اعتدال رافع - فارس.. قصة قصيرة

1- يطول التعب ويقصر العمر

و فارس.. تعود منذ نعومة أظفاره أن يفيق مع الشمس وينعس في غيابها، وما بين الشروق والغروب ملحمة عشق لا تنتهي، والمسئوليات تتثاقل جبالا على المنكبين كلما تقدم به العمر. وذاكرة الاخضرار تنحدر بطحالب الوسن التي تعرش على دوالي القلب، والحنجرة قبضة حنين مكتظة النداءات والأغاني والابتهالات إلى ضرع سخي لم تيبسه "الجفلات"، تضل دروبها عن دهاليز السمع وخاتمة الحكاية.

النهايات ما هي إلا احتمالات قصوى لبدايات رائعة لجوجة الجوع إلى أقمار مكتملة الاستدارة. ورحيق "فارس" يتناقص بالتدريج من فيض التعرق واللهفات، وعضلاته الواهنة لا تكف أوتارها المموسقة عن عزف ألحانها على لحم الوليمة، ألحان تبدأ بصخب الأبواق ورنين الصنوج "كالمارشات العسكرية" وتنتهي بنأمة قلب على وتر ربابة في صومعة الجسد المقرور ؟، وجسد فارس "كونه الصغير" متناسخا من أشجار وجبال ومياه.. أبدا مسكون بالهدير.. ولا يكف عن الدوران حول ينابيعه القصية ورغيفه الذي يشبه القمر في بعده وجلاله وجماله، بالتعب والضجر يدنو من أصله، يتسطح وقوفه ويعتريه شبق التراب.. ينز مواله الأخير على شرفة الانتظار، تتفتح زهرة برية مؤطرة بلحم الروح وبثور الرغبات المنسية التي كانت تفجر ليل الصمت بعربدتها المجنونة. ولا يضجر فارس "أجير" مقهى "أبو شفيق" من عمره الذي ضرس جلده بوشومه الداكنة والعميقة. مع الشروق يركض إلى اسمه بخطوات معربدة حتى ولو كانت أقدار البشر من أمثاله. مثل أقدار الشجر وكلاهما تحت رحمة الفأس والجشع.. ولا يجف" فارس" مع جفاف النهر وموت الشلال. النهر شريان الوادي كان يهدر بصخب البدايات عند أقدام الأشجار وتحت مقاصير المقهى، والشلال كان يهبط بزخمه الفارغ من إحدى خواصر جبل قاسيون، ويندي الكون من حوله، الأشجار والطاولات والكراسي ورواد المقهى المحرورين؟ .

2- يطول الانتظار ويقصر العمر

في انتظاراته الشتائية الملهوفة، يطل فارس من إحدى مقاصير المقهى الخشبية التي تبدو من عمق الوادي كمناطيد خضراء معلقة في الهواء. يطير كنسر والريح تختبئ في أكمامه وعبه، يصبح جوقة من الفرسان تخب مهورها في مروج القلب على صنوج الشعر، وكأيام زمان يصخب بهدير النهر ونزق الشلال الهادر

مقهى " أبو شفيق" الذي عمل فيه فارس أجيرا لأكثر من نصف قرن. مقترنا بذاكرة الربوة وعشاق الغوطة، بعد مائة سنة من عمره يبقى على حاله الذي كان عليه منذ ولادته. رياح العصر بصرعاتها وديكوراتها وبهرجتها وفنونها، لم تمس شعرة من رأسه الوقور، ولم تغير ألبتة من ملامحه الدمشقية العريقة. عشرات المقاهي العصرية جاورته وحاصرته، وبقي مقهى "أبوشفيق" في وسطها كأنه الجد المهيب، ينطق بتاريخ الأيام الغابرة.

وسترة فارس أعرض من كتفيه بشبرين، وبنطاله أوسع من خصره بأربعة أصابع، وحذاؤه أكبر من قدميه بثلاث نمر، يشد بنطاله إلى خصره بمؤسسة، ويطعج حذاءه مثل "الشحاطة". صاحب المقهى وأولاده من بعده، ما طالبوه أن يبدل حلته ويرتدي بذلة "عالموضة" مثل نوادل المقاهي المجاورة، فهو والمقهى سيان بينهما علاقة عمر لا يفصل عراها حتى الموت.. تبقى في ذاكرة الوادي كأغنية.. ويرجع قاسيون صداها.

"شوشة" الأشجار تخضر في الربيع ظ، وشوشة فارس حالكة في كل الفصول. أبدا ما غزا البياض شعرة من رأسه !! ربما لأنه مفطور على طفولة مديدة تجهل كيف تغلف أهوالها وتضخمها.
أصالة الرءوس والشجر من أصالة المنبت وما تحريم المشروبات الروحية في المقهى إلا زيادة في الحرص على تقاليده و"حريم" رواده. فالصرعات العصرية الوافدة، تفدغ جبهته وتدميها بقسوتها المبهرجة، ولابد من استيعاب أسبابها ومسبباتها وغاياتها حتى لا تضل الإيقاعات مسارها وحاراتها وأفلاكها.

وإذا كان "فارس" لا يعرف فك الحروف وتضليلاتها، فقد سمى نفسه زلمة الشاعر. وكان بفطرته النقية من شوائب عصره على علاقة وطيدة مع الله والطبيعة والشعر.

منذ الخمسينيات توطدت علاقة "فارس" بالشعر. وهذا التاريخ مرادف لظهور الشاعر في حياته، فقد دأب الشاعر منذ ذلك الزمن على المجيء إلى المقهى يوميا، ولا يقطع مشاويره إليه حتى في عز الزمهرير والبرد. حيث يقفر المقهى من رواده ويكون زبونه الوحيد. يأتيه راجلا ينوء بشجن مقرور النجوم، وأحلام طافحة بنسيج الغربة. و"فارس" ينتطره دائما في مقصورة من تلك المقاصير الخضراء، يمني نفسه بدفء التواصل وفرحة اللقاء.

النهر قصيدة والشلال قصيدة والمرأة الجميلة قصيدة، كل ما حولنا قصائد رائعة كتبها الله بلغته التي نعجز عن محاكاتها وتقليدها، قال له الشاعر عندما سأل "فارس" عن الشعر، ومن يومها لازمت "فارس" دهشة قصوى وتعجب أشد.

كيف يستطيع الشاعر أن يحمل كل هذا في كراسه الذي يتأبطه في مجيئه ورواحه؟ وقال له "أنا زلمتك".

وصار "فارس" يتصور مع صديقه الشاعر كلما جاءت الصحافة، لإجراء ريبورتاجات ومقابلات:للكاميرا عين فضولية لا تخطيء تفاصيل من تسلط عليه أنظارها. يشد فارس قامته، يحبس أنفاسه وينفخ أوداجه، ملابسه جديدة تخفي صديقه الشاعر، ولكنها فضفاضة مثل جلده بمقاس فارسين. ولا يبالي فارس.. فهو مثل الجنود ليس حرا في اختيار ملابسه: يشرق بفرح طفولي وهو يتفرج على حاله في الصورة. يتمعن فيها وهو غير مصدق، فهو منذ ليلة عرسه لم ينظر إلى نفسه في المرآة إلى درجة أنه نسي وجهه.

صاحب المقهى الذي يمت إلى "فارس" بصلة قرابة بعيدة قال له "استرزقلك بقرشين"، وسمح له أن يفتح المقهى في فصل الشتاء من أجل صديقه الشاعر. وفارس ينتظره طوال فصل الشتاء يوميا على مقصورة خضراء، والشاعر يأتيه راجلا يتأبط صحفه ودفاتره وأقلامه، كأنه منذور للشوق النازف من صخرة العشاق المجاورة للمقهى والمتكئة على قاسيون كلمة اذكريني المحفورة على وجه الصخرة تبدو كوشم داكن الحروف يطل على الوادي، غورو وعساكره مروا من تحتها، اقتحموا دمشق من بوابة العشق، لم يلتفتوا إلى الصخرة ووشمها الشاهد على عمرها وصلابتها:
دمشق حكر على العشاق..
طاولات فارغة وكراسي مهجورة مغطاة بأوراق الدلب والتين والدوالي الصفراء، والأغصان العارية من دثارها تنز بردا ووحشة. "فارس" وصديقه الشاعر وسط هذا العراء مثل دون كيشوت وسانشو، يحولان وحشة القفر إلى ملحمة طافحة بالأحلام.

وفارس يحب فصل الشتاء أكثر.
في فصل الصيف، والوادي يشمخ بأشجار حوره وقاسيونه، يهب فارس مع جهجهة الضوء كأنه على موعد مع عبلاه:
أباريق الشاي ودلال القهوة والنراجيل "هم" ترسه ورمحه وأبجره في مقارعة الزمن. الشعر والنهر والشلال والأشجار، أبجدية الدهشة المقيمة في الحنايا، ولا يعرف "فارس" سرا لهذا الاصطخاب الذي يعتريه في محرابهم! صاحب المقهى أعطاه غرفة على يمين الدرج المؤدي إلى المقهى، تزوج فارس وأنجب أولاده فيها وزوجهم أيضا. وبقي " أجيرا " نشيطا يعيل أولاده المتزوجين في عسرهم، وملابسه تتفضفض باستمرار مع جلده. ينمو التصحر كأخطبوط يشفط الماء والبهجة، يشح النهر ويموت وينقطع الشلال. يضيق الكون من حوله. صديقه الشاعر ومعجباته المليحات اللواتي يتقاطرن إليه من شاشات السينما والتلفزيون، يوسعون الكون إلى حدود الروح، ويتوازن فارس مع عالمه واسمه، يضحك كأيام الشباب قبل أن تتعرى لثته من بياضها كما تتعرى الصدفة من قوقعتها.. ويتعملق بالشعر في فصول البرد وحده يصبح فارس المقهى يصول ويجول على هواه. لا صخب ولا جلبة رواد ومذياع وقرقعة نراجيل كما في فصل الصيف. فصل الصيف يحوله إلى " أجير" مهمته مسح الطاولات وتلبية طلبات الزبائن، والقليل القليل منهم يمكن أن ينفحه بكلمة أو ابتسامة، والبقشيش في اكتظاظ، الحر والناس له رنينه وإغراءاته، ولكنه بلا تواصل أو مودة يكرس عبوديته!
والذاكرة روزنامة الأيام الماضية في غفلة الجسد، لا يذكر "فار" تاريخ ميلاده، فهو مثل المدن يؤرخ عمره بالأحداث الكبرى، يقول لصديقه الشاعر، إنه عاصر العسكر السنغالي ورشقه بالحجارة وشارك في إضراب الستين، ويصدق قول الشاعر، إن عنترة "أبو الفوارس" هو أب لكل الرجال الشجعان ولابد أن يمت إلى فارس بصلة قرابة يكبر إلى اسمه، ويتوارف في شتائه مع أشجار المقهى، يرتبط اسمه بالمقهى ويصبح مرادفا له. في لفح الشوق والسماء تشلح ثوبها الأبيض وتدثر الوادي، من مقصورته الخضراء يطل فارس على الوادي، يراقب مدخله الدمشقي بشغف العشاق، ينتظر قدوم صديقه الشاعر، لقد أعد له الشاي الخمير، وعندما يحضر سيدفيء له الكاسات بالماء الساخن حتى يرشف الشاي دافئا
يطول الانتظار ويقصر الدرب.
و"فارس" في مكانه لا يمل من انتظاراته الطويلة، يدثره الثلج، ويبيض شعره مثل فرسان العصور الوسطى.
كانت تلك المرة الأولى التي أخلف فيها الشاعر بوعده !


[SIZE=3]
يونيو 1996[/SIZE]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى