أدب السجون خالد حسين عثمان (الكد) - الزيارة الثانية.. قصة قصيرة

هذا الجسد المسجى كان صديقي ، كان إسمه حسن... مات قبل نصف ساعة . أنا وصديق آخر نجلس مع الجسد المسجى الذي كان قبل أقل من ساعة صديقنا ... نجلس على ظهر شاحنة حملناه عليها من المستشفى إلى منزل أهله في ضاحية قريبة من العاصمة . كانت الساعة قد تجاوزت السادسة بقليل ... الحافلات العجلى كانت تجتاز شاحنتنا التي كانت تقل وقار الموت ، لكأن محركها أصابه شيء مما يحمل.
السيارات الفارهة الأنيقة المنطلقة صوب المدينة كانت تمر بنا في منعطفات الطريق القروي المتلوي كالثعبان... وللحظة كان الضوء المنبعث في فوانيسها يستقر على الجسد ، وللحظة تلتقي عيناي بعيني صديقي ... يخفض كلنا بصره مسرعا ونلود بالصمت والظلام . كنت أرى في عينيه حين تقبضهما عيناي شيئا من الخجل ، والإحساس بالجرم . وكنت أجس أنه يرى الشيء نفسه في عيني ! لا أدري لماذا كان لدينا هذا الإحساس ، ألإننا ظللنا أحياء حين مات صديقنا ؟!.
كنت في قرارة تفسي أتمنى لو أن الشاحنة تواصل سيرها ، إلى ما لا نهاية ... كنت وجلا من لحظة الوصول . برزت أمامي فقط صورة أم حسن ، كنت قد رأيتها مرة واحدة فقط ، كيف كانت يومها ؟ وكيف تراها تكون هذه المرة ؟ في تلك المرة حملت إليها إبنها حسن ، واليوم أحمل إليها الجسد الذي كان إبنها حسن .
أغمضت عيني ولذت بالصمت والظلام . استغرقت لا ينبهني إلا أزيز الشاحنة ، يعلو ويهبط وهي تصعد وتنحدر على الطريق الريفي . حاولت ألا أفكر ، حاولت أن أركز على صوت محرك الشاحنة .. وكلما ازداد تركيزي تجسدت في ذاكرتي أحداث الأعوام الثلاثة الماضية ، و كأنما ارتبط الأزيز بتداعيها ... كأنما المحرك هو المجهر وذاكرتي الشاشة التي تنعكس عليها اللقطات !.
اللقطة الأولى ... قبل سنوات ثلاث ، سمعنا في هدأة الليل رتاجا يفك ... وعلمنا أن نزلاء جددا سيشرفوننا . تطلعنا إلى الباب يعترينا مزيج غريب من الفرح والغضب ، الغضب لأن آخرين يفقدون حريتهم ، والفرح بالجديد وكسر حاجز الرتابة . القادم الجديد زيادة على الأخبار "الطازجة" يحمل طابع " الجدة " ... حكايات جديدة ، نكاث جديدة ، أناشيد جديدة ، وأغان جديدة ، ومناقشات جديدة ... أي فرح وكنا على الأعوام قد استنفذنا كل حكاياتنا ونكاتنا ، وصارت مناقشاتنا مكررة وحتى ملامحنا صارت مألوفة.
انفرج الباب عن ثلاثة أشخاص يقودهم السجان ، يحمل كل منهم حصيرة وبطانية و " كوزا "، (كوبا) هي كل ما يسمح به من متاع الدنيا ، هجمنا عليهم عناقا وترحيبا ، قدمنا لهم ما تيسر من زادنا القليل... تساءلنا عن ساس يسوس ، وعن الأهل والأحباب ... بعدها تعارفنا . وهكذا في بلادنا ، لا يأتي التعارف أول الأشياء .
كان أحد القادمين معروفا لدينا ، قام بتعريف الآخرين ، فتى أسمر ، نحيل ، معروق اليدين ضاحك العينين أشار إليه الذي تولي مهمة التعريف : هذا حسن.
ابتسم حسن ابتسامة مريحة نفذت مع بريق عينيه الضاحكتين إلى أعماق كل الحاضرين ... وأعددنا حفلا لاستقبالهم . لم يكن الحفل في السجن يكلف أكثر من صف الحصائر في شكل دائري وإقناع الزميل المسؤول عن " التموين" بصرف كمية من الشاي وسيجارة إضافية للمدخنين ... لم يكن الزميل في حاجة إلى إقناع ، فالمناسبة مقنعة تماما.
في ذلك الحفل تألق الفتى الأسمر النحيل ، وتألق في كل حفل تلاه ... يجيد الغناء والإنشاد ويحفظ الشعر ، يضع النكتة يرويها ويضحك لها ضحكة رنانة . أحببته كما أحبه الآخرون ، وتصادقنا ثلاث سنوات قضيناها متلازمين ... جاء معتقلون وخرج آخرون ونحن نستقبل ونودع.
وجاء السجان فجرا ، قبل ثلاثة أشهر ، نادى حسن وآخرين . حملوا أمتعتهم ، ودعونا وخرجوا ... كانت لحظة الوداع مرة ، ضحك حسن وقال لي:
- ماذا يقول حجازي ...
( أليمة " إلى اللّقاء " و " اصبحوا بخير ! "
و كلّ ألفاظ الوداع مرّه
و الموت مرّ
و كلّ شيء يسرق الإنسان من إنسان ! )
لن أودعك ياصديقي وسنلتقي قريبا.
قالها وخرج ، علمنا بعد ذلك أنهم نقلوا إلى سجن آخر في أحد الأقاليم النائية.
بعد شهر من رحيلهم أطلق سراحي ، ومضى شهران قبل أن أسمع عن حسن شيئا . انعدام الأخبار أخبار حسنة ... هكذا يقول الغربيون!
قبل أسبوع سمعت عن حسن ، سمعت أنه مصاب باليرقان وأنهم سيحملونه إلى المستشفى العسكري في العاصمة . هرعت إلى هناك لعلي أراه من بعيد أو أقنع السجان أن يسمح لي برؤيته.
لم أجد حراسا أمام الباب ، ووجدت حسن .. ازداد نحولا وشحب لونه وكسا عينيه اصفرار ، انطفأ بريقهما ، لكن ابتسامته ظلت مرحة وتنفذ إلى الأعماق . قال بسخرية ما زلت أحس مرارتها:
- أطلقوا سراحي جثماني .
قالها وضحك ضحكة واهنة ، قلت :
- أحملك إلى طبيب خاص .
- احملني أولا إلى أمي ، كي تقر عيناها ..
حملت متاعه القليل إلى السيارة ، ثم عدت لأحمله . كان يحاول السير على قدميه لكن لا يستطيع . أركبته السيارة وانطلقنا على نفس الطريق الذي نسير عليه الآن . كان مخضرا وجميلا ، وكان الوقت أصيلا رائعا ، وكان الأمل في الشفاء . وصلنا منزلا صغيرا له باب خشبي أخضر.
- هاهو منزلنا العامر ...انزل ..
ونزلت ، وبدل حسن ما تبقى من عافيته ليلقى أمه عند الباب واقفا . طرق على الباب ، أطلت امرأة عرفت على الفور أنها أم حسن . كانت مثله سمراء ومثله معروقة أيضا ، وعلى عينيها وجبينها رسم الفقر والحزن لوحة الشقاء.
- " يا وليدي " ...
هجمت عليه عناقا وتقبيلا ، وهطل الدمع من عينيها المتعبتين مدرارا ... دموع الفرح . دخلنا ، فرشت ملاءة على السرير الوحيد .. دخلت إلى حجرة داخلة وعادت بطبق عليه تمر ، وفي يدها الاخرى إناء البخور ، بخرته ، كانت تؤمن بـ " العين" .
أكلنا تمرا وأخبرها حسن أنه ذاهب إلى مقابلة الطبيب وسيعود حالا وخرجنا . الطبيب قال لا بد من دخول المستشفى ، وهناك قالوا الحالة صعبة ولكن ربما .... قال حسن ربما لحقني آخرون أدركوا الآخرين فقد قضيت.
وقفت الشاحنة أمام الباب الاخضر ، وصاحت أم حسن : يا وليدي


* خالد حسين عثمان / الخرطوم - السودان

* مجلة اوراق لندن ع/6 ديسمبر 1983

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى