أميمة عزالدين - ميخائيل.. قصة قصيرة

بملامح صارمةٍ، ودون شفقةٍ أو رثاء، أخبره الطَّبيب المُعالجُ، وهو يناوله تقريرَه الطِّبي، أنَّه سوف يموت فى الأسبوع الأوَّل من الشَّهر القادم، على أقصى تقدير، لا فائدةَ من تعاطي العلاج والمُسكِّنات، يجب أن يكون مستريحًا وهو يتهيَّأ للموت حتَّى يخلص له وحده.
فغَرَ فاه في استنكار هادئٍ، تململ، غير أنَّ الطَّبيب لم يعطه فرصةً للتَّعقيب، وقام بفتح الباب، وهو يربِّتُ على كتفهِ، في لحظةٍ دراميَّةٍ مُخزية.
طوال الطَّريق وهو يتحدَّث إلى نفسِه بصوتٍ مسموعٍ، حتَّى كاد النَّاس أن يعتبروه مجنونًا؛ لكنَّه واصَلَ طريقَه وهو يضحك بصوتٍ مرتفعٍ، لقد ذهب إلى الطَّبيب وهو يشكو بعضَ الألم فى صدره، وقد نصحه بالامتناعِ عن التَّدخين لكنَّه لم يُنصتْ إليه،واعتبرها أوامرَ ديكتاتوريَّةً لا ترقى إلى الإنسانية؛ فالتَّدخين بالنِّسبةِ إليه متعةٌ صافيةٌ، يرتشفُ السِّيجارة دائمًا مع قهوته المفضَّلةِ، وحيدًا في البيت، أو مع رفقاء المقهى البلديِّ، بحارة مسك الختامِ بشبرا، لا تضاهيها متعة وهو ممسك بها بين أصابعه؛ يُديرُها بنشوة ، حتى جاء هذا الطَّبيب المغفَّلُ يأمره فى وقاحةٍ أن يتنازلَ طواعيةً عنها؛ حتى يتمكن من إكمال ما تبقى له من حياة في هدوء وسلام، دون الاضطرار إلى وضعه على جهاز التَّنفُّس الصِّناعيِّ.
تلفَّت ميخائيل حوله؛ فوجد نفسَه وحيدًا تمامًا، كورقةٍ صفراءَ باهتةٍ يمكن أن تدوسَها أيُّ قدم، أو يلوكها حيوانٌ، و سرعان ما تكون روثًا!
أفزعته تلك النِّهايةُ البشعة، لا يريد أن تنتهي حياته و هو وحيدٌ أو منفر الرائحة أو مُتَّسخ، يجب أن يكونَ نظيفًا وطيبًا، و يشترى بدلةً جديدةً لهذا اليوم العظيم؛ حتى لو استفاد منها الدُّودُ بعد ذلك، فيكفيه أنْ يشعرَ باستحسان المُشيِّعين له.
أخرجَ كلَّ ماله الذي وفَّره لسنواتٍ طويلةٍ، النقود قديمة وباهتة لكن لا يهم ما دامت محتفظةً بقيمتِها الشِّرائيَّة، سوف يذهب إلى العم بولس ويشترى كفنا من خشب الأرز المدهونِ بالطِّيبِ و زيت اللوز، والمبطَّنِ بحريرٍ أحمرَ سابغ؛ حتَّى يستريحَ جسدُه المُنهكُ، لن يجادل في ثمنه على الإطلاقِ أو يساوم.
وقف أمام العم بولس في وقار وهو يشير إلى العمال بإنزال التوابيت دفعة واحدة أمام المحلِّ، تنقلت عيناه كبندول ساعة، وهو يُعاين تلك التَّوابيت الفخمة حتَّى استقرَّ على واحد، وضَعَ يدَه عليه مُتعلِّقًا به في ولهِ عاشقٍ:
أريدُ هذا التَّابوت يا عم بولس! .
واصَلَ العم بولس إصدارَ أوامرِهِ، كأنَّه لم يسمعْه وتناوبَ العمَّالُ على ترتيبِ أماكن التَّوابيتِ، حتَّى وضعوا التَّابوتَ المرادَ في الواجهةِ ، لم يلتفتْ العم بولس إليه، وقد مط شفتيه في لامبالاةٍ: لا يناسبك هذا يا ميخا ..إنَّه غالي الثَّمن، ولن تقدرَ عليه!.
لكن ميخا تعلَّق بذراع العم بولس متوسِّلاً إليه أن يمنَّ عليه بهذا التَّابوت، وقد أخرج نقودًا كثيرةً جعلت العم بولس يفتح عينيه الكليلتينِ بالكاد، في دهشة واستغراب شديدين، ثم استطرد:
ما كلّ هذه النقود يا ميخا؟!، لماذا لم تتزوجْ بها من قبل؟!!
ابتسم ميخا في مرارةٍ وهو يتحسَّسُ أنفَه المقوَّسَ:
لم تُعجبْ بي أيَّةُ امرأة، يرونني مثل غراب أحجلُ بقدمٍ واحدةٍ .
ضحك العم بولس حتى كاد أن يستلقى على قفاه ، لما أحس شغفه بالتابوت أمر أحد العمال بإرجاعه إلى مكانه وأخذ يتحسسه كامرأة لعوب حتى سال لعاب ميخا وبلع ريقه سريعا ونظر إليه رافعا نظارته الطبية في مكر ودهاء:
هذا التابوت للأغنياء فقط يا ميخا، سيكلفك ثلاثة آلاف جنية، لكننا نصرف معه الطيب والزيت المبارك مجانا .
لم يعد هناك مجال للمساومة؛ فلقد أخرج ميخا كلَّ النّقود التي معه، وقام بعدِّها العم بولس؛ فوجدها ألفين وخمسمائة وخمسة وسبعين، أعادها إليه في يده فى اشمئزاز واضحٍ، و أشاح بوجهه عنه تماما، مما حدا بميخا أن يتعلَّق بذراعِهِ مثل الطِّفل، ووعده أن يعطيَه السِّنةَ الذَّهبيةِ من فمه في خلال أيام.
لكن بولس أشفق عليه ووعده أنْ يخلعَها حين موته فقط.
أخذ يُرتِّبُ أوراقَ آخر العام بهمَّةٍ ونشاط، و كتب قائمةً بأسماءِ كلِّ معارفه و أصدقائه الذين سيحضرون قدَّاسه الجنائزيَّ، توقف طويلا أمام اسمها؛ إنها ماريا التي أصبحت عجوزًا، تتحسَّس طريقها بعكازٍ ذي مقبضٍ أبنوسيٍّ، بعد أن أصبحت جدَّة .
لا يهمّ حضورها، لكنَّه سيفتقد دموعَها وهو مسجَّى وحيدًا بالتَّابوت، التابوت!، تذكَّره لتوِّه، إنَّه يحبُّ البنفسجَ والياسمينَ و سعفَ النَّخيل، لن يبخلَ على نفسِه بشيء، وسيشترى الطِّيب المعتَّق من بولس مهما كان ثمنه، و سيأكل جيِّدًا، كلَّ أصناف الطَّعام التي حرمها منه الطَّبيب، سوف يتناولها قريبًا، و فى مطعمٍ شهيرٍ بوسط البلد، ولن يشاركه أحد في طعامه، لكنَّه لن يقربَ الخمرَ بعد الآن؛ فلقد حانَ الوقتُ للتَّطهُّر والتَّوبة، لا يريد أن يلقى الله وعقله قد لعبت الخمر به وسكن الشَّيطان قلبَه.
مرَّ أسبوعٌ كاملٌ دونَ أنْ يحدث شيءٌ، فقط أفلسَ و زادَ وزنُه كثيرًا، وزار الطَّبيب؛ الذي ربَّتَ على كتفِهِ في أبوَّةٍ حانيةٍ قائلاً:
سيأتيك الموتُ وأنت في كاملِ انتشائك، لن تشعرَ بألمِه، سيكون مثل وخز الإبر!.
لم يدرِ ميخا ماذا يقول؛ فلقد مرَّ أكثر من شهر وهو يشعر بتحسُّنٍ في صحَّته، وبرغبةٍ في ملاطفةِ البناتِ الصَّغيراتِ، حتَّى أنه يتمنَّى لو استطاع الإيقاع بإحداهنَّ لليلةٍ واحدةٍ فقط!.
نصحه الطَّبيب أن يبتعدَ عن الانفعالِ، و ألا ينغمسَ في ملذاتٍ قد تُعجِّل بموتِهِ، و تُزيدُ من رصيدِ آثامِهِ.
خرج ميخا وهو يشعرُ باتِّساعِ رئتيه، يعبُّ الهواءَ بقوَّةٍ، كأنَّه ماردٌ خرج للتوِّ من القمقمِ، مرقت بجواره فتاة فى العشرينيَّات، رائحتُها زلزلتْ كيانَه؛ فتبعها حتَّى بيتها، وهو يُمنِّي نفسَه بنظرةٍ منها، لكنَّها وبَّخته و سبَّته بأقذع الألفاظ؛ فعادَ خائبًا حسيرًا.
نصحه العم بولس أنْ يُجرِّبَ التَّابوت قبل شرائِهِ؛ لكنَّه لم يهتم؛ فهو يثق كثيرًا فيه، تجاهلَ إلحاحَه تمامًا، وأخبرَه أنَّه لا يُريدُ أن يُجرِّبَ الموتَ مرَّتين!.
طافَ بالشَّوارعِ ليلاً، وتوقَّف يُشاهدُ النِّيلَ، كأنَّه يراه لأوَّل مرَّة، أعجبه منظرُ العشَّاق الصِّغار وهم يتهامسونَ على المقاعدِ الحديديَّةِ قبالةَ النِّيل، الصَّفاءُ والمحبَّةُ تدور فيما بينهم، بينما -هو - يجلسُ وحيدًا كغرابِ البينِ، ببشرتِهِ السَّمراء و أنفه المقوَّسِ، تلك البناتُ الصَّغيراتُ اللائي يطفن بخياله كعرائس من الشَّهدِ المصفَّى و الماء النِّيليِّ، الرَّغبةُ سالتْ على حوافِّ قلبه واشتعلتْ و تاقَ لإحداهنَّ؛ لتُسكتَ هديرَ الرَّغبةِ الجامحِ.
عاد إلى البيت مثل المحموم، فاغتسلَ بماء باردٍ، و ظلَّ بالشُّرفةِ، وشعر برِجفةٍ تهزُّه بقوَّةٍ، و أحسَّ بدنوِّ الموتِ منه، صرخَ بأعلى صوتِهِ:
لا أريد أن أموت الآن؛ انقضى عمري قبل أن أرتعش من النشوة، كيريالسيون!
أزاحَ الغِطاءَ الحريريَّ عن التَّابوتِ، وأخذ يبكي بشدَّةٍ؛ حتَّى شعرَ بالتَّعب الشَّديد، الوجعُ يعتصرُ قلبَه الضَّعيف، وشعرَ بالاختناقِ، لم يجدْ بُدًّا من تجربةِ التَّابوتِ في هذا الوقت، لم تعد له أيَّة آمال في حياةٍ جديدةٍ .
تمدَّدَ داخل التَّابوت، رائحتُهُ تُشبه المِسْكَ إلاَّ قليلا، غير أنَّه اكتشفَ أن التَّابوت لا يسعُ جسدَه كما ينبغي، فاضطرَ إلى قرفصةِ رجليْه، لكنَّ هذا الوضعَ جعله غيرَ مرتاحٍ على الإطلاقِ، تذكَّر للتوِّ إلحاح بولس عليه لتجريبه .
أخذ يُؤنِّبُ نفسَه بشدَّةٍ ويُوبِّخُها، وقد جلسَ في التَّابوتِ يتأمَّله ويتحسَّسُ بِطانتَهُ الحريريَّةَ اللامعةَ، تُشبه جسدَ فتاةٍ بِكْرٍ لم يمسسْها بشرٌ منْ قبل.
إنَّه الآنَ يُفكِّرُ في حلٍّ سريعٍ للتَّخلُّصِ منْ هذا الكابوسِ الذي أطبقَ عليه، بالتَّأكيدِ لن يُصغِيَ إليه بولس وهو يحاول استبداله بآخر أكثر طولا ورحابة.
في المساء ذهب إلى بولس فلم يجده، ودلّه آخرون على مكانِهِ الأثير بكنيسة القديس مار مرقص، استقبله أحدهم بالدِّموعِ وهو يسألُ عن بولس، اقتاده إلى بهو الكنيسة، وأمام المذبح وجد بولس مُسجَّى وقد ارتدى ملابس الكهنوت في وقارٍ، وطوَّقوا جسَدَه بالوردِ.
وقفَ يتأمَّله طويلاً، ويتأمَّل التَّابوتَ الذي يضمُّه، إنَّه يُشبه تابوتَه غير أنَّه أطولُ قليلا، وهناك فراغٌ تحت قدميْ بولس، و تمنَّى لو ساعدَه أحدهم وقام باستبدالِ تابوتِهِ بتابوتِ بولس قبلَ أنْ يُدفنَ.
تلفت حواليه؛ فوجد أُناسًا كثيرونَ يتهافتونَ على رؤيةِ بولس وتوديعِه، وهم ينوحونَ بصوتٍ خفيضٍ حزينٍ.
استحى أن يخبرَهم بفكرتِهِ فقفلَ راجعًا إلى بيتِه، تحسَّس أسنانَه وضحكَ كثيرًا، بصوتٍ مُرتفعٍ لمَّا تذكَّرَ أنَّه سيحتفظُ بالسِّنَّةِ الذَّهبيَّةِ في فمِهِ.
لم يجدْ بُدًّا من الاستلقاءِ في التَّابوت حتى يُعوِّدَ جسمَه عليه، ثنى قدميه كراقصةِ بالية محترفةٍ، و شعرَ بالانزعاج.
أراحَ رأسَه أخيرًا، وتنفَّس الصُّعَداءَ و ابتسمَ، لكنَّه امتعضَ مرَّةً أخرى وهو يشعر بآلام النَّقرس تهري قدميْهِ، كتمَ تأوهاتِهِ وانتظرَ.[/SIZE]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى