محمود تيمور - في ظلمة الليل .. أسطورة فرعونية

(تحية للأستاذ يحيى حقي)

في أصيل يوم من الأيام، كان (الشيخ حابي) في بستانه الصغير، أمام داره المتواضعة، يتعهد تخيلاته ويستريض. فاسترعى انتباهه خفق أقدام، فالتفت نحو مصدر الصوت، فإذا بفتى يسير صوبه، وهو يدفع - في جهد - قدميه المتعبتين، وقد علاه الغبار، فاختفت ملامحه؛ بيد أن الناظر إليه يستطيع أن يلمح في عينيه على الفور حيرة الغريب. وكان يحمل في يده صرة؛ فخف الشيخ للقائه، وما إن اقترب منه، حتى سمع الفتى يقول في صوت الهامس:

- الشيخ حابي؟

- هأنذا. . . ما مطلبك؟

ووجد (حابي) الفتى يتخاذل أمامه، فأسرع إليه، وأسنده إلى صدره، محيطاً إياه بذراعيه، وقال له:

- أمريض أنت؟

- بل جائع!

وسار به (حابي) إلى داره في رفق، وأجلسه بجوار الباب على مصطبة عارية، وتركه برهة. . . ثم عاد إليه بإبريق مملوء باللبن، فأخذ يعب منه الغريب، حتى شبع. . . وبعد أن تنفس طويلاً، تمتم بكلمات الشكر لمضيفه، ثم أطرق وقتاً. . . وأخيراً، رفع رأسه، وسرح بصره في الشيخ، والكلمات تتراءى حيرى على شفتيه. . . وابتسم الشيخ ابتسامة تنطوي على عطف وطيبة، وقال:

تكلم يا بني، ولا تخش بأساً. . . ما حاجتك؟ أن حابي لا يرد حاجة الغريب!

فأمسك الفتى بيد الشيخ، وضغطها في انفعال، وقال: - لقد حدثوني انك تأتي بالمعجزات، فسعيت إليك أطلب معجزة!. . .

فتأمل الشيخ وجه فتاه طويلاً، يحاول أن يستكنه ما خلف تلك الصفحة المتربة التعبة من خفية نفسه، وقال:

- معجزة؟. . . لست كاهناً يا بني!

- أنت أعظم من كاهن. . .

- أفصح عن غرضك!

- إن قوة تعاويذك وعقاقيرك يا أبت مستمدة من روح الآلهة. . .

- أنا حكيم زاهد، قد أنجح في مداواة النفوس وتطيب الأجسام. . .

وحدق الفتى في الشيخ بعيون جاحظة، ثم هبط أمامه، وقال وقد تشبث بثوبه:

- وحق إيزيس لتنتزعن نفسي من بين جوانجي، ولتلقين بها بعيداً عن جسدي!

- هدئ من روعك. . .

- إني أمقت هذه النفس الخاملة الميتة. . . لتخلقني خلقاً جديداً، ولتجعلن مني رجلاً ذا بأس واقتدار!

وجعل الشيخ يلاطف رأس الفتى، ثم أنهضه في وداعة، وأجلسه بجواره. وبعد حين، قال له في هدوء ورزانة:

ارو لي قصتك يا بني. . . إني مصغ إليك في انتباه!

ودعم الفتى وجهه براحتيه، وراح يرسل الطرف أمامه في ذلك الفضاء العظيم، حيث يبسط الغسق على الكون غلالته السوداء. وأنصت برهة إلى ما يحيط به من صمت شامل. ثم تكلم فإذا به يقول:

أنا راموسي. . . ولكن ماذا يهمك من أسمي؟ أن راموسي نكرة لا يحس وجوده أحد

- تكلم!

- إني أسكن على مسيرة شهر من هنا. . .

- في بلدة رنسي؟

- نعم!

- ذات المعابد الأربعة، والمسلات الخمس؟! فواصل (راموسي) حديثه، وقد رق صوته وضعف: وحيث تسكن الأميرة أشمس. . .!

وطأطأ رأسه حيناً، ثم رفع عينه بغتة، وسددها في وجه (حابي) وقال في صوت غير متساوق النبرات:

أريد أن أكون عظيما. . . أريد أن أكون مثرياً. . . تزخر خزائني بالأموال. . . أريد!. . .

فابتسم الشيخ في هدوء، وقاطعه قائلاً:

أنه ليس بالطلب المستحيل. . .

فاستنار وجه الشاب بلمعة متلألئة. . . وقال:

إذا ستأتي لي بمعجزة!

- أن ما تسميه أنت معجزة يا بني، أسميه أنا أمراً قد يستعصي على بعض الناس، ولكنه في مقدور آخرين!

فهوى (راموسي) على يدي الشيخ، وانهال عليها تقبيلاً، وهو يقول:

شكراً شكرا، ًسأذكر لك ذلك الجميل ما حييت، وسأعوضك عنه أضعافاً مضاعفة. . .

ثم رفع رأسه، وقال:

أما الآن، فليس لي ما أقدمه لك سوى. . .

وتعثر لسانه بالكلمات، فسكت وأشار إلى الصرة التي بجواره، وفتحها بيد راعشة أمام (حابي) فنظر فيها الشيخ، فإذا بخليط من قطع المعادن، بينها شيء قليل من الفضة والذهب. وتابع (راموسي) كلامه وقد غض من بصره:

- هي كل ما تبقى لي مما أملك!

- أبقها لك. . .

- إنها قليلة. . . أعرف ذلك!

- كلا، فهي كثيرة إذا كانت منك. وهذا يكفي. . . ولكنني لست في حاجة إلى عطاء الناس. . .

- أبت!

ونهض (حابي) في هدوء وهو يقول: - إلا ترى يا بني أن الليل قد أقبل يحمل في أعطافه برد المساء، وأنا كما ترى شيخ. . .

- هيا. . .

وتركا المصطبة، ودخلا قاعة غير رحيبة، بسقف منخفض تكاد تكون عارية إلا من حصير وغطاء

وأشعل (حابي) مصباحه الزيتي، ثم جلس وأراح ظهره على الجدار وقد طوى يديه إلى صدره. وجلس (راموسي) قبالته متربعاً، لا يفصله عن الشيخ إلا المصباح. . .

وانقضت برهة لم يتكلم فيها أحد منهما

ثم سمع (حابي) يردد في صوته الرزين:

- إني مصغ إليك!

فلم يحول الفتى عينيه عن المصباح وقال:

- كيف ابدأ لك قصتي. . . حقاً أنه لجنونٌ ما فكرتُ فيه. . . غير أني لست نادماً على شيء. . . لقد كنت أحيا يا أبت متبطلاً، أخرج من داري المهدمة إلى النهر أرتاض على شاطئه حيث بساتين الأمراء، أقضي اليوم كله متنقلاً بينها، أستمتع بمرأى الرياحين، وأستنشق عرفها الزكي. فإذا تعبت استرحت بجوار الماء وأخرجت نايي أناجيه ويناجيني!

- أموسيقي أنت؟

لم أجرب أن أصفر إلا لنفسي. . .

وأخرج (راموسي) من ثنايا ثيابه ناياً من غاب ساذج المظهر، وأراه الشيخ قائلاً:

- أنه زميلي الذي لا يفارقني أبداً. . . زميلي المطلع على سري، العالم بما يجيش في قلبي من أمان وأطماع!

- أمان وأطماع قد تبدو لك بعيدة التحقيق!

- أنني أضعها بين يديك، فافعل بها ما أنت صانع!

- ألم تكن راضياً عن حياتك الهادئة؟

- كل الرضا!

- إذاً (هي) التي غيرت حالك. . .

- من هي؟ - تلك التي ذكرت اسمها، مشرفاً بذكره مدينة رنسي!

- نعم، هي أشمس، أميرة الأميرات، وأقربهن صلة بفرعون الأعلى!

- أتمم حديثك. . .

- رأيتها يوماً تتنزه في بستانها، فسحرني لأول نظرة جمالها؛ رأيتها ترتاد الخمائل في حاشيتها؛ فجعلت أرقبها خلف دغل من الأشجار، وأضاءت نفسي على التو شمس وهاجة أنارت لي دنيا عظيمة كانت مختفية عني. وإذا بي أقطع على نفسي عهداً بأنها لن تكون لسواي. . . ولما عدت إلى داري، وراجعت هجسات ضميري، هزئت بنفسي، وكلي سخط وألم. ولكن عهدي ما زال ثابتاً على الرغم من كل شيء، لا يتقهقر ولا يتزايل، بل يتقدم في جرأة وإقدام. . . ولكن كيف أنفذ ذلك العهد؟ هذا ما كان يحيرني ويحز في قلبي. منذ ذلك اليوم جعلت طريقي إلى بستانها لا أعرف سواه، أقضي على مقربة منه يومي، أراها ولا تراني. فإذا ما صعدت في قصرها انتحيت نحو الشاطئ، وتخيرت مكاناً ظليلاً، وبثثت شكواي للناي، فكنت أسمعه أحياناً يهمس لي: (لماذا لا تحاول التقرب إليها؟. . . . . . لماذا لا تكشف لها عن كوامن صدرك؟. . .)

- ولماذا لم تصدع بما أوحي لك به نايك؟

- أتريد مني أن أستمع لذلك الساذج الغرير؟ ألم أقل لك من هي؟ أن فيها من دم الآلهة يا أبت!. . . وكلنا نعلم أن عظاماً تقدموا إليها بقلوبهم، فردتهم خائبين. . . لقد أمضيت يا أبت الليالي الطوال أفكر في مصيري معها. . . لابد أن تقع معجزة تحولني من صعلوك بائس إلى أمير يفوق جميع الأمراء، يرضاه فرعون وترعاها ايزيس. . . وكان أن اشتد بي الضيق يوماً، فجريت صوب النهر، وهممت أن ألقي بنفسي إلى التماسيح. . . في تلك الساعة الفاصلة، سمعت هاتفاً يقول لي: (اذهب إلى حابي الحكيم، فعنده تتم المعجزة)

فتمتم (الشيخ حابي):

- أقال لك الهاتف ذلك؟

- قسما بإيزيس ربة الأرباب، لقد سمعت صوته واضحاً يرن في أذني. وكانت التماسيح قد خرجت برءوسها تنظر إلي متنمرة فوجدتني في لحظة أقفز متراجعاً عن النهر، وانطلقت أعدوا. . . أكنت أعدو حقا؟ لا أدري! كنت أحس أني محمول بقوة خارقة غير منظورة. .

وفي الغد بعت ما أملك، واستصفيت مالي، وحملت زادي، وسرت ووجهتي دارك!

فأمسك (حابي) بيدي (راموسي) وضغطهما وقال:

- ستتم المعجزة يا ولدي، فاعتمد علي

- إذاً ستجعلني أمير الأمراء؟ وإذاً ستجعل من أشمس زوجة لي؟

- أن علمي لا يتطاول إلى مثل هذه الأمور!

- كيف؟

- كل ما أقدر عليه أن أعمل على تغيير نفسيتك. . .

- أوضح يا أبت!

- سيتغير فيك كل شيء، شمائلك الأصيلة ستنقلب إلى ضدها، الخمول سيغدو نشاطاً متأججاً، والقناعة ستكون طمعاً صاخباً، والرحمة ستفسح مكانها للقسوة والعنف. . . ستكون حياتك يا راموسي كالبركان الفوار، لا يخبو له لهب، ولا يسكن له زئير!

فطأطأ (راموسي) رأسه، وقال:

- أبت!

- ليس ثمة طريق ينيلك ما تطلب من ثروة وجاه ومجد، إلا هذا الطريق!

وصمت (راموسي) فترة، ورأسه منحن على صدره، وبغتة رفع وجهه إلى (حابي) وقال:

- ولكن حبي، حبي. . . أيعتريه تغير؟

- حبك باق بقاء الروح الخالدة. . . ولكن!

- ماذا؟

- أواثق أنك ستكون سعيداً بنفسك الجديدة، بعد أن تتم المعجزة؟ وانه لن يطول بك الحنين إلى نفسك الأولى؟

-. . . افعل بي ما تريد!

ودارت عجلة الحياة: الأيام تلو الأيام، والأشهر إثر الأشهر. . .

وكان ملك الغرب قد دفعه الطمع إلى امتلاك مصر، فسير إليها الجيوش الكثيفة؛ فغزت المناطق الشمالية في غير عسر، ثم اندفعت في طريقها تكتسح أمامها جند الوطن. ولم يجد تعيين القائد الكبير (رودا) أميراً على الجيش الذي أرسله فرعون لإنقاذ البلاد. . . إذ أصيب (رودا) بهزيمة نكراء، وقتل في المعركة، وكاد الجيش يتفكك ويندثر، لولا أن قيض الله له شاباً من بين المحاربين تزعمه، فأخذ يجمع شمله، ويبث فيه روحاً جديداً؛ فلم ينقض وقت طويل حتى انقلبت الهزيمة إلى هجوم، ثم انته الهجوم إلى مطاردة للعدو، فاكتساح كامل له. واصبح هذا الشاب قائداً للجيش، ولقب نفسه بالأمير الأسود، إذ كان يرتدي السواد دائماً. . . ولم يقتصر هذا الأمير على تطهير البلاد من جيش العدو، بل تابع زحفه في جرأة غريبة، ففتح (مملكة الغرب) بأسرها، وأخضعها لسلطان مصر، فصارت تابعة لها. . .

كانت (رنسي) المدينة ذات أربعة المعابد وخمس المسلات حاضرة مصر الثانية، تحتفل احتفالاً شائقاً بقدوم الجيش المنتصر، وعلى رأسه أميره الأسود، فقد عاد محملاً بأسلاب وغنائم لم يأت بها قائد منتصر من قبل. وكان موكبه حافلاً بالأسرى العظام من الأمراء والحكام وسراة الدولة المغلوبة. أما بقية الأسرى من الدهماء، فقد اكتفى بقطع أيديهم، وأطلق سراحهم، حتى لا يعطلوا سير الموكب بكثرة عددهم. ولكنه احتفظ بتلك الأيدي، فحملها معه ليقدمها إلى فرعون، رمزاً للخضوع والطاعة!

وتمت مراسيم الاستقبال في عظمة وفخامة جديرتين بالقائد العظيم والفاتح الكبير!. . . ولكن الأميرة (أشمس) أولى أميرات البيت الفرعوني، تخلفت عن حضور الاحتفال، وأرسلت تعتذر لفرعون. وكان فرعون يعرف شذوذ طباعها واعتزالها العالم، فقبل عذرها على مضض. ولكن رسول الأمير الأسود جاءها يحمل من الأمير نفسه رغبته في زيارتها قبل الغروب لأمر ذي بال؛ فلم تجد مخلصاً من استقباله، وأمرت أن يعدوا القصر لهذا القدوم.

وأخذ الأتباع يعلمون بجد واهتمام في تزيين القصر، فما كادت الشمس تؤذن بالغروب حتى برز القصر في غبشة الظلام كأنه قطعة من لؤلؤ تتألق؛ وانتشر الطيب الذكي في أرجائه، فكأنه روضة فواحة من الأزاهر النضرة.

وجاء الأمير في الموعد في حفل من قواده، ودخل القصر وهو يضرب بقدميه الصلبتين الأرض ضربات شديدة تردد صداها جوانب المكان، ويلتفت يمنة ويسر بوجهه الرائع الذي تنم كل لمحة من لمحاته على رجولة قوية قاسية. وكانت لعيونه الواسعة إشعاعات قوية باهرة لا تقوى عين أُخرى على تحديها. . .

وما أن دخل البهو الكبير، ورأى الأميرة واقفة في صدره تحف بها وصيفاتها، حتى توقف بغتة، واتسعت حدقتا عينيه، وتفتح وجهه في لحظة بنور متألق تشيع فيه الأحلام. وأمسك بيد رفيق له بجانبه، وشد عليها؛ وطالت وقفته على هذه الحال والناس من حوله صامتون. وأخيراً همس رفيقه في أذنه:

- مولاي! إن الأميرة تنتظرك. . . تقدم!

وتقدم الأمير الأسود بخطوات لم تردد صداها جوانب المكان هذه المرة، وركع أمامها ركعة المتبتل أمام ربه فأنهضته، وهي تقول:

نحن الذين يجب أن نركع أمام المنقذ العظيم!

ورفع وجهه أليها، وقال في صوت خفيض:

عفواً مولاتي!. . . أمام هذا الجمال الإلهي الذي هو قبسة من رع، ونفحة من إيزيس، يستشعر القائد العظيم ظآلة نفسه وتفاهة مجده!

- سيدي!

- ليس ثمة عظيم أمامك يا مولاتي!. . . كلنا من أتباعك المخلصين!

وتهامس الناس فيما بينهم دهشين حيارى:

لم يشاهد الأمير على هذه الصورة، حتى في حضرة فرعون الأعلى!

وبدأت الجموع تتفرق والمكان يخلو للضيف وربة القصر، وأخذ القائد يروي وقائعه، ويعدد أسلابه، ويذكر ما ناله من مال وضياع تتعادل معها أموال فرعون العظيم. وختم حديثه قائلاً:

إن الأميرة لتعلم أن فرعون بلا عقب، وهو الآن شيخ مثقل بالمرض، وقد طالبته الكهنة بتبني أمير يجعله ولياً للعهد، أمير أهل لهذا المنصب الخطير. . .

- وهل وقع اختيار الملك على هذا المحظوظ؟

فابتسم الأمير ابتسامة ذات معنى، وقال:

لقد أتم اختياره سراً، وسيعلنه غداً في الهيكل الكبير!

وصمتت (أشمس) وهي تتفحص الأمير طويلاً. . . ثم انحنت في خشوع وهي تقول: يسعدني أن أكون أول من يقدم طاعته لصحب التاجين، وريث ملك الفراعنة العظيم!

فأمسك الأمير بيدها، وقال:

هذا الملك العظيم، وهذا النصر الباهر، وهذه الأموال التي لا يستطيع أن يحصيها أحد. كل ما كسبته وما سأكبه، أضعه تحت قدميك أنت يا أميرتي، ويا مولاتي!. . . أقدم لك كل هذا مقابل شيء واحد منك. . .

فأسبلت الأميرة جفنيها، وتابع الأمير حديثه في لهجة مشبوبة:

كلمة منك يا أشمس تجعل هذا الوادي الفسيح بسكانه وكنوزه، هذا الملك الضخم طوع يديك. . . قولي كلمة الرضا، ثم مري، فلن يعصي لك أحد أمراً. . .

ونهضت الأميرة، وهي تقولي في صوت حبيس:

ألا نذهب إلى الشرفة فنلقي نظرة على البستان؟

فأجابها الأمير، وهو حائر:

كما تريدين!

وذهبا إلى الشرفة، وأطالت الأميرة النظر إلى الحديقة، وهي تصعد بصرها في أشجارها وأزاهيرها. ثم قالت:

أيسمح لي الأمير أن أقص عليه قصة صغيرة؟

فأجابها، وهو يزداد عجبا:

إني مصغ إليك يا أميرة!

- كان في الزمان الغابر فتاة من الأثرياء، من أسرة رفيعة النسب؛ تحيا ناعمة البال في قصرها ذي البستان الكبير حياة ترف ورغد، ولم يكن لها مطمع تصبو إليه إلا العثور على أليف تنعم معه بحب ووفاء، شأنها في ذلك شأن كل فتاة. وحج إلى قصرها أعلى الأمراء شأناً، وأكثرهم جمالاً وثراء يطلبونها للزواج فردتهم بلا أمل. . .

- ولم ذلك!

- لأنها كانت مخدوعة بنفسها، مغرورة بجمالها، فلم يرقها واحد من هؤلاء الأمراء!

- ومن كانت تنتظر أن يتقدم لها بعد هؤلاء، وهم صفوة البلد. . .؟!

وتريثت الأميرة في إجابتها، وهي تسرح طرفها في الأفق حيث الظلام مقبل في وحشته وصمته وأسراره. . . وقالت:

- هي نفسها لم تكن تدري، ولكنها على الرغم من ذلك كانت تنتظر وتؤمل!

- وهل طال انتظارها؟

- كلا!

- إذاً عثرت على ضالتها؟!

- نعم أيها الأمير. . .

- أكان قائداً غازياً؟

- كلا!

- أوزير خطير هو؟

- كلا!

- إذا هو ملك من نسل الآلهة!

- ولا هذا أيضاً. . .

- من يكون؟!

- وأرسلت الأميرة تنهدة خفيفة وقالت في صوت الهامس:

- شاب رقيق الحال، مرهف الشعور!

- وما مهنته؟

- ليست له مهنة، كان يقضي أيامه يجوب البساتين، ويتنزه على ضفاف الانهار، يستمتع بمحاسن الطبيعة!

- أنها حياة أقرب إلى التبطل والصعلكة. . .

فتمتمت الأميرة بلهجة الحال، وهي تستقبل بعينيها كتائب الظلام المكدس بعضها فوق بعض:

- قد يكون ذلك، ولكنه الوحيد الذي استطاع أن يصهر كبرياءها، ويحطم تاج غرورها!

فندت عن الأمير صرخة:

هو؟!. . . أممكن ذلك؟

أجل لقد أحبته الفتاة، أحبت فيه ذلك الشاعر المرهف الحس، ينشدها أعذب ألحانه وأرقها! - أكان شاعراً ينظم لها القصائد، وينشدها إياها؟

- كان ينظم قصائده بلا كلام، وينشدها إياها من مزماره الرخيم!. . .

فأصابت الأمير هزة شديدة، وقال في صوت جياش:

- وهل تقابلا؟

- كلا، فهي لم تره، بل أغرمت به على البعد!. . . ولا تدري أراها، أم لا؟!

- لا ريب في أنه رآها. . .

- ليس ذلك مؤكداً، فعيون هذا الشاعر الجوال، كانت أقصر من أن تخترق خمائل البستان أو جدران القصر، لتكشف عن الفتاة وتلتقي بعيونها!

- يا للفتى البائس!. . . لو علم أنها تضمر له هذا الحب لطار إليها، وارتمى تحت قدميها يلثمها في عبادة. . .

- من يدري أيها الأمير؟. . . أنه فتى غريب الأطوار، يعيش وفق هواه. . . قد يرفض حبها لو تقدمت به إليه!!

- محال!

- ولكنه لو كان يعلم كم أحبته هذه الفتاة، وكيف أنه ترضي أن تعيش معه تقاسمه حياته الطليقة في دنياه الرحبة الوضاءة لقبل منها هذا الحب!

وتمتم الأمير بكلمات متقطعة، وقد شد بيده على حاجز الشرفة حتى كادت أصابعه تدمى، وتابعت الأميرة حديثها:

- لقد برمت الفتاة بحياة الثروة والجاه التي تحياها، وتوضحت أمامها بشاعتها، وأحست ثقلها المرهق يحبس أنفاسها. فرغبت أن تفر من بيئتها، تستبدل الكوخ الساذج الهادي بالقصر المنيف الصاخب، والرداء الخفيف المزين بالأزهار بالثوب الثمين اللامع بأوصال اللآلئ. . . لقد برمت بكل شيء يحوطها، واشتدت بها الرغبة أن تهرب، فتلحق بشاعرها تقضي حياتها في حمى مزماره!!

- ولكنها لم تفعل!

- لقد كادت. . . ولكن الفتى اختفى فجأة!

- أهرب؟ - إن الناس يرجفون بموته، فقد تكون التماسيح أكلته. . . ومن ثم أسدلت الفتاة على حياتها ستراً غليظاً يحجبها عن العالم أجمع!

- قد تسلوه يوماً، فترضى الزواج بأمير كبير!

- إن القصة تحدثنا أن الفتاة قضت في عزلتها عامين، وهي لم تتغير. . . إنها لا تطلب الأمير، ولن تطلبه، بل ستحيا مترقبة شاعرها الفقير كما هو بردائه الساذج، وقلبه الكبير. . . لن تستبدل به أحداً مهما يعظم قدره ويتسع ماله!

- وهنا تنتهي القصة. . . أليس كذلك!

- تكاد تنتهي، والبقية في كلمتين، أتريد أن أتمها لك؟ فقال الأمير، وهو يضغط كلماته في حسرة مكتومة:

- إذا رغبت، أتممتها أنا لك!

فتمايلت الأميرة، وعرضت على وجهها ابتسامة، وقالت:

- كيف؟ أو تعرفها؟

فقال في شيء من السهوم:

- إن حذقك في رواية القصة، قد جعلني أحزر خاتمتها!

وراح الأمير يحد بصره في نجوم الليل البعيدة، كأنه يريد أن يستلهم منها كلمة نصح أو هداية. . . ولكن لم تطل وقفته على هذه الصورة، فانحنى أمام الأميرة، وقال:

- لن أنسى ما حييت حسن احتفائك بي!

وقبل يدها قبلة طويلة عميقة، ثم ترك المكان لا يلوي على شيء. . .

واستقل على الفور عجلته الحربية، واستأذن رفاقه!

وانطلقت به العربة، هائمة في أديم الصحراء، تشق أمامها سجف الظلام شقاً!. . .

محمود تيمور

مجلة الرسالة - العدد 312
بتاريخ: 26 - 06 - 1939

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى