سعيد الكفراوي - دوائر من حنين.. قصة قصيرة

قالت لي جدتي قبل أن تغادر، لحظة أن شاهدتني أنتفض قرب النهر: "ثق أن كل شيء ليس كما نراه. خذ هذا الدواء فربما يشفي قلبك، ويطهر روحك من الحنين. شربت الدواء فلم يبرأ القلب، ولم تتطهر الروح"؟

الغليون


أتى الصوت كأنه ينبع من حلم، كأنه يخرج من حكاية خيالية. يدور في الحواري الضيقة لبيوت الطين، كأنما تجمد هناك في الفضاء المفتوح، يرجف القلب كالصلاة المؤلمة.

"أوووو... أوووو"

لم يسبق للخلق سماع مثل هذا الصوت منذ بدأت الحياة تدب على أرض هذا المكان، لذا اندفعوا تجاهه رجالا ونساء وعيالا. كانوا قد وقعوا في قبضة السحر وانتهى الأمر.

خبطات من أقدام حية، وأصوات تصاحب خفقات طرح النساء الخافقة في لحظة الرضا الإلهي، وسرب من طيور بيضاء يحلق في البعيد.

كانوا يندفعون ناحية النهر
وكنت -أنا الصغير- أندفع وسطهم وقد اختلط علي زمني وبقلبي خوف غريب.

"أووو... أووو"

لما تجلى لنا النهر الذي نعرفه كراحة اليد رأيته سابحا على الماء فشهقت.

يقترب رويدا، رويدا كعمارة بيضاء زاهية. تطلق مدخنته دخانا رماديا كشبورة الصباح. يصعد في النهر سابحا في مداره كنجم.

"أووو...أووو"
صرخ أحد العجائز:
باجور البحر!!"
أجابه آخر:
"الغليون"

نهرنا منذ وجد لم يعرف سوى قوارب الصيد الصغيرة، والمراكب الراحلة تحمل الجرار والرمل. يدفع أشرعتها الهواء المواتي، أو يسحبها رجال هدهم التعب مطلقين أغنيات الحنين.

"أووو ... أووو"

لما اقترب انفلق قلبي فلقتين، واحدة أخذته للدهشة، والأخرى رمت به للحلم، يشق الماء كإله قديم.

عمارة بطوابق ثلاثة. ستائر من قطيفة حمراء مسدلة على نوافذ مشغولة، وبحارة بملابس بيضاء ينظرون تجاهنا مبتسمين، وبنات يطلقن أغنيات تصاحبها موسيقى بنغم غريب.

صاح العجوز:

"غليون" عباس "باشا"

لمحت علما أخضر بهلال وثلاثة نجوم يخفق على السارية. أدركت لحظتها كأنني في غير زمني، وأنني أشاهد الصور التي تعرفت عليها في الكتاب.

حازانا الغليون وغادرنا. يسحبني خلفه من بين الجماعة. تركت البلد وعدوت على الشاطئ حتى خرجت إلى المدى المتوج بالأرض والسماء، أعدو خلف الغليون وبقلبي يشرق النور.

تعبت فجلست على الشاطئ محدقا. شاهدت امرأة تقف عند السور، على السطح تبتسم ناحيتي وقد رفعت يدها بالتحية. نهضت صارخا وأنا أشير: "مع السلامة"

كنت أقف على الشاطئ ألوح بيدي والغليون يغيب رويدا رويدا يتجعد الماء تحت ثقله حتى اختفى في الأرض البعيدة الموحشة.

مضت السنوات -العشرات منها- وكلما نظرت نهر قريتنا تصاعد من قلبي ذلك الصوت، وتذكرت تلك الأيام التي منحت روحي الثقة، والصدى المحمل بالحنين.

"أووو ... أووو"

محطة سفر


"سينجلي الليل بعد قليل".

تنفس الليل الريح. تبدو النجوم في مملكة السماء غير مطمئنة "برمهات" شهر قبطي تزهر فيه الأشجار، وفيه يعتدل الليل والنهار، وتزول الشمس الكبيرة، ويحتفل القبط فيه بأحد الشعانين.

محطة قطار بعيدة عن الوعي، مقطوعة عن العمار بينها وبينه ليلة من سواد، التي بيدها متاعها -زوجها وزوادتها- حيث يقفان على الرصيف في انتظار قطار لا يجئ "غالدنيا ضلمة كحل"

قالها الكهل -زوجها- فسحبته من يده وأجلسته على مقعد تحت مظلة لا تبين.

للريح القادمة من الجبل صوت استغاثة، وللرمل رائحة الموت. هؤلاء صنف من الناس ينهضون على عجل حاملين آلامهم في انتظار قطار يحملهم إلى المدينة البعيدة.

لا أحد شاهدهما وهما يغادران بيتهما القصي عن العمار

"الدنيا ضلمة... أنا خايف".

عوى ذئب البراري، واشتدت أصوات الليل المألوفة، وهوت المحطة في قبضة الظلام، ولا قدرة لهما على قهر سلطة الخوف.

"حالا القطر زمانه جاي".

"أنا خايف"

سمعته يبكي ويتألم. وأحست بخوف يتدفق منه حين رأته يلصق ركبتيه في بطنه مقاوما ألمه "الصبر. القطر زمانه جاي"

ثمة شيء لا يمكن مقاومته يطوف حول محطة الليل المغلقة تماما، والتي هجرها أهلها، ونافذة مفتوحة يصفعها الريح فيحدث تلك الضربات الجائرة في عمق تلك اللحظة غير المباركة.

أدركت بذهول مدى خوف الكهل - زوجها - فدست يدها داخل "الزوادة" وأخرجت شمعة أشعلتها. انفجر في الليل ضوء نحيل، لين بدد مساحة الظلام. سور من حجر. مصلية من عارجين النخيل. بناء من قرميد مقام من الزمن الاستعماري. درج يهبط حيث بركة ماء ساكنة.

نظرت إلى الكهل فرأت الدموع في عينيه.

"الصبر"

سمعا على البعد صوت القطار يأتي راجفا قلبهما جاء مقتحما بلا رحمة. لم يقف بالمحطة، لكنه وعلى نحو مفاجئ وهو يمضي محدثا تلك العاصفة من الريح أطفأ نور الشمعة فحل على الدنيا الظلام.

التوت البري


كلما أمعنت أمك في زجرك تحركت قدمك وأطاحت بالثمرة بجانب الدرج.

"احذر الصعود لشجرة الجميز. الجميزة لا تسمى باسم الله. شجرة التوت لها القلب الرحيم".

تعطيك ظهرها وتمضي، وبداخلك دوائر من القلق ورغبة في الفرار.

تعود قابضة على غربال تهف حبات القمح قائلة:

"وقع من فوق الجميزة" أحمد "بن المليجي فانكسرت رقبته. شجر التوت من خيار الشجر".

تكون قد مارست نبش قلبك، وطاردتك مخاوفك، وتمنيت أن تنتهي من سيل النصائح التي حفظتها من طول تكرارها.

تحدثك بالعلم الخفي، وتحكي لك عن المواسم، وعن الطير وتفتح أمامك كتاب السحر. تغادرها صاعدا ناحية الحقول، موغلا حتى أشجار التوت. في الطريق ترى جميزة "السحيتي" تضرب جذورها وتمد أفرعها العجوز على السكك، خالية من الثمر، وشحيحة الورق.

"حاذر .. تنهض الجنيات في الليل وتقيم تحت الجميزة أفراحها بالطبل والمزامير". تتجنبها وتخاف ظلالها، وتحتها تيارات من هواء ساخن.

التوتة بجانب سبيل الماء، لها الظل وخضرة الربيع وأنت تحت الخطو نحو مصيرك.

الآن تستقبلك محدقة في عينيك، وقد بذرت الأرض بثمرها الأسود. تهيأت لك لتمتطي ظهرها.

شجرة تلوح في النهار بحضورها القديم وارتباطك بها في كل وقت.

تصعد بدربة ومعرفة، وتتعلق بفروعها مطاردا الثمرات، عاصرا بشفتيك العسل، والنهار حواليك متوجا بالربيع.

يغويك الثمر فتصعد ورائه حتى الفروع البعيدة فيفاجئك عش اليمام حيث ترقد الأم بجانب فرخين صغيرين.

أنت واليمام. لحظة اختلج قلبك وددت أن تكون اليمامات لك. تصعد فلا تفر الأم ولا تتراجع عما انتويته.

تمد يدك للعش فتدفع الأم وقد أشرعت مخالبها مستهدفة عينيك. يدفعك الذعر إلى الهاوية متخبطا في الفروع صارخا وملتاثا. تفارقك أحلامك وصوت امك يأتي بالحديث عن التوت الرحيم. وأنت تهوي لا تنتظر رحمة الزمن ولكن تنتظر رحمة الشجرة.

قبل أن تدك الأرض بدنك يبرز فرع أمك التوتة فيلقفك فتتعلق به متأرجحا بين الحياة والحياة.

شيخ المنسر


"زمان وأنا عيل، يمكن كان عمري أيامها ست، أو سبع سنين كنت ألمحه واقفا عند شلال المياه الهابط من النهر حتى الترعة الصغيرة".

خلفه كنت أرى الشمس وأسمع الريح تضرب باللسان، وأرى بندقية معلقة بكتفه بروحين، مرتديا معطفا من صوف أحمر وعلى رأسه (لبدة) من وبر، وله شاربان يقف عليهما الصقر.

عمك الششتاوي العداسي "أوعاك تقرب منه ده شيخ منسر". يقولون.

كفي بكف أبي وطريقنا حيث يقف. أسمعه:

- ابنك ده يا سلامة؟

- خدامك.

- ابعته.

أحرن كجحش صغير وألبد في حضن أبي الذي يدفعني في ظهري بقبضته "مد يا ان..." فأخطو مقاوما أن ينفرط بولي، فإذا وا وصلته رفعني بين يديه وأنا انتفض من الخوف والمذلة منتحبا في وجه الشمس والريح حيث تحملان ضحكته التي تجلجل في المدى.

وكنا ونحن نتشمس على البحر مثل جراء الكلاب، بعد أن سبحنا ضحوة النهار والظهيرة، نحكي عن الصبايا اللائي خطفهن، وبيوت الكبار التي نهبها، والأرواح التي سلبها من أصحابها.

وعندما أنام بالليل بجانب جدتي "هانم" على أرض المقعد العلوي ويجافيني المنام، كنت أسمع ركض جواده وصهيله يأتيان من قلب قلب الليل.

بعدها غاب سنوات طويلة، ولما سألت أبي أجابني "اعتقلوه" فقلت له كيف؟ قال لي "في السجن يعني". وظللت طوال سنوات طفولتي وصباي كلما مررت على مكمنه عند النهر أنظر حيث كان يقف، أو يجلس وسط رجاله، تجلجل ضحكته المرعبة في الأنحاء.

سنوات كثيرة مضت وحكاياته تلمع كحد السكين، ويأخذني الحنين لحضور الآسر، وإلى أيامه وفي كثير من الأحيان كنت أسأل نفسي: هل كان بالفعل يعيش بيننا رجل مثل هذا في قرية التراب هذه؟.

لمزاولة الشمس حساب السنين، تلون هامات الرجال بالمشيب. عدت بعض سنين وقد فارقني الغلام الذي كان يقبض بوله، ويخاف في الليل من ركض وصهيل الحصان.

في المكان -عند شلال المياه- عريشة من دوالي، وشجرة ليمون، ونخلة بلا ثمر، وكافورة وسياج من الطين، وجراء تتزاحم حول ثدي أمها الغافية.

كهل يعيش الحد الأقصى من عمره تقوس منه الظهر، وكف بصره أو كاد، بجانبه جرة ماء، وعلى فرع الليمونة تستقر صرة الخبز، وعلى الأرض حفرة النار وقد خبت، وعليها كوز مسود لتجهيز الشاي.

كأنني أعرفه.

تلمع الذاكرة لحظة فيبرق ما طواه النسيان:

همست ..

عم "الششتاوي" .. هو. وأنت لا تستطيع أن تدعي خداع النظر. سمعته ينادي:

- وله.

- نعم

- تعالى روحني يا ابني للدار.

خطوت ناحيته، ولدهشتي أحسست بخوفي القديم لا يزال كامنا بقلبي، لكنه كان هرما وقد تقوس ظهره وبدا لي كغلام نحيل بدرجة مؤسية.

خرست ولم أنبس بحرف، وحوطت وسطه بيدي، ووضع ذراعه على كتفي ومضينا. تنشقت رائحة العظام الرميم، وأدركت للحظة والرجل يذوي في عيني بأنه يفتش عن موته.

اتجهنا ناحية بيته نسير على سكة من تراب.

الوليمة


تأكد لديه الآن، وعلى نحو مغاير لكل ما اعتقده، أنهم طوال تلك السنين كانوا يكمنون هناك.

لم يكن وجرا للضباع، كان المكان أشبه بحلبة لمصارعة العبيد، مقامة في خلاء مريع. تساءل: "ما الذي جعلك تجيء وترى الحلبة؟"

مظلة مقامة في الناحية القبلية تنبت تحتها نباتات من شوك وبناء صخري عليه عرائس من حجر، وسور يحوط المكان الذي يشبه ساحات الاغتيال.

"أنت قرب الساحة يا من لم يعرف قلبك الضغائن!!!"

رأى النار توفد على مهل، وسرعان ما انفجر ضوؤها الفطري في الساحة. تأمل ألسنتها تتقاطع، وتتقافز طاردة كرات من لهيب تطقطق بصوت يأتيه مع تيار الهواء المندفع من الباب الموارب على الرعب.

"ها هم يخرجون .. انهم هؤلاء الذين أضنوه، ولم يكفوا يوما عن نكرانه"

يخرجون من وجرهم، يرتدون رداءات من جلد أسود، ويخوضون في برك صغيرة من دم متخثر، ترمي النار أجسادهم على الأرض أخيلة من ظلال. تنفجر أصواتهم بلغات مختلفة غامضة، يضجون بضحك شرير. يحملون حملا صغيرا بفروة من صوف أبيض، هش العظام كوليد، سرعان ما طرحوه أرضا وقد قبضوا على قوائمه، لحظتها تعالى من الحمل صوت استغاثة ظلت تضعف أمام النار حتى تلاشت تماما، وعلى نحو من قسوة جز القصير رقبة الحمل فطرطش دمه واغرق وجهه النازي.

عيناه قد بهرهما ضوء النار، ولون الدم. قال:

"يا ربي!! الآن تبدو الأشياء غاية في الوضوح".

باشروا سلخ الجلد على مهل، وبدربة متناهية. كان يأتيه صوت السكين وهو يكشط الجلد في ضربات باردة ورتيبة، وكان يتحسس جلده وقد اقشعر. همس: "إنهم لا يفهمون"..

اخترقت أسياخ الحديد بدن الحمل الصغير المذبوح رأى بدن الحمل يستوي على النار يقلبونه منتظرين، ويتبادلون الهمسات، والنظرات.

"أنت لن تستطيع الفرار منهم. يكمنون هناك. عند أقصى مكان في الدم".

جسد الحمل ينز الآن دهنه فيسقط في النار طاشا، ويحمله الهواء حيث يقف فيثير في نفسه الغثيان.

يمزقون الآن جسد الحمل الهش. يلتهمون لحمه في لذة شهوانية فيلوث دهن الحمل أشداقهم وأيديهم، ويلوحون بالأفخاد والضلوع فتعكس النار مشهد وليمة الليل الوثنية.

ود لو يصرخ، إلا أنهم لمحوه يقف بالباب وحيدا تحت السماء المفتوحة على الخوف من غير سند. ألقوا بالعظام على الرمل، وبدأوا يباشرون المطاردة التي لم تتوقف يوما على تلك الأرض ذات الرمال المتحركة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى