محمد حيدار. - الرواية والتاريخ، الخصوصية والمشترك:

مفتتح:

يضع هذا العنوان نوعا من المنهجية لهذه المداخلة، لأنه سيضطرنا إلى تحديد ما يشترك فيه التاريخ والرواية من جهة، وكذا ما يختص به كل منهما دون الأخر من جهة أخرى، فوفقا لهذا العنوان سنجد عوامل كثيرة تجمع بين المؤرخ و الروائي، وأخرى ربما باعدت بينهما، سنتطرق في هذا العرض إلى بعضهما معا بحيث سيتضح لنا أنهما بقدر ما يتحدان في الإطار العام، يختلفان اختلافا كبيرا لاسيما في طرق تناول الموضوع وأدوات التعامل معه، كطبيعة النظرة إلى الشخصية وإلى المكان وحتى بناء الزمن لدى كل منهما.

فإذا كان هدف المؤرخ هو التحقق من صدقية الحدث التاريخي من عدمها، ومدى صحة الخبر من زيفه، أي أنه كما يرى البعض مشدود إلى ثنائية الصدق والكذب وحدها، فإن الكاتب لا يهمه إلا أن يؤسس انطلاقا

من ذلك الحدث التاريخي موقفا أو رؤية يبرزهما في صياغة جمالية، بل إن الروائي يتخذ من التاريخ منطلقا نحو عوالم أخرى، ومن هنا يبدو لنا الروائي والقاص غير مرتبطين بالمصدر التاريخي ذلك الارتباط الكلي والصارم الذي نجده عند المؤرخ، لأن المصدر غالبا ما يحد من حريتهما سيما حين يتعلق الأمر بحقائق تاريخية لا يمكنهما القفز عليها أو تقديمها بوجه غير الذي عرفت به.

هذا الحذر من المصدر هو الذي يجعل الروائي يجد ضالته في بدائل أخرى ــ تلطيفا للموقف ــ منها أن ينهل مما يمكن أن نضعه في زاوية المسكوت عنه أو ما يسمى بالتاريخ الظني، أو ما يقع في زاوية الحدث الغامض، أو ما اصطلح على تسميته بالفراغات التاريخية بوجه عام .

تعريف التاريخ:

التاريخ لغة "هو الإعلام بالوقت "، أما اصطلاحا فمن بين التعاريف الكثيرة اخترنا هذا التعريف الذي يفيد بأن التاريخ تحليل وفهم للأحداث التاريخية، اعتمادا على منهج يصف ما مضى من وقائع وأحداث، يسجلها ويعللها ويفسرها على أسس علمية صارمة، بقصد الوصول إلى حقائق تساعد على فهم الماضي والحاضر والتنبؤ بالمستقبل"

هذا التعريف يقوم على عنصرين هما، تحليل الأحداث وفهمها وفق منهج علمي صارم (أي لامكان فيه للأهواء) مع التعليل (لماذا؟) و التفسير (كيف؟)، ذلك لأن التاريخ يندرج في سياق ((منظومة الأجناس ذات الغاية النفعية )) وربما أراد صاحب التعريف أن يشير من خلال " كلمة نفعية " إلى أن الأدب في المقابل يعني غاية إمتاعية وحسب.

تعريف الروايــة:

الرواية لغة هي نقل الحديث أو الخبر، أما اصطلاحا فلها هي الأخرى تعاريف عديدة قد تحكمت في اختلافها، اختلافات مشارب الدارسين والنقاد ، ويمكننا إجمالها في تيارين إثنين، تيار انتصر للشكل وهو يرى ان (( الرواية جنس أدبي نثري سردي تخيلي))، وتعريف ثان قد لا يبتعد عن هذا السياق، ولو أن معظم الروايات التاريخية الناجحة تكاد تندرج ضمن إطاره، يفيد هذا التعريف بأن الرواية (( تاريخ متخيل داخل التاريخ))، وربما هي كذلك، فهي تاريخ خاص ضمن النطاق العام للتاريخ.

وحين نقول تاريخ خاص نعني أنها تمثل قراءة الكاتب للتاريخ، أو رؤيته لفترة معينة من هذا التاريخ يعبر عنها بشكل متخيل، وكلمة متخيل هي ما يجنب الرواية الذوبان في التدوين التاريخي، لأنها عالم قائم بذاته ، وإن كانت تسبح ضمن أمواج هذا التاريخ.


أما أنصار المحتوى فربما يأتي على رأسهم جورج لوكاتش بتعريفه الذي يكاد يجعل من الرواية بديلا للتاريخ، يقول ((إنها رواية تاريخية حقيقية ( كذا)، أي رواية تثير الحاضر ويعيشها المعاصرون بوصفها تاريخهم السابق للذات ))(1) أي لحضورهم، وهنا الرواية ليست ذات غاية إمتاعية، بل هي ذات هدف يعرّف بالتاريخ و يثيرالحاضر.

وللفصل في هذه التعاريف نأتي بتعريف نعتقد أنه يتوفرعلى قدر من الفصل، يقول ((الرواية عمل فني يتخذ من التاريخ مادة له ولكنها لا تنقل التاريخ بحرفيته بقدر ما تصور رؤية الفنان له))، إذن فهي عبارة عن رؤية فنان لايقبل منه أن يعيد كتابة التاريخ.

نشأة الرواية التاريخية:

على أية حال فقد بدأت الرواية، كجنس أدبي لتحل محل جنس أدبي سبقها وعمّر طويلا هو الملحمة التي تعود إلى أزمنة قديمة ( ملحمة جلجامش ــ إلياذة هوميروس. إلخ).

ويتفق الدارسون على أن نشأة الرواية التاريخية بالغرب تعود إلى مطلع القرن التاسع عشر الميلادي، وبالتحديد بعد انهيار نابوليون (1769 ــ 1821) وهم يستشهدون بالكاتب الأسكتلاندي والترسكوت ( 1771 ــ 1822م) كمؤسس لهذا الجنس الأدبي، ويعتبرونه أبا للرواية التاريخية، وهو صاحب الرائعة العالمية " ايفانهو"، وبفضله دخلت الرواية التاريخية عالم الأدب.

كما وأن من أبرز كتاب نشأة الرواية التاريخية، الكاتبة الإنجليزية " ماري آن ايفانس" المعروفة أدبيا بجورج إليوت، صاحبة رواية " رومولا "، والفرنسيان الكسندر دوماس الاب و فولتير، الذي يقال ان رواياته مهدت للثورة الفرنسية ، و الروسي ليون تولستوي (1828 ــ 1910) في رواية " الحرب والسلام " ، ثم بعض روايات فيكتور هيغو(1802 ــ 1885) كــ " نوتردام دو باري" ..

وتواصلت الرواية التاريخية في القرن العشرين مع قامات إبداعية معروفة منها الأمريكي ارنست همنغوي ( 1899 ــ 1961 ) في أشهر رواياته " لمن تقرع الأجراس" حول الحرب الأهلية الإسبانية ، والروسي ميخائل شولوكوف(1905 ــ 1984) في رواية " الدون الهادئ"، إلى غاية رعيل معاصر يتزعمه الكاتب الكولومبي ــ الذي رحل مؤخرا ــ غبرييال غارسيا ماركيز (1927 ــ 1914) في مجموعة من الروايات أشهرها رواية " مائة عام من العزلة "، وهو رائد الواقعية السحرية أي مزج الأسطورة بالواقع.

أما الرواية عند العرب فهناك خلاف بين الدارسين حول مصادر تأسيسها، هل ان تأسيسها جاء من القاعدة القصصية التي أنتجها العرب ( قصة عنترة ــ السيرة الهلالية ــ المقامات. إلخ) أم انها نتيجة التأثير الغربي وحده، أم ــ كما يقول رأي ثالث ــ هي نتاج مزاوجة بين التراث العربي والمكتسب الأوربي؟،وقد اشتهر كُتاب عرب ( كمؤسسين ) لهذا النوع من الرواية في العصر الحديث، نذكر منهم جورجي زيدان ( 1861 ــ 1914) صاحب سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وعلي الجارم ومحمد فريد أبا حديد ، وعلي أحمد باكثير و1910 وعبد الحميد جودة السحار ( 1913 ــ 1974)، وقد كانت الرواية العربية التاريخية في مراحلها الأولى هاته منفتحة على حقول معينة فلم تتجاوز حمولاتها الدين والتاريخ والرواية التعليمية، وهذه الأخيرة أشتهر بها رفاعة رافع الطهطاوي (1801 ــ 1873 ) وعلى مبارك(1823 ــ 1893) وغيرهما.

ومن الأجيال اللاحقة لا ننسى كُتابا في قامات الأمين معلوف الذي يعتبر التاريخ حاضرا في أبرز إبداعاته، وجمال الغيطاني وعبد الرحمن منيف وحنامينة إلخ.

ويعتبر الأدب الجزائري هو الأدب الذي أنجب أول رواية إلى الوجود، كما يعتقد من درس رواية " الحمار الذهبي " للوكيوس ابوليوس (125 ق م ــ 180 ق م)، التي لا ينبغي أن نغفل ذكرها، حتى وإن كانت الرواية التاريخية لم تأخذ طابعها الفني، وكل شروطها إلا في العصر الحديث كما أسلفنا.

ففي الأدب الجزائري برزت الرواية التاريخية عند كتاب يمكن أن نعتبرهم مؤسسين، من أمثال محمد ديب ومولود فرعون وكاتب ياسين؛ والحقيقة أن الرواية الجزائرية المكتوبة بالفرنسية كان كتابها معاصرين للأحداث التي كتبوا عنها، بينما نحن هي بالنسبة إلينا تاريخية، لأنها تشتمل على كثير مما يتعلق بتاريخنا روائيا على الأقل (وصف أوضاع المجتمع الجزائري إبان النصف الأول من القرن العشرين)، ذلك إلى جانب كتاب معاصرين يمثلون

طليعة كتاب الرواية التاريخية المعاصرة المكتوبة باللغة العربية في الجزائر منهم الطاهر وطار وعبد الحميد بن هدوقة وزهور ونيسي وأحلام مستغانمي، ورشيد بوجدرة ولعرج واسيني وغيرهم، بالأضافة إلى بعض الأقلام في جيل الشباب.


علاقة الرواية بالتاريخ:

عناصر مشتركة:

حينما نتحدث عن العلاقة بين الرواية والتاريخ، ينبغي أن نعود إلى البدايات، يوم أن كان التاريخ أسطورة تُحكى، وبالتالي كان أدبا محضا، أو قل أدبا وتاريخا معا، منذ ذلك الزمان القديم لم يبرزا إلا ضمن هذه العلاقة التي يبدو أنها تقنّنت ــ إن صح القول ــ بحكم الاختصاص الذي طرأ فيما بعد، تلك العلاقة التي لاتزال لحماتها قائمة، ممثلة في قواسم مشتركة يقوم عليها التاريخ وتقوم عليها الرواية والقصة، رغم طرق الاختلاف في معالجتها بين المؤرخ والروائي، وأهم هذه العناصر أو المرتكزات أربعة وهي:

أولا: الإنســـــــــــــــــــان.
ثانيا: الزمـــــــــــــــــــان.
ثالثا: المكـــــــــــــــــــان
رابعا: الطابع القصصي.

فلا تاريخ بدون شخصيات فاعلة في صنع الحدث وتطويره، كما ولا رواية بدونها، ونفس الشيء يقال عن الزمن الذي هو مدار الحدث ومحرك تدفقه عند الطرفين الرواية والتاريخ معا، وليس للأحداث من نطاق تتم فيه سوى المكان، كما أن كلا من الرواية والتاريخ لا يقدم لنا نفسه إلا في قالب قصصي وإن اختلفت فنياته.

ففي العناصر المذكورة ــ لاسيما الثلاثة الأولى منها ــ يكمن نوع من الاتحاد ولو بصورة إجمالية، لكنه لا ينفي اختلافا في التفاصيل، فبالنسبة للإنسان (الشخصية) هو فاعل في النصين الروائي والتاريخي معا، بحيث لا يقومان إلا عليه أو به. وهذا من مظاهر الاتحاد بين النوعين، كما أن هناك مواطن اختلاف بطبيعة الحال لعل منها ما يلي:

أولا/ بالنسبة للإنسان:

1) إن التاريخ قد يتسع لشخصيات بطلة ( قادت الأحداث في الواقع ) وشخصيات فاعلة ( درجة ثانية)، ثم شخصيات ثانوية حتى، تماما كما درجت الرواية على احتواء شخصيات أو شخوص متباينة الأدوار، من رئيسة ( بطلة قادت الأحداث حكائيا ونصيا) إلى شخصيات فاعلة وأخرى هامشية، وإلى غاية هنا هما متفقان، لكنهما يختلفان في حقيقة الشخصية عند كل منهما، فالتاريخ لا يرحب بل ولا يستقبل الشخصية الخيالية، أو ما أصبح يُعرف في النقد الحديث بالشخوص، عكس الرواية التي تتسع خريطتها لهذا النوع من (البشر) الذي لم يوجد إلا على الصعيد النصي، بل وقد يحظى عندها بمقام البطولة.

ورغم اعتراض البعض على اعتماد شخصيات خيالية في الرواية التاريخية، وإصرار البعض الأخر على وجودها باعتبار أن الرواية عملا فنيا، يبقى أن نقول إن الاعتراض لا يكون منطقيا إلا عندما يسند الكاتب مواقف تاريخية معلومة إلى شخصيات خيالية، لأن تلك المواقف كانت ــ في الواقع ــ من فعل شخصيات تاريخية.

.2) ليس في استطاعة المؤرخ قولبة الشخصية ( شكلا أي صفة أو مضمونا) حسب ما يريد هو، عكس الكاتب الذي يتاح له إعطاؤها من أشكال المظهر ما يريد، وينسب إليها من المواقف (الإضافية) ما يجعلها تلعب الدور الذي أسنده إليها فنيا وليس تاريخيا، لكن ليس معنى هذا أن الكاتب مطلق الحرية في ذلك، فهذا عملاق الأدب الروسي تولستوي يتلقى النقد من رجل كان من أشد الناس إعجابا به، وهو كبير كتاب القصة القصيرة انطوان تشيكوف (1860 ــ1904)، الذي انتقد رسم تولستوي لشخصية نابليون بونابرت ــ في روايته الحرب والسلام ــ أثناء غزو هذا الأخير لروسيا، معتبرا أنه أضفى عليها صفة غير واقعية، وأنه قلل من شأن شخصية معروفة جدا كهذه.

.3) أما في حوار الشخصيات، فمن الناحية الفنية يعتبر الكاتب مطالبا بأن ينسب إلى أي شخصية مستوى من الحوار يتفق مع المركز و الصفة الاجتماعيــــة والثقافية اللتين أسندهما إليها، وهذا أمر لا علاقة للمؤرخ به ، أما من حيث محتوى الحوار فلكل كاتب أخلاقياته، بينما المؤرخ مقيد في نقل كلام من يؤرخ لهم نقلا أمينا، بالإضافة إلى أن حاجة الرواية إلى الحوار كعنصر من عناصرها الأساسية تزيد عن حاجة المؤرخ الذي مجاله سرد الوقائع، وإن لوحظ على الرواية التاريخية التقليدية اعتمادها على السرد بشكل أثر على نسبة الحوار فيها.
ثم هناك الحوار الدا خلي (المونولوج) الذي لا يعتقد أن المؤرخ يتعرض له أو هو في حاجة اليه، وإن فعل فبشكل عابر كأن يقول: وقيل إنه قال في نفسه.
4) إن رسم الشخصية الجاهزة سواء في كتب التاريخ، أو في المخيال الشعبي العام، لهو معضلة بالنسبة لكاتب الرواية التاريخية (وقد ذكرنا شخصية نابليون مثالا على ذلك)، فمن نسميها بالشخصية الجاهزة، هي شخصية مكتملة بكل المقاييس، ومن هنا كان ــ في عهد الرواية التاريخية التقليدية ــ ليس في وسع الكاتب والمؤرخ إلا أن يشتركا في إعادة رسم صفاتها التي استقر عليها التاريخ، أما الكاتب المعاصر فيبدو أنه أكثر حظا من سلفه، إذ أصبحت أمامه خيارات أوسع، مثل تقنية البناء الداخلي لهذه الشحصية، أو ما يرصد عنها في حياتها العادية وفي كتب الإخباريين غير المؤرخين (أبو الفرج الأصفهاني قياسا إلى المؤرخين) وغير ذلك.
ثانيا/ الزمـــــان: وهو ثاني العناصر المشتركة بين الرواية والتاريخ غير أنهما يختلفان في بنائه والتعامل معه، ليس بمعنى أن لكل منهما زمانه، فقد يشتركان في تناول فترة تاريخية واحدة، لكن بمعنى أن يظل لكل منهما أدواته الفنية ونظرته ومن ذلك :
1) ليس المطلوب من الكاتب التدليل على زمن وقوع الأحداث بالدقة المطلوبة لدى المؤرخ، وإن حدث ذلك فهو اختياري بالنسبة له، رغم أنه يخرج الرواية من فضاءاتها كعالم خيالي، ويدخلها في عالم الحقيقة البحت.

.2) طريقة التعامل مع الزمان:

أ ــ إن الزمان عند المؤرخ زمن ممتد ذو بداية ونهاية، وهو ما يسميه النقد الحديث بالزمن التتابعي، وقد شاع عند المؤرخين في الماضي منهاج تصنيف وقائع التاريخ وفق أحداث كل عام بشكل متتال (سنة كذا ــ سنة كذا).

.ب/ بينما الزمان عند الكاتب، زمن خاضع للتصرف الفني، فله أن يجعله زمنا دائريا (الابتداء من النهاية) أو تداخليا ( عدم ترتيب زمن الخطاب مع زمن الحكاية) أو زمنا متشظّيا ( بتحويل الرؤيا إلى ما يشبه الحلم)، أو يعتمد ما يعرف بحرق الأزمنة ( تداخلها ليس وفق تمدد منطقي) وإن كان البعض يرى أن الرواية التاريخية لا مناص لها من تتبع زمن عادي ( أي تتابعي)، يأخذ في الاعتبار تسلسل الأحداث و ترتيبها الزمني لكي لا يلتبس الأمر على المتلقي.
ج) ثم إن المساحة الزمنية التي يغطيها المؤرخ، كمتتبع لكل أحداث التاريخ، قد لا تعني الكاتب كلها، فهو قد يجتزئ فترة من الفترات ليكتب عنها، لأنه قد لا يقول ما حدث دائما، إذ في إمكانه أن يقول لنا ما كان ينبغي أن يحدث (كاستشراف)، لكن تجزئة التاريخ هاته لا تعني توظيف التاريخ، لأنه لا يقع تحت اسم الرواية التاريخية ــ كما سنرى ــ حتى قيل إن المؤرخ يتناول التاريخ دون أن يغادر عصره، بينما الروائي عليه أن ينتقل إلى العصر الذي يكتب عنه، وتوظيف التاريخ لا يقتضي من الكاتب الرحيل إلى حيث التاريخ، ومن ثمة لا يدخل هذا التوظيف ضمن الرواية التاريخية، لأنه يفتح أجواء فحسب، ويأتي باستشهادات إن شاء فقط ومن ثمة لا يدخل هذا التوظيف ضمن الرواية التاريخية، ولو أن هذا الكلام غير نهائي.
د) هذا، ويظل للتاريخ زمانه وللرواية زمنها، ولو كانت بدورها تاريخا داخل التاريخ، كما رأينا في أحد التعاريف التي سقناها (السيرة الهلالية مثالا)، نقول داخل التاريخ لأنه لابد لها من أن تسير على ضوء التاريخ، وإلا ما أصبحت رواية تاريخية، ولذلك خصها النقاد ــ وفي مقدمتهم تودوروف ــ بزمن غير زمن التاريخ، فكان هناك زمن القصة إلى جانب الزمن التاريخي الذي لا يمكن إلغاؤه (نقول إن رواية ما خصت الفترة التاريخية كذا)..
ثالثا/المكـــــان: المكان عنصر من العناصر الأساسية في التاريخ كما في الرواية، غير أنه إذا كان يحافظ على صفته المتعارف عليها، وكل مدلوله الطبوغرافي والجغرافي والخرائطي في التاريخ، فإنه عرف ويعرف العديد من الصفات والدلالات في مصطلحات النقد الأدبي الحديث، حتى وإن كان المكان بمعناه العادي هو المطلوب في الرواية التاريخية، وهي تحافظ على هذه الصفة ــ في حدود ما نعلم ــ ولو أن هناك من يكتفي باسم مدينة أو جهة أو غير ذلك، كأن يقول:" كانت المدينة"، هكذا دون أن يذكر اسمها (2).
فحين يحدثك المؤرخ عن مكان ما اقتضت الأحداث ذكره، فهو لا يعني إلا مكانا يقع على الأرض نعرفه أو يريد لنا أن نعرفه باسمه وموقعه اللذين عرفه بهما الناس، ومن ثمة فالمؤرخ ليس حر التصرف في اسم المكان ولا الجهة التي يقع بها (إلا إذا أخطأ) ، أما حين تتضمن الرواية التاريخية ــ أو غير التاريخية ــ مكانا ما، أو حيزا أو فضاء، فأنت أمام شيء قد لا يتحدد بدلالة واحدة بالضرورة ، أي لا يقدم في مشهد واحد ومن مصدر واحد، فقد يوجد داخل الخريطة أو لا يوجد، وحتى إن وجد فهو يقدم بشكل يتجاوز مجرد تقديم المؤرخ له، لأن اللغة ــ كأداة وصف فني وجمالي ــ هي من سيلعب دور التقديم عند الكاتب، وهذا التقديم سيحوّل المكان ــ حتى وإن كنا نعرفه ــ إلى صورة فنية وصفية، صورة حية فاعلة لها دورها في العمل الأدبي، وليس صورة جامدة محايدة تشكل مجرد إطار للحدث كما عند المؤرخ.
ذلك أن " مكونات المكان ــ أي مكان في النهاية ــ لا تخلو من دلالات " ــ كما يقول غاستون باشلارــ وبالإضافة إلى قدرة اللغة على تحوير هندسة المكان بواسطة إخراجه في شكل صور وصفية، قد تتعدد أجزاؤها لتكون في نهاية الأمر كلا متكاملا، فإن من حظ الكاتب ــ عكس المؤرخ ــ أنه في إمكانه إنشاء مكان فني خارج منطق الجغرافيا، ولعل هذا ما دعاه غريماس " باللامكان".
و الكاتب ــ عكس المؤرخ ــ ليس من مهمته أن يقوم بوظيفة الدليل السياحي في تقديم المكان للمتلقي، بل إن هذا الأخير سيتلقى مشاهد المكان من أطراف متعددة، منها الكاتب ومنها الشخصيات في أحاديثها وحواراتها الخارجية والداخلية في شكل استرجاعات (فلاش باك).إلخ، كما أنه قد لا يتلقاه دفعة واحدة مباشرة، لأن التقديم ذاته مرتبط بتطور الأحداث التي يشهدها هذا المكان.
وحتى نختتم هذا الجزء الخاص بالمكان الروائي/ التاريخي، يجدر بنا أن نقول ــ مع الإقرار بالخصوصية لكل طرف من الطرفين ــ إن حجم الحدث وطبيعته، هما اللذان يصنعان قيمة المكان وأهميته، سواء في نظر الروائي أو عند المؤرخ، مع فارق هو أن الروائي ــ عكس المؤرخ ــ هو الذي يضفي على مكان ما هالة من الأحداث، ومن الجمالية ، بينما تتولى أحداث التاريخ صناعة المكان (الجغرافي) دون أن يكون للمؤرخ أي جهد في بنائه.
واذا كان فلاديمير بروب قد جعل الأمر مفصولا فيه بالنسبة للقصة ذات الطابع الخرافي، في تفاضل درجات الأمكنة وفقا لأهمية الأحداث ، فإن هناك من لا يرى للرواية علاقة بالخرافة، لأنها لا تقدم ما هو خارج الممكن حدوثه، يرى الناقد الانجليزي ارمسترونغ رتشاردز أنه في إمكان كُتاب الرواية، استخدام ما وراء الواقع وما وراء التاريخ، وما وراء المكان وما وراء الطبيعة في رواياتهم إلا في الرواية التاريخية، غير أن خصوصية المنظومة التقعيدية التي أنشأها فلاديمير بروب بخصوص البنيتين المكانية و الزمانية، فضلا عن صراع الشخصية، لم يغفلها النقاد في تحليلهم للنص السردي غير الخرافي، باعتبارها مكسبا لا ينبغي للنقد الأدبي الحديث أن يتجاهله.
ويمكننا أن نقول إن النص التاريخي (أي الذي يكتبه المؤرخ) هو أيضا يعكس نوعا من تراتيبية المكان، بحكم تفاوت مكانة الأمكنة ــ إن صح القول ــ نتيجة ثقل الأحداث التي يكون مكان ما مسرحا لها أكثر من غيره (عاصمة دولة مثلا أو مكان تميز بحدث ما في التاريخ. إلخ ) بالقياس إلى أمكنة ذات أحداث أقل أهمية.
رابعا: الطابع القصصي: وهذا أمر واضح، ذلك أن العناصر التي تناولناها، من شخصيات وأزمنة وأمكنة حين تقترن بالأحداث، لا يمكن تقديمها إلا ضمن طابع قصصي، سواء عند الروائي أو عند المؤرخ،
صحيح أن لكل منهما لغته لكنها لغة قائمة على طبيعة العمل، ولقد نجد من بين المؤرخين من تصعد به لغته إلى عالم الأدبية (الشاعرية)، رغم أنه مقيد بتقديم حقائق مجردة، خذ مثلا العلامة عبد الرحمن بن خلدون في وصف جبل الأطلس (بالمغرب)، ولغة التاريخ الشبيهة باللغة الشعرية عند مؤرخ أخر هو ابن سعيد المغربي وغيرهما، وربما لذلك يتساءل المستشرق الفرنسي اندريه ميكال :" لماذا لا نأخذ نصوص الأدب الجغرافي الاسلامي (...) هادفين إلى استعادة العالم الذي كانت تحسه وتدركه و ربما تتخيله وتتصوره وجدانات ذلك العصر.

الإشكاليات الكبرى: (أو مدى حرية كاتب الرواية التاريخية)؟

رغم القواسم المشتركة التي تطرقنا إليها بين الرواية التاريخية و التاريخ، ــ من شخصية وزمان ومكان وطابع قصصي ــ على اعتبار أن كلا من النصين الروائي و التاريخي، ينبنيان عليها، بل ولا يجب أن يخلوَا منها، يبقى هناك إشكاليات تبرز أمام كاتب الرواية التاريخية على وجه الخصوص، وهي كثيرة لعل من أبرزها، أولا وقوفه حائرا أمام الشخصية التاريخية الجاهزة، وقد تطرقنا إلى هذه الحيرة، وألمحنا إلى بعض طرق المعالجة التي أصبحت متاحة في عصرنا، ثانيا تعامل الكاتب مع الحقيقة التاريخية، وتلك هي التي سنعرض إلى بعض حالاتها، وكيف تصرف بعض الكتاب إزاءها:

1) اختلاف المؤرخين:

يحدث أن يختلف المؤرخون حول أسباب وملابسات واقعة تاريخية معينة، إذن ماذا كان موقف الكاتب؟ هل أخذ بما يتوافق مع توجهه الخاص ؟ أم انحاز إلى أصح الوقائع وأكثرها ثباتا؟ أم ماذا صنع؟، لنأخذ مثلا إشكالية الفتنة الكبرى في تاريخنا العربي الاسلامي، فإن دارسي التاريخ ــ وإن اتفقوا على سببها الذي هو مقتل الخليفة عثمان ــ (ضي الله عنه)، إلا أنهم يختلفون في الجهة التي استغلت الصراع، وعملت على تأجيجه، وأدت به إلى أن يصبح صراعا مسلحا (حربا الجمل وصفين. إلخ)، هناك من قال بنظرية المؤامرة الخارجية (موقف اليهودي عبد الله بن سبأ)، وهناك من قال بموقف مساعدي الخليفة الراشد عثمان بن عفان(رضي)، وفي مقدمتهم مروان بن الحكم الذي كان كاتبه الخاص، وهنا تحضرنا رواية للكاتب المعروف جرجي زيدان " وهي رواية " عذراء قريش" ــ كمثال.

ففي هذه الرواية يعالج الكاتب هذه المسألة، على أنها صراع داخلي بحت، ويستثني مسألة المؤامرة نهائي، بحيث لا يشير إليها إلا إشارات عابرة، ومن هنا جاء النقد الذي وُجه اليه، فضلا عن أمور أخرى أخذت عليه، منها رأى البعض بأنه ليس من حقه استخدام شخوص خيالية في رواية تاريخية(3)، رغم أن تلك كانت طريقته رغبة في تشويق القارئ حسبما قيل، ثم جوبه بسؤال أخر عن تناوله لفترات الصراع والفتنة من التاريخ الاسلامي دونما اختيار لفترات السلم والرخاء التي عرفها هذا التاريخ الطويل، وإسناده مواقف زعامة إلى مسيحيين في قضايا تهم المسلمين أصلا، وغير ذلك من المآخذ.

وعلى الرغم من ذلك، يبقى كاتب الرواية التاريخية التقليدية، مرتبكا أمام الشخصية الجاهزة، كواحدة من المسائل التي تمتحن حريته، لأن اللجوء إلى الماضي ليس هروبا إلى حيث الحرية بالضرورة كما يعتقد البعض، فهو الأخر له ضوابطه وله مناصرون، "يقول الراحل ممدوح عدوان مخرج مسلسل الزير سالم معلقا على ردود الفعل التي تلقاها: " لقد اكتشفت أن قبيلتي بني بكر وبني تغلب لا تزالان على قيد الحياة "، إذن فللماضي حماته أيضا، مهما كانت طبيعة هذا الماضي ودرجة قدمه.

.2) مسألة الحقيقة التاريخية والتخريج البديل:

حيث هناك من الكتاب (أو حتى الشعراء وكتاب المسرح)(4) من يحاول أن يقيم حقيقة تاريخية أخرى غيرالحقيقة التاريخية المعروفة، مع أنه من الصعوبة بمكان أن ينشئ مصدرا تاريخيا من خلال الفن أو الأدب فقط، لأن التاريخ يظل تاريخا والأدب يظل أدبا، إذ لا يمكن لباحث التاريخ أن يتخذ نصا إبداعيا مرجعا لبحثه مهما بلغ ذلك المرجع من تحري الدقة، لأن تلك ليست وظيفته بحكم أن مرجعه مرجع تخيلي، وليس مرجعا وقائعيا ناجزا، وهذا التجرؤ على اختصاص المؤرخين غالبا ما كان في زمن الرواية التاريخية التقليدية التي فرضت على نفسها قيود التنفس فقط ضمن ما انتجه التاريخ، فحاولت بين الحين والأخر التملص منه، لكن تبقى كلمة تقال هنا، فإذا وفق كاتب الرواية التاريخية الى تخريج حادثة تاريخية ما تخريجا غير مسبوق، باعتباره يقوم بقراءة أخرى خاصة به، ألا يكون ذلك إضافة تدخل التاريخ حين يفيد منها مؤرخ ما ويتقبلها؟.

.3) الكتابة الحذرة:

وعكس محاولات تأسيس حقائق بديلة، هناك من الكتاب ــ لاسيما المعاصرين منهم ــ من تفطنوا إلى صلابة الحقيقة التاريخية، حتى لا نقول قدسيتها، فتعاملوا معها بحذر شديد، وربما يأتي على رأسهم الروائي المصري المعروف نجيب محفوظ، هذا الروائي العالمي العملاق (( الذي لم يفهم المعادل الابداعي للتاريخ، على أنه تحوير أو تصحيح للثابت من شواهد هذا التاريخ، بل فهمه على أنه ملاطفة فنية يمكن أن تقتصر على القابل للتحويل الذي ليس بمفصلي، فتوقف عند حدود قاعدة ما هو حمّال أوجه )) (5) في رواياته التاريخية، ومنها روايته " كفاح طيبة ".

كان الكاتب حذرا حتى في استخدام كلماته، أنظر إلى هذه المعادلة التي جاء بها دون أن يخدش وجه التاريخ، يقول وهو بصدد الحديث عن البعثات التي كانت ترسلها دولة الهكسوس الرعاة المتمركزة بشمال مصر لجلب الأحجار والحبوب، من الجنوب موطن دولة طيبة المصرية يقول: (( وهو ما كان يعتبره ملوك الرعاة جزية ورآه ملوك طيبة رشوة يكفون بها شر الرعاة)) كفاح طيبة ص 11. قد نتساءل عن أي المبررين أهون: الجزية كدليل على تبعية الجنوب للشمال، أم الرشوة كدلالة على فساد نظام المحتلين في الشمال؟ ومع ذلك لا خطر محتمل على الحقيقة التاريخية في اعتقادنا من أي الاحتمالين.

وفي إجابة للقائد " بيبي" على سؤال مولاه "سيكننرع "،عن قوة سلاح العربات القتالية التي يمتلكها خصومه الشماليون (الهكسوس) يقول القائد : " والمؤلم يا مولاي أن تكون الأيدي التي صنعتها مصرية " ( كفاح طيبة ص 38) .

وقد يكون الأمر كذلك أو لا يكون، ما دمنا في فضاء حمّال الأوجه، فالكاتب وقف عند حدود استخدام كلمة (صنعتها) ولم يقل (اخترعتها) لأن استعمال هذه الكلمة الأخيرة لا يخلو من دخول في نقاشات المؤرخين الذين استقر رأي بعضهم على الأقل، على أن المصريين لم يكونوا يستخدمون الخيل والمركبات القتالية (العربات) إلا بعد احتلال بلدهم من قبل دولة الهكسوس الرعاة، أي أن مصر الفرعونية أخذت تقنية العربات كأنظمة قتالية عن الهكسوس.(6)، وبذلك كان نجيب محفوظ يتعامل مع التاريخ بحذر حتى في معجمه اللغوي.

والذي يمكننا ان نخرج به من هذه الحالات الثلاث، هو هل يحق للكاتب أن يعطي نفسه حق المشاركة في تفسير الوقائع التاريخية، سواء تقيد بتفسيرات المؤرخين أم اعتمد على استنتاجاته الخاصة، أم لا يحق له ذلك؟ قد نجيب اعتمادا على أحد الآراء النقدية الذي وإن اشتكى مسألة التداخل بين طبيعة الروائي وطبيعة المؤرخ، إلا أنه يحصر وظيفة الروائي في أنْ يحكي فقط ، دون حاجة لتفسير ما يحكيه، فالمؤرخ هو الذي من وظيفته السؤال لماذا حدث؟ وتعليل ما حدث، وهذا ما أصبحت عليه الرواية التاريخية المعاصرة عكس الرواية التاريخية القديمة.


مسببات تراجع الرواية التاريخية:

هل تراجع حضور الرواية التاريخية؟ نطرح هذا السؤال لنقول إنه أصبح يبدو لكثير من الدارسين والنقاد، أن حضور هذا النوع من الرواية قد عرف تراجعا محسوسا، غير أنهم لا يعللون هذا التراجع بإعراض الكتاب عن التاريخ، كما قد يتبادر إلى الأذهان، بقدر ما يعود ــ في نظر هؤلاء ــ إلى أن الكُتاب أصبحوا يفضلون تقنية روائية أخرى، ربما كان لها إيجابياتها هي الأخرى وإن أثرت على وفرة الرواية التاريخية بمفهومها الذي نعرفها به، وهذه التقنية هي ما يعرف بتوظيف التاريخ، الذي يعتبره الدارسون لا يندرج ضمن الرواية التاريخية، لأنه يجعل المعطيات، معطيات تراثية ــ معاصرة في آن واحد، وحتى إن وجدنا من يعتقد أن توظيف التاريخ في رواية ما، يجعل منها بصورة تلقائية رواية تاريخية، لكن توظيف التاريخ يعني في حقيقته الاكتفاء بالومضات و بالإشارة إلى بعض الحوادث التاريخية فتتخلل الرواية، دون أن يتخذ الكاتب من التاريخ مادة أساسية لها(7)

ولعل اللجوء إلى هذه التقنية وفرعلى الكاتب المعاصر كثيرا من الأعباء التي تحمّلها سلفه بكل ثقلها، وسنرى ذلك من خلال بعض مميزات هذه التقنية وهي:

ــــ أن الكاتب لم يعد شريكا للمؤرخ في تخريج الحقائق التاريخية، كما كان الأمر في عهود الرواية التاريخية التقليدية.

ــــ أيضا لم يعد رهين المصدر أو محتارا في كيفية تناول الشخصية التاريخية الجاهزة.

ــــ أن الكاتب أصبح أكثر اهتماما بعصره الحاضر، فهو يكتب عن عصره وإن طعّم كتاباته بفتح فضاءات تاريخية.

ــــ أنه يطلق العنان لخياله الذي هو أساس الإبداع الفني و الجمالي في الكتابة الأدبية.

ـــ وأخيرا فإن إشارات الكاتب إلى التاريخ تأتي، كما لو أنه يحيل القارئ إلى كتب التاريخ، باعتبارأنها هي مصدر التاريخ وليس الرواية.



وهكذا كان شيوع تقنية توظيف التاريخ هذه في الرواية العربية ـــ إنطلاقا من النصف الثاني من القرن العشرين ـــ قد انعكس سلبا على الرواية التاريخية، بحيث هو ما يفسر قلتها في نظر الدارسين كما أسلفنا، هؤلاء الدارسون الذين يرى بعضهم أن رواية "حدث أبو هريرة قال" للكاتب التونسي محمود المسعدي، تعتبر من النماذج الناجحة التي عرفتها الرواية العربية في مجال توظيف التاريخ حتى الأن، و يبقى سؤال هل أن توظيف التاريخ لا يجعل الكاتب يقع في نوع من الانتقائية، بحيث لا يوظف من هذا التاريخ إلا ما يخدم فكرته؟.


الخلاصـــة:

لقد ركزنا في رحلتنا مع الرواية التاريخية على عينات من هذه الاخيرة، سواء في الأدب الاوربي أو الأمريكي أو العربي، فضلا عن أدبنا الجزائري بطبيعة الحال، وأبرزنا بعض الأمثلة على مدى تعامل الرواية التاريخية مع التاريخ، وأشرنا إلى بعض الإشكاليات كاختلاف المؤرخين في تفسير الواقعة الواحد، ومسألة المصدر بالنسبة للكاتب والمؤرخ معا، وحلول الكاتب محل المؤرخ أحيانا..



لكن يبقى أن نشير إلى أن من درسوا الرواية التاريخية العربية في بداياتها، أكدوا على أن التجارب الأولى كانت محصورة في بعض الحقول التي أشرنا اليها، كما أنها من حيث البنية الفنية (الشكل) لم تكن، تجسد كل التقنيات الفنية التي انبنت عليها الرواية الأوربية، غير أنها ما لبثت أن عرفت بعد ذلك، تطورا ملحوظا على يدي الأجيال اللاحقة في القرن العشرين، في الأدب العربي بما فيه الأدب الجزائري، حيث برزت أسماء أعطت العمل الروائي التاريخي حقه من الإتقان واستيعاب الفنيات الحديثة تطرقنا إلى ذكر بعضها أثناء حديثنا عن نشأة الرواية التاريخية وتطورها.


وفي نظرنا ستظل الرواية التاريخية ذات أهمية، لأنها تدخلنا إلى عوالم التاريخ، ليس من بابه العلمي الصارم، ولكن من بوابة خلفية، ملؤها الطرافة والإمتاع والتشويق و الزخم الفني بوجه عام، سيما وأن هذه الرواية قد عرفت طريقها إلى المتلقي، اعتمادا على و سائل الاتصال الحديثة كالمسلسل التلفزيوني وغيره.



هوامش:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مراجع ورقية:
(1)
جورج لوكاتش " الرواية التاريخية "
(2) يقول يوسف القعيد: " إن ما كتب عن المكان نادر إلى أن جاء
كتاب غاستون باشلار "جماليات المكان"
وترجمه غالب هلسا بعد سنوات طويلة، وآلان روب غرييه، في "نحو رواية جديدة".
(3) من أبرز المعترضين على جرجي زيدان في مجال استخدام الشخصية الخيالية،
الشيخ أحمد الشرباصي في كتابه " يسألونك في الدين والحياة ".


(5) من مداخلة لنا بعنوان " النص الأدبي بين الإبداع ومنطوق التاريخ "
(6) جرجي زيدان " العرب قبل الإسلام "
(7) لعل من أهم شواهد توظيف التاريخ ــ في نظري ــ قصة لا أذكر أين قرأتها منذ سنين حول محاكمة طارق بن زياد بدعوى تخريب الاقتصاد القومي نتيجة إقدامه على حرق السفن.(
لم أذكر كاتبها مع الأسف ولعله فلسطيني)

التعاريف المتعلقة بالرواية أوردناها من إفادات اليكترونية من أهمها:
محمد أمين العالم " الرواية بين زمنيتها وزمانها "
عبد الحميد القط " بناء الرواية في الأدب العربي "
د. سيار الجميل " الفن الروائي التاريخي العربي: تحليلات ومعالجات "
ممدوح فراج النابي: الرواية التاريخية: تمثّل أم تجاوز للواقع من خلال الثلاثية التاريخية لنجيب محفوظ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى