رسائل الأدباء من الدكتور طه حسين إلى حضرة مدير الجامعة المصرية

حضرة صاحب العزة الأستاذ الجليل مدير الجامعة المصرية:

أتشرف بأن أرفع إلى عزتكم طائفة من الملاحظات انتهيت إليها أثناء قيامي بالمهمة التي كلفني إياها مجلس الجامعة حين تفضل فعهد إلى تمثيل جامعتنا الناشئة في مؤتمر الآثار الدولي الذي انعقد في سوريا وفلسطين من يوم 8 إلى يوم 23 إبريل 1926.

الواقع أن هذا المؤتمر لم يكن مؤتمر علم نظري بمعنى أن الغرض الأساسي منه لم يكن إلقاء المحاضرات أو تقديم المباحث العلمية وإنما كان مؤتمرا علميا يقصد به إلى الناحية العملية أكثر من أي شيء آخر فلم يخصص للمحاضرات والمباحث العلمية إلا ساعات معدودة ولم يشترك في هذه المحاضرات والمباحث من العلماء الذين حضروا المؤتمر إلا نفر قليل جدا وأنفق الوقت كله في زيارة الآثار وأماكن التنقيب عنها والمعاهد العلمية التي تعني بها عناية. وأكبر الظن عندي أن هذا المؤتمر لم يكن يقصد به إلى العلم وحده وإنما أراد الانتداب الفرنسي والإنجليزي في سوريا وفلسطين أن تزور هذه البلاد طائفة من العلماء والكتاب الذين يمثلون الأمم المختلفة ليروا ما لهذه البلاد من خطر علمي تاريخي ومن قيمة اقتصادية وليشهدوا ما يمكن أن يكون قد وصل إليه الانتداب من الفوز السياسي في هذه البلاد، وليكون هذا كله نوعا من الإعلان يحمل الناس على أن يفدوا على هذه البلاد وينشئوا الصلات المختلفة بينهم وبينها.

احسسنا هذا في كل شيء حتى الزيارات العلمية الخاصة التي كان ينبغي الا تتناول الا البحث العلمي الصرف ومع هذا فقد نجح هذا المؤتمر نجاحا عظيما من هذه الوجهة العلمية الخالصة فأصبح من الأشياء التي لا تقبل الشك أن هذا القسم من الشرق الأدنى من أعظم الأماكن التي تتصل بها آمال الباحثين عن الآثار والتاريخ. ويكفي أن نلاحظ أن سوريا وفلسطين كانتا منذ أقدم العصور ملتقى الحضارات المختلفة وموضوع النزاع بين الشعوب المتباينة التي سيطرت على ما يسمونه (حوض البحر الأبيض المتوسط) وقد تركت هذا الحضارات والشعوب في سوريا وفلسطين آثارا قيمة جدا منها ما هو ظاهر قد درس وفحص درسه ومنها ما أخذ ليظهر ويدرس ومنها ما لأبد من أن يظهر في وقت قريب أو بعيد لان الجهود التي يبذلها الفرنسيون والإنجليز والأمريكيون لإكراه هذه الأرض على أن تخرج دفائنها النفيسة أحسن نظاما من ان تضيع أو من أن يكون إنتاجها قليلا.

ونحن لا نكاد نزور ناحية من نواحي سوريا وفلسطين يظن أنها تحتوي آثارا إلا وجدنا الفرنسيين أو الإنجليز أو الأمريكيين قد أعدوا العدة للبحث والتنقيب ولست أريد أن اذكر هنا كل ما رأيت أو زرت ولا أن افصل وصفه فتلك إطالة لا احتاج إليها. وإنما أريد أن ابسط في الأسطر القليلة الباقية لي خلاصة العبارة التي يجب أن تستنبط من هذا المؤتمر بالقياس إلى المنفعة المصرية الخالصة.


آثار مصرية



وهنا ألاحظ قبل كل شيء أن زائر الآثار في سوريا وفلسطين لا يكاد يخطو خطوة في هذين البلدين حتى يجد الآثار المصرية ماثلة أمامه. وهذه الآثار المصرية تمثل النفوذ المصري في الشرق الأدنى أثناء العصور التاريخية كلها فمنها ما يمثل عصر الفراعنة ومنها ما يمثل عصر البطالسة، ومنها ما يمثل العصور الإسلامية منذ الإسلام إلى أيام محمد علي الكبير. وحسبنا أن المؤرخين يتحدثون بان خراج مصر في أيام عبدالملك ابن مروان قد خصص أعواما متصلة للاتفاق على المسجد الأقصى في بيت المقدس.

الآثار المصرية المختلفة قائمة في هذه البلاد قيامها في مصر نفسها، وإذن فدرس التاريخ المصري والحضارة المصرية على اختلاف عصورها لا ينبغي أن يكون في مصر وحدها بل ينبغي أن يكون فيها وأن يكون في سوريا وفي فلسطين.

فلا بد من أمرين الأول أن توفد الجامعة من وقت إلى وقت بعوثا علمية تتألف من طلاب الآثار والتاريخ والآداب العربية وأساتذتهم لزيارة هذه الآثار ودرسها ومهما يكن من شيء فلا بد من إحصاء ما يمكن إحصاؤه من هذه الآثار لتستطيع الجامعة ووزارة المعارف والبيئات العلمية المختلفة في مصر) أن توزعها توزيعا علميا يمكن من دراستها درسا منتجا تأخذ الجامعة منه بنصيب ومصلحة الآثار بنصيب آخر ولجنة الآثار العربية بنصيب ثالث ووزارة المعارف بنصيب رابع وهلم جرا.

وربما كان الخير كله في أن تحذو مصر حذو فرنسا وإنجلترا وأمريكا فتنشئ لها معهدا أثريا تاريخيا في سوريا وفلسطين تشترك فيه هذه البيئات العلمية الأربع التي ذكرتها آنفا وسواء أمكن تنفيذ هذه الفكرة أم لم يمكن فكرامة مصر وواجب الجامعة نحو العلم يقضيان بأن نبدأ الآن في الاشتراك العملي في العناية بهذه الآثار ودرسها على نحو قيم مفيد. وإن المصري ليخجل حقا حين يرى النتائج العلمية القيمة التي وصلت إليها البعثات الدينية والمدنية لا سيما بعثات الفرنسيين والأمريكيين دون أن تشعر مصر بأن في سوريا وفلسطين آثارا مصرية خليقة بالعناية.

ولست أدع هذا الموضوع دون أن اذكر أني علمت أن في مكتبة الجامعة الأمريكية في بيروت مجموعة رسائل سياسية رسمية تتصل بمحمد علي الكبير وإبراهيم ويبلغ عددها نحو الخمسمائة وألف رسالة فلا ينبغي مطلقا أن تجهل مص هذا الكنز العلمي الذي يمس تاريخها الحديث بل لا بد أن تبذل الجهود فورا لاستنساخ هذه الرسائل كلها ونقلها بالتصوير الشمسي لتوجد في مصر وليستطيع المصريون أن يدرسوها ويستغلوا منها ما يمكن استنباطه من الحفائر التاريخية. الأمر الثاني اني اتصلت بالسوريين والفلسطينيين اتصالا قويا جدا أثناء هذه السياحة القصيرة وما كنت أظن ان لمصر في هذه البلاد هذه المكانة الغريبة التي رأيتها. فأهل هذه البلاد يؤمنون لمصر بالزعامة الأدبية والاجتماعية والسياسية ويقتدون بها في كل شيء ويلمون بأمورها الدقيقة أكثر مما يلم بها المصريون أنفسهم ولهم في مستقبل مصر ونفوذهـا في الشرق إيمان لا سبيل إلى زعزعته وسواء أكانو مصيبين أم مخطئين فان الواجب الوطني والمنفعة الوطنية يلزمان مصر أن تستثمر هذا الاستعداد لمنفعتها ومنفعه السوريين والفلسطينيين أنفسهم.

الحاجة إلى تعليم وطني



وقد لاحظت أن السوريين والفلسطينيين ينقصهم قبل كل شيء تعليم وطني عربي، فهم مقسمون بين التعليم الفرنسي والتعليم التركي. وإذن فيجب على مصر أن تنشر في هذه البلاد تعليمها الشرقي العربي وأن تنشئ فيها طائفة من المدارس الثانوية تعد الشبان السوريين والفلسطينيين لتلقي دروسهم العالية في جامعتنا المصرية. والسوريون والفلسطينيون أنفسهم يتمنون هذا ويلحون فيه. ولم يتمنون بنوع خاص أن تسهل الحكومة المصرية لأبنائهم وسائل الدرس بالمدارس المصرية. وأنا أعلم أنه قد يعترض عن هذه، الفكرة بالحكمة القائلة ( أبدأ بنفسك ثم بمن تعول) وقد يقال أن مصر خليقة أن تنفق أموالها في تعليم المصريين قبل أن تنفقها في تعليم السوريين والفلسطينيين ولكن مصر تخدم نفسهـا قبل كل شيء إذا نشرت تعليمها في هذه البلاد الشرقية فهي لا تكسب مكانتها في هذه البلاد عبثا ومن الحمق أن تضيع هذه المكانة أو تعرضها للضياع ضنا بمقدار من المال قليل.

على كل حال فإني أتمنى أن أرى المدارس المصرية تنافس في سوريا وفلسطين مدارس الفرنسيين والإنجليز وأتمنى أن أشعر منذ الآن بأن حكومتنا وجامعتنا تسهلان حقا لشبان هذه البلاد وسائل الدرس في مصر والتأثر بشخصيتها العلمية الجديدة التي مهما تكن ضعيفة ضئيلة فهي قوية جدا بالقياس إلى أهل هذه البلاد.

وآنا أرجو أن يتفضل الأستاذ الجليل مدير الجامعة المصرية فيقبل تحيته الخالصة وإجلالي العظيم،،، 27 إبريل سنة 1926.

إمضاء ( طه حسين)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى