يحيى حقي - نجيب..

كان من حسن حظى اننى جاورت نجيب محفوظ ثلاث سنوات فى مصلحة الفنون.. مكتبه بجانب مكتبى، قمت ذات يوم لأطل عليه.. لم ألحظ أن الباب مقفول على غير العادة.. أتوقع أن آراه جالسا إلى مكتبه انه يصل اليه كل يوم فى الساعة الثامنة بالضبط.. وينصرف فى الساعة الثانية بالضبط كأنما الفيلسوف «كانت» عاد عندنا للحياة من جديد.. نجيب يلتزم الواجب وينأى بنفسه عن كل مساس بخط سيره..

فوجئت اننى رأيته وسط الحجرة قد رفع رأسه إلى السقف.. علقت نظرتى بجبهته، أحب أن أتأمل جباه رجال الفكر، وضاءة كأنها اشعاع نور باطنى.. يداه مشتبكان وراء ظهره.. جسده مشدود كقوس المنجد لو لمسته بأصبعك لنفضك..

لم يحس بدخولى، ولا بوجودى بل أخذ وهو فى هذا التوتر الشديد يزرع الحجرة ذهابا وايابا.. عرفت فيما بعد أنه مقبل على تأليف رواية «اللص والكلاب»..

حضرت لحظة مهمة فى فكر المبدع، كان نجيب قد جمع مواده الرئيسية فى ذهنه.. ووضعها مبعثرة فى كيس.. حضرت لحظة هندسة العمل وضع الاشياء فى اماكنها متناسقة مسلسلة بعضها يأخذ برقاب بعض.. نجيب استاذ فذ فى فن هندسة الرواية، النسب والتناسب والمكان الصحيح، توقعت له ان يمر بمرحلة اخرى وتمثل فى ذهنى فلاحة جلست الى ماجور، وتأملت مالديها من دقيق، وحسبت بسابق خبرتها ما يلزمه من ملح وماء ثم أخذت يداها تفركان هذا الخليط وتصطاد ما تناثر منه ثم تعمل يداها فى العجن واللت لا تنقطع لحظة حتى يصبح فى الماجور كتلة من العجين متماسكة لها عرق ينجيها من الفسولة،، غاب الكل فى الجزء وغاب الجزء فى الكل حتى الهندسة غابت فى هذه الكتلة، وتتحقق الروابط بين المعطيات وبين الالفاظ مهما تباعدت.. هى لحظة من اسعد لحظات حياتى اننى حضرت مخاض اللص والكلاب، وحينما قرأتها أثنيت عليها ثناء جما، ولعلى لم اقل حينئذ إن من اسباب انبهارى بها اننى وجدت نفسى أعيش داخل محفل صوفى، تتردد على سمعى جميع ألفاظ ومصطلحات القاموس الصوفى.. لا تضحك اذا قلت لك ايضا إن العمل العظيم كالنهر العظيم له روافد جانبية تثريه وتطغى عليه.

يجب البحث فى كل ما كتب نجيب عن تلك الروافد أنظر اليه فى الثلاثية، كيف كان من روافدها التاريخ للأغنية المصرية فى عهد الرواية..

اننى ابحث فى كل نثر عن لمسة من الشعر، وقد خضع النثر فى الرواية لارهاب استمر زمنا طويلا.. يقول بعض النقاد إن الاسلوب الأدبى فى الرواية عائق يقف بين القارئ واستمتاعه بالرواية كفن مستقل قائم بذاته، يطلبون اولا من المؤلف التزام الحياد التام ازاء شخوصه فترتب على ذلك ايضا حياده التام ازاء الاسلوب فى الرواية فيصبح مستقلا عن الانفعالات التى يعبر عنها..

فتشت عن هذه اللمسات الشعرية عند نجيب محفوظ وجدت اروع مثال لها فى مناجاة كمال لنفسه فى الثلاثية وهو يسير خلف نعش لا يعلم انه يضم حبيبته.. لا اخجل اذا اعترفت لك بأن عينى اغرورقتا بالدموع وانا اقرأ هذا الشعر الجميل المنثور، كما اغرورقتا وأنا أشهد الست أمينة مطرودة من بيتها لانها خرجت دون اذن زوجها ولو لزيارة مسجد قريب..

وضعت يد رحيمة كريمة فى مهد نجيب محفوظ موهبة ورسمت له اصلح طريق يسلكه.. هاهو ذا يدخل كلية الفلسفة لا الآداب ولا التربية فلا ينبغ كاتب قصصى الا إذا كانت له ذخيرة متكاملة من الفكر الفلسفى فى جميع العصور.. وقيل له وهو فى مهده انت مخلوق للفن الروائى فالزمه، فالتزمه ولم يحد عنه رغم اى اغراء، وقيل له انك ابن القاهرة وحى الجمالية فالزم مسرحك، فالتزمه رغم أى اغراء بأن يستجيب الى مطلب من اهتمامه الى القرية.. صدقت موهبته وصدق هو معها..

ورفض نجيب ايضا الخضوع لمطلب ان يكون الحوار دالا على صاحبه فيتكلم الجزار والنجار بالعامية لأنه يصدق احساسه الفنى ودراساته فهم أن كل عمل فى جميع الفنون مسبوق بكلمة كأن، فالعمل الفنى هو حقيقة متوهمة أو هو وهم محقق فى الواقع الخارجى فالتزم كتابة الحوار بالفصحى..

ينبغى للغتنا الشريفة أن تجله وتحمد له إخلاصه لها وهاهو ذا انضم الى النادى الذى يجمع جميع من نبغ بالفصحى من شعر ونثر منذ اقدم العصور الى يومنا هذا..

اذا مسَّك غم أو هم وأردت ان تغسل قلبك فاذهب الى ندوة نجيب محفوظ، ستدلك عليها وانت بعيد جلجلة ضحكة منطلقة بانشراح من صميم القلب.. لأجل هذه الضحكات كنت اقصدها فيما مضى.. روح الفكاهة متفجرة ليست وليدة تلاعب لفظى أو من قبيل الدخول فى قافية فى قهوة بلدية، بل هى وليدة فهم لمتناقضات الحياة والطبائع وخداع المظاهر مبرأة من وصمة السخرية، لا ينبغ كاتب إلا إذا رأيته احيانا يضحك ضحك نجيب محفوظ..

وهذه الأيام التى تزدحم الدنيا حول نجيب لم ينس ان يذكر صداقتنا الحميمة اين منها أخوة الدم.. أسأل نفسى كيف وصلت ذكراى اليه وسط هذا الزحام.. من اكبر نعم الله على هذه الصداقة التى ربطت بيننا لا تعادلها نعمة أخرى..

ومسك الختام اقول يانجيب انت تحس معنا جميعا بفضل التحامك بامتك مذ كنت، أن هذه الجائزة هى كاشفة غير منشئة لقرار اجماعى من شعبك بأنك تستحق هذه الجائزة، ولذلك فلعله لأول مرة فى تاريخنا ان تعم الفرحة كل قلب وفى كل بيت لان اديبا من ابنائنا قد نال الاعتراف به على الساحة الدولية..



* عن الاهرام

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى