حسن إمامي - ذَكَرُ الحمَام

داخل عتبات المستحيل :
(( لا أدري إن كان ما وقع في حلْمٍ، أم في واقع، أم في حلْم يقظة. كل ما أدريه أن وقعه في وعيي قائم بنسجه بطريقة غريبة. مثل المطلق يصهر الحاضر في الآتي أو في الماضي. استحضر كل هذا و انطلق في حكيِه.))
...
داخل دائرة أفق مستدير و محيط من كل الجوانب، كنتُ أحضره و بجانبي زوجتي و نصفي الثاني في الحياة. كان تصويب النظر متداخلا و متباعدا. كل منا يبصر هذا الأفق و يده حاضنة لمرفق الآخر. القِبلة قِبلات. احترت في إيجاد جمع للقِبلة. اعتدت على استعمال قِبلة واحدة. ها أنا الآن أتعامل مع متعدد في آن. أحاول التحكم فيه بخيط ناسج و متفاعل بشكل إيجابي.
كنت في انتظار. أكيد. لكنه كان لي وحدي. رغم أنني كنت مادّاً ذراعي الأيمن لتتوسده رفيقة الحياة، و لتحتضنَه كفَّ أمانٍ في نوم عشقي يخلّد لحظات حميمية في الحلول الشافع بيننا. و كان ذهنيّ كما وصفته في رحلة المعنى، صحنا دواراً. و كما وصفته الرسوم المتحركة كذلك بسرعة تفوق الخيال لأنها تفوق الزمن المحيط في الصحو، و لأنها تخترقه كونيا في اللالآفاق حيث كل الآفاق، كنت في انتظار. رتّبت له في حلْم سابق عن هذا الذي لم يعد حلْما. في انتظار لقاء ثقافي مع التي اخترتُها لهذا التفاعل العشقي باسم الثقافة.
سأترك أنثى الحمام بجانبي لكي تستريح. و ساقوم برحلة مع أنثى حمام أخرى. كنت ذكر الحمام. آتيا من حكاية و معلومات جديدة جمعتها للتو من حوار خلال هذه الأيام. ربما هذا الأمس القريب، البارحة. كان ذكر الحمام يتناوب الحضانة مع أنثاه يوميا. يخرج صباحا و يعود حوالي العاشرة منه. و يبقى حاضنا حتى يأتي العصر بعد الزوال. بينما تكون الأنثى حاضنة قبل و بعد هذا التوقيت.
لم يكن الغريب هذا الاكتشاف. لكنه كان ان الأنثى متعففة عن كل محاولات التقرب و التقارب خارج عشها. بينما كان الذكر لا يُقَصِّر من جهده في اكتساف و لفت انتباه و استمالة انثى غير أنثاه. كانت الطبيعة حاضرة. و كانت ثقافتها قائمة. و كان تحليلها مؤجّلا إلى حين. لكنه كان حاضرا في عمل الذهن خلال هذا اللاصحو و اللانوم و اللاحلم واللاوعي و في هذا الوعي. لم تكن هذه فواصل أو نقاط فارقة. كانت كلّها واحدٌ. لكن الأكيد انها كانت معي في رحلة تجريب.
كنت في انتظار المثقفة و أعترف. و كأن الثقافة كأس خمر معتقة لا تٌغتَرَف إلا في طقوس من ينتمي إلى دائرة هوسها و حلْمها. و كأن كل حلْم يستطيع اختراق أحلام أخرى، فيجعل له حيّزا و فضاءً و عالما خاصا به داخلها دون إزعاج أو انزعاج.
كان ذراعي يمسد على كتفها، و حلمي ينتظر غيرها. كنت مساعدا لها على الاهتمام بقِبْلتها. هل كنت مجرما فيما يحدث؟ لا أملك مسؤولية على فعلي. و أستحضر الحديث : اللَّهُمَّ هَذَا قِسْمَتِي فِيمَا أَمْلِكُ ، فَلا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلا أَمْلِكُ ".* فعلا لا أملك التحكم في هذا القلب و هذا الخيال و هذا العشق في السفر الوجداني و الكتابي الذهني.
ستكون الرحلة وصفة قصيدة أو تلاقي عشاق الكلمة في زاوية الحرف حيث الكلمات طقوس شطح مباحة لمريديها. و كنت دائما المريد الذي لا يريد ان يصبح شيخا فيَكُفّ عن البحث عمّا يريد.
في لحظة مجيئها و اقترابها بمسافة و قياس ذهني خاصٍّ، و في انتظار هذا المجيء فوق رصيف اتقاسمه مع نصفي الآخر و ألهيه بسحر أفقنا المحتضن لعشنا و نومنا المتعانق، اخترق المشهد حضور أخرى قبل الأوان في وقت غير مناسب. ربما كنت جعلت لها وصفة حلْمٍ خاص أستحضرها فيه. باغثتني الأخرى بحركة مجيء متلهف للسلام و العناق و تقبيل الخد و مرافقتي في رحلة لذة. ربما كانت هي عيونُ مَن تلاقَى و الْتَقى معهن بصري خلال اليومي الذي نسترق فيه بالنظر تواصل الأعين ورسالات مشفَّرَة في الاشتهاء.
بادرت و سارعت إلى إلهاء التي هي نصفي، و دفعت عملية التقبيل بالخد من الأخرى التي لم تكن في الانتظار بعيدا عن دائرة الانتباه. كنتُ سأقول لها إنه وقت غير مناسب يا هاته. لكنني قلتُ ذلك بدفعها بعيدا عني و عن الصورة، في انتظار مجيء الأخرى في اللحظة و للتو. لكنني و كما قلتُ قبل قليل، استطعت ان أفصل لحظة الزمن بمسافات و أجعل من الجزء من المائة من الثانية ثواني و دقائق و ساعات. بل أماكن أستبدل بها الحلْم و أتسلح خلالها بالنسيان و المغايرة للحكي و الحْلم حتى أدفع حرج التداخل الذي يملأ هذا الكون ضجيجا و إزعاجا للقدر الذاتي الذي تريد النفس أن تستحوذ به على كل شيء في محاولة المستحيل إلا في الخيال و في الحلم.
دقت مع كل هذا طبول الحرب في نبضي. خوف حاضر من مراقبة القيم و مبادىء الالتزام. كان ذراعي قد انفعل في حركة كابوس حلْم، و كانت حركة كافية لإيقاظ التي لا تنام حين تنام بجانبي. حيث نومها على إيقاع نومي و جسدي. تلتحفني و التحفها بوضعيات مختلفة. طبطبتُ و ربّتّ على كتفها. مسّدتُ ذراعَها الهارب من شدة الحرّ و المحلّق فوق سرير البقاء. اطمأنتْ على ذهاب هذا الكابوس عني، و زادت من فعل الاحتضان و الاشتياق. أجّلْتُ مجيء الأخرى المنتظَرَة حتى أسَوّيَ وضعية و مفارقة هذا الحلم الواقع الذي شاكس نومي و حلمي و يقظتي. و بدأت في خط كتابة ذهنية ترسم اللوحة الحية للمشاهد. أدركت معها قيمة الإخراج و التصوير السينمائيين، و ما لا يستطيع القلم صنعه و خلقه. نص متحرك و حي بالصوت و الصورة و اللون و الحركة. رغم أن هذا القلم هو مَنْْْ أسعفني في وصف هذا الاختراق. طلبتُ منه العفو في هذا التمايز الذي جعلته و الذي اعترفتُ فيه للفن الآخر بالفضل. لكن لولاه لما كان لعالميَ حضور و ظهور و خلق جديد و متجدد. طلبت منه العفو كما طلبته حين صحوي و رقني للحكي قبل ان يحلّق بعيدا في دائرة النسيان. و بقي الصحن الدوار خاضّا الخلايا إلى حين...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى