن يتجول في القرية أولا، يشهق الجميع وأقدام الإله تجتاز الطرق الترابية وتقفز فوق الترع دون مبالاة بالروث والسبخ الذي يدخل إلى صندله الذهبي، يتوقف حين يرى البيوت الطينية في وسط البلد وقد تزينت بأعواد القمح المجدول والرايات المصنوعة من مزق الكتان الملون، يهتف مدهوشا فيمن حوله: هل كانوا يتوقعون قدومي؟ يومىء الجميع رءوسهم وهم يقولون: بالطبع يا مولاي.

ولكن "نفر" يخبط حافة التابوت وهو يصيح:

ـ كانت هذه الزينة من أجلي أنا وليس من أجلك أنت، المناسبة الوحيدة التي كنت أنتظرها في حياتي جئت أنت أيها المولى العظيم واقتنصتها مني، كان هذا يوم زفافي. خفض الضباع من عوائها الجائع حتى يتناهى إليه صوتها قادما عبر النهر وعبر الزمن، تناديه كما تعودت أن تفعل في لحظات عشقهما النادرة، ترتجف شجرة الصفصافة العجوز وترخي شعورها في أسى عاجز، ينفلت القمر من هالاته الملونة ويضيع في فضاء مظلم، يتشكل وجهها أمامه، شعرها مغبر بالتراب والقش بعد يوم مرهق من أيام الحصاد، يهبط "نفر" النهر ليغتسل فيجدها بالقرب من الماء، غضه رقيقة الجلد حتى أن عيدان القمح قد أصابتها بالجروح الصغيرة، كان هو ناضجا بدرجة كافية ليدرك أن براعمها على وشك التفتح، ألصق الماء ثوبها الكتانى بجسدها وأوضح البروز النامي في صدرها، كما تناثرت قطراته من جدائل شعرها كلما حركتها، وثوب العمل الممزق قد كشف عن فخذيها، راقبها وهي تضع حفنات الماء على نفسها وتضحك في بهجة حقيقية، أخذ يعود مبتعدا، لم يكن يريد أن يرى منها أكثر من ذلك، ولكن آن له أن يكف عن رؤيتها، تظل أمامه حتى تحت جفنيه المغمضتين، في انفراط حبات القمح وفي عيون البهائم الساهمة وفي ارتعاشات النجوم، لا يخبر أحدا بالرؤى التي تطارده ولكن أمه تفطن إلى حالته، تدرك ماذا تعني قلة نومه وزهده في الطعام، تظل تراقبه حتى عرفت من هي تلك التي لا يرفع عينيه من عليها، تذهب إلى بيتها وتثر جدائل شعرها وتعري بطنها وتفحص حوضها حتى تتأكد أنها قد أصبحت ناضجة للزواج والإنجاب، ثم تمضي بعد ذلك إلى صانع الفخار كي توصيه بصنع إناء منقوش حتى يكسره الاثنان معا ليصيرا زوجا وزوجة.

يستدير "نفر" ليقف في مواجهة التابوت الآخر، يتأمل وجهها، هل كانت تشبهها؟ أم أنه الموت يوحد بين كل الوجوه، هل خلقهما رع بتلك الدرجة من الرهافة حتى تأتي لحظة النهاية مفعمة بكل هذا الأسى، يقول في صوت مرتجف:

ـ كوني شاهدة بيننا يا سيدتي، فوجه مثل وجهها لا يمكن إلا أن يكون عادلا.

هل يمكنها من خلف أكفان الموت أن ترى تدافع أهالي القرية في فرح وفزع، فرحين لأنهم سوف يرون فرعونهم للمرة الأولى، ومفزوعين لأنهم بشكل غامض يدركون أنهم سيدفعون ثمن هذه الزيارة، وعمدة القرية ينحني على الأرض ويعفر وجهه في التراب وهو يقول: "الليلة سيكون زفاف أحد الفلاحين وسوف يكون مباركا لو أنكم شرفتموه بالحضور"، ويصيح الفرعون بأريحية: "اجعلوا فرس النهر وليمة العرس" ويعلن الكاهن الأكبر بأنه سوف يقوم بنفسه بعقد أواصر الزواج، ويسرع العبيد بإحضار الأبسطة والطنافس من السفينة فتشهد القرية لأول مرة أرضا بغير لون التراب والزرع، منقوشة بكل الألوان، طيور وزهور ومراكب وأنهر صغيرة وأسماك تسبح في داخلها، يرون الكون فجأة وقد تمدد على أرض قريته، أحضر الفرعون كونه الخاص معه وجلس عليه فتجسد أمامهم كل ما في الإله من مقدرة وسطوة، يجلسون أمامه كما تعودوا دائما على التراب، منه وإليه، ثم حمل بعضهم البشارة إلى "نفر": الفرعون المقدس سوف يحضر زفافك"

ـ ماذا كان أمامي أن أفعل غير أن أحس بالرهبة والارتباك، كانوا يحممونني، وحلاق القرية يزيح كل ما في جسدي من شعر كما جرت العادة، كنت عاريا تماما، شاعرا بخوف لا حد له، وعاجزا تماما مثلما أنتما في هذه اللحظة.

يمد "نفر" يده دون خوف أو تردد وينزع الغطاء الكتاني من على الجسدين، يطوح بهما بعيدا، يتركهما عاريان تحت ضوء القمر، لعل رعشة الخوف والبرد اللتين أحس بهما في هذا اليوم تسري في بدنيهما، هذه هي المرة الثانية التي يتواجهان فيها، الفلاح والفرعون، ازداد الجسد المسجي سمنة عن ذي قبل، لم يكن يعلق على صدره كل هذه القلائد المطعمة بالجواهر والذهب، يجلس أمامهم وأمام كل الفلاحين مرتديا ثياب الصيد الخفيفة غير مهتم ببرودة المساء في القرية، والعبيد يحاولون عبثا إخراج السفينة من مخاضة الطين حتى بعد أن حل المساء، والكاهن الأكبر واقف متصلب غير ناس قدسيته وغير متخل عن تلك التقطيبة التي تبعث الرعدة في النفس، يلتف شبان القرية حول "نفر" ويخرجونه من داره وهم يصفقون، يسير بينهم مزهوا في عباءة زرقاء بلون النيل، وتلتفت الفتيات حولها وأخرجنها وسط عاصفة من الأغاريد وهي تلبس ثوبا من الكتان الأبيض فتبدو أشد نقاء من سحب السماء، يجلسونهما معا بجانب بعضنا البعض تحت عقود من سنابل القمح وعيدان الذرة وتحت أنظار الفرعون وكاهنه الأكبر، لعلها المرة الأولى التي يكتشف فيها الفرعون أن عبيد الوادي عندهم القدرة على الفرح بالحياة، يمارسون حقا لم يمنحه لهم ولم يتصور أن يتوصلوا إليه، يحس "نفر" بغصة في حلقه وهو يجلس أمام عيني الفرعون اللتين تحولتا إلى جمرتين، هو الوحيد تقريبا الذي واصل التطلع إليهما، لم يرهما غيره، فالبنات ترقص للفرعون، المغنون والعازفون يتجهون نحوه، وكبراء القرية يحدقون فيه ببلاهة الغربان، ولكن عينيه المسلطتين ظلتا على "نفر" وعروسه، عزلتهما عن أي إحساس بالفرحة، يستدير "نفر" يترك تابوته ويتجه إلى تابوتها شاكيا:

كلا، لم تكن عيناه مسلطتين علينا، بل عليها وحدها، لدرجة أن الفتاة المسكينة بدت كأنها جالسة على الجمر فأخذت تتشبث بذراعي لعلي أستطيع حمايتها أو إنقاذها، ولكنا كنا معا عزلا بلا حماية، مثلك الآن يا سيدتي.

ماهي أصوات الضباع تعلو من خلف الجبل الغربي وقد بلغ جوعها أقصى درجاته، والفرعون لا ينهض من نومته، ولكنه في تلك الليلة هب واقفا وأشار بيده فتوقف الرقص والغناء، يتنهد "نفر" في راحة للمرة الأولى منذ بداية الليلة، هو أيضا يود لو ينتهي كل شيء حتى ينصرف إلى كوخه الصغير، يلقي الفرعون عليهم نظرته الأخيرة ثم يستدير منصرفا إلى الخيمة التي أقامها له العبيد بالقرب من الشاطىء، يسير الجميع خلفه ولا يبقى مع نفر إلا أمه وعروسه، يسيرون بسرعة إلى الكوخ، تبقى الأم في الخارج بينما يغلق "نفر" الباب ويضع خلفه كل ما يجده من أحجار، ماتت الرغبة والفرحة، يجلسان معا في أحد الأركان وهما يرتجفان وقد علقا أنظارهما بالباب، ولا يمضى وقت طويل حتى سمعا صوت الدقات المحتومة، ازدادت رجفتهما والباب يوشك أن ينخلع من مكانه، تشهق العروس باكية وينفتح الباب مزيحا الأحجار التي خلفه، ويبدو الكاهن والقائد والعمدة وخلفهم الجنود، يحدق الكاهن فيهما بنظرة باردة وهو يقول في صوت يشبه الترتيل:

ـ مولانا الفرعون قد تفضل ومنح زوجتك شرف الليلة الأولى.

يحدق "نفر" فيهم دون أن يفهم شيئا، لم يكن إلا فلاح صغير في قرية معزولة لا يعرف أن الآلهة قد تواطأت مع الفراعنة ومنحتهم الحق في كل شيء بما فيها حق الليلة الأولى حيث كان الكاهن لايزال يرتل متحدثا عنها، هتف العمدة به:

ـ يجب أن تكون سعيدا بهذا الشرف.

يهجم الحرس، تصرخ فينتزعونها، يعترض فيضربونه بأطراف الرماح، يشجون رأسه حتى يغشى الدم عينيه، يستمع لصرخاتها وهي تبتعد وكلما حاول التحرك غزت صدره سنون الرماح حتى تغيب الصرخات في صمت الليل.

يتقدم نفر وينزع التاج المعقود على رأسها، يرتجف قليلا عندما تعلو نوبة جديدة من عواء الضباع، تنسال جدائل شعرها المقدس فوق كتفيها، كان من المحرم على الرعية أن تلمح طرفا منه، ولكن "نفر" يمد يده ويأخذ جديلة منه بين أصابعه، تسري نعومتها الباردة داخله فيوشك على الاجهاش بالبكاء:

ـ حين عادت في أخر الليل كانت محلولة الجدائل، لم تكن مسترسلة أو وادعة كجدائلك، كان شعرها ممزقا، وجهها وجسدها كانا مملوءين بالجروح والرضوض، كأن ثور قد هاجمها وليس فرعون سلب منها ليلتها الأولى. يزيح الثوب الكتاني من على صدر الملكة، لا أثر للجروح أو الرضوض، ربما لم يكن الفرعون يجرؤ أن يكون معها بمثل هذا العنف، وربما هي خديعة من القمر حتى يظهر كل شيء تحت ضوئه ساجيا وبريئا، يحس "نفر" بذل مرير وهو يزيح الكتان الممزق من على الجسد الآخر، يغسل ما علق به من دم وطين، يتحسس ضلوعه المرتجفة الهشة، جسد صغير، مهان، بالغ التألم، تنسرب منه مياه الحياة رغما عنه، يبكيان طويلا وهو يهتف بها: "يا أختي الصغيرة سوف ننسى، لابد أننا سوف ننسى"، يغفوان سويا من شدة التعب والإجهاد، وعندما يستيقظ لا يجدها، يعدو على طول النهر، سفينة الفرعون قد رحلت ولكن هل تبددت الكوابيس؟ يواصل يعدو حتى يجد جمعهم، خليط من الفلاحين والصيادين، وجسدها مسجي أمامهم، عارية ولكنها مستورة بطبقة من الطين، اختفى كل ما فيها من جروح وكدمات ولم يبق ظاهرا تحت ضوء النهار إلا ملامح الموت، موت قذر ممض، وليس موتا نظيفا كموت الملكات، يستدير نحو تابوت الملكة ويتقدم منه، تكتمل دورة من برد الليل وعواء الذئاب ورماد الذكرى وموات القلب ومهانة الروح ولا تبقى إلا لحظة الحساب.
[SIZE=3]

محمد المنسي قنديل مجلة العربي يونيو 1999[/SIZE]
أعلى