طالب الرفاعي - السكن.. قصة قصيرة

ليلة واحدة وتمر.. ماذا بقي لي؟ فوضى غرفته تشوشه.. حدث نفسه بصوت مسموع، عد على أصابعه:
الحقيبة جاهزة. جواز سفري. التذكرة. إذن الخروج..
باب خزانة الملابس مشرع. رفع بصره: ..والبذلة التي سأسافر فيها.. ارتمى على فراشه.
تمتم: تعبت..
نفخ بحرقة:
الله يلعن أبوالحاجة!
طالعته الثلاجة. تساءل:
الخضرة، والجبن، أين أذهب بهما؟
وفرح حسه:
ألم الأغراض، أنزلها لحسن..
وحرد:
الدرج هد حيلي! أحس بجسمي مكسرا. نقل المكيف لغرفة حسن أتعبني..
كنت لاهيا أرتب حقيبتي. لم ألتقط خطوات حسن. انتبهته حين سد بقامته المنحنية عتبة باب غرفتي، قال:
مساء الخير أستاذ نذير.

انتشلتني تحيته.اعتذرت:
عفوا، الغرفة مبعثرة..
أبدا أستاذ.. ربما تحتاجني بشيء؟
تسلم.

سحبت له كرسيا. وقبل أن يجلس، مسح عرقه، أشار بيده:
ما شاء الله، غرفتك باردة!
تذكرت مكيف غرفته المعطل منذ أكثر من شهر.. كيف يحتمل حرارة أغسطس الكويت؟! فرن كبير.. نظرت إليه، ولا أدري من أين نطت جملتي:
ما رأيك لو نقلنا مكيف غرفتي لغرفتك؟
فاجأه اقتراحي. ابتسامة ضائعة طوقت وجهه. وأسعفه، أكملت:
لن يأتي أحد لإصلاح مكيفك، ستقضي إجازة الصيف في تنور!
انبعجت ملامحه. تململ في جلسته. تلاقت نظراتنا. حزرت تردده وخوفه. طمأنته:
لن يعلم أحد بالأمر.

ولكن..
مكسورة الخاطر خرجت كلمته. نفضت يدي
سألته:
لديك مفك ومطرقة؟
تسرب بعض الانتعاش لنظرته، أجاب:
نعم.
وأسبقه، خرجت أمامه، هممته:
تعال معي.
ولم يعارض...
سيفرح المسكين.. أجمع له الخضرة لوحدها في كيس، والفاكهة في كيس آخر..
كعادته كلم أستاذ نذير نفسه بصوت مسموع، بينما انشغلت يداه في استخراج الخضراوات من الثلاجة
الله يساعد حسن، كيف سيقضي الإجازة بطولها لوحده؟! جميع المدرسين غادروا السكن.. من أجل كم دينار، كدت أجن خلال الأيام الماضية!
يوم أرسل ناظر المدرسة يطلبني. قصدته. حييته:
صباح الخير.

حاولت أقرأ وجهه. وكمن يزف لي خبرا مفرحا، نفخ كلماته:
مبروك أستاذ نذير.
الله يبارك فيك.
خفق قلبي، قلت: أخيرا جاء الفرج، وصلت ترقيتي. خمس سنوات وأنا احتمل المرار، أنتظر زيادة راتبي.. لهفي أسرعت إلى صورة زوجتي وطفلي. وصوت الناظر يعاجلني:
تقديرا من الوزارة لجهودك، فلقد وقع عليك الاختيار لتكون عضوا في لجنة مراقبة الامتحانات!
لطمتني كف الخيبة. شعرت بثقل جسدي. تلفت ورائي. تهالكت على أقرب مقعد. وحسه يضغط علي:
سيحسب لك العمل الإضافي لمدة نصف شهر.. لم أجد ما أرد به. فأضاف هو محاولا إظهار تفضله الكثير علي:
زملاء كثيرون لك، يودون لو تم تكليفهم!
أحنيت رأسي موافقا. ابتلعني المقعد. أحسست بحلقي جافا. بلعت ريقي، واستأذنته:
شكرا لكم أستاذ!
لأنزل أعطي الأغراض لحسن - أسر أستاذ نذير، دمدم يخطو: كلما نزلت الدرج، تمنيت ألا أصعد ثانية..
أربعة أدوار كاملة تعوي بها الوحشة. أهلكتني الوحدة.. تعمدت أمضي أطول مدة ممكنة في لجنة المراقبة. وحين أعود مساء، ولحظة تنعطف السيارة، يظهر لي مبنى السكن الأصفر، يلتف على رقبتي الليل. تتعنكبني غربتي. تهيض بي الديدان، تخرج من جحورها، تنهش روحي، تدمي قلبي.. أينكم: زوجتي وطفلي؟! لا أحد لي هنا. أشتهي لو يرن التلفون! أتوسله: دخيل الله رن!
أوف!
لهث أستاذ نذير، نازلا آخر درجات السلم. مناديا:
حسن..
-... يا حسن..
-...
اقترب من الغرفة. دفع بابها. عانده القفل..
أين ذهب؟!
ثقل أكياس الخضرة المعلقة في يديه. وضعها لثوان. وما لبث أن سمع:
تفضل يا أستاذ.
مرحبة جاءت الدعوة. دخل الغرفة..
ما هذا؟!
فاجأه حسن، كان قد مد جريدة على الأرض، جهز العشاء.. لامسه هواء المكيف البارد، وحفاوة حسن المنثورة:
نتعشى معا أستاذ.
ابتسم نذير. وكعادته حدث نفسه بصوت مسموع:
وأنام عندك!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى