سيد البحراوي - الرواية العربية والأدب الشعبى..

يعود اهتمامي بالعلاقة بين الأدب الشعبي والأدب العربي الحديث المكتوب، وخاصة الرواية، إلى فترة زمنية طويلة قد تصل إلى ربع قرن من الزمان. فهي مرتبطة بالقضية التي شغلت دراساتي حول نشأة الرواية العربية وتطورها، وإلى أي مدى كانت قادرة - عبر هذه المراحل - على إنجاز محتوى (محتويات) شكل (أشكال) عربية، تمثل القيم الجمالية والإنسانية للعرب المحدثين.

ولاشك أن التطرق إلى هذه العلاقة قديم قدم النصوص (الروائية) الأولى، حيث كانت تشغل بال كتاب هذه النصوص ونقادها. كذلك شغلت أذهان مؤرخي الرواية، ربما منذ منتصف القرن الماضي.

والمتابع لحركة الأشكال الروائية التي كتبت بالعربية منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى الآن، يستطيع أن يتبين علاقة ثلاثية ممتدة ومتأرجحة يتغلب فيها في كل مرحلة أحد الأطراف الثلاثة على الطرفين الآخرين دون أن يغيب هذان تماماً. ونقصد بهذه الأطراف الأدب الأوربي والأدب العربي المكتوب قديماً ثم الأدب الشعبي.

فلو أننا أهملنا وجهة النظر التقليدية التي تأكد عدم صحتها، والتي ترى في «زينب» لمحمد حسين هيكل أول رواية عربية (1912)، وعدنا إلى عشرات النصوص الأسبق التي تم التعرف عليها منذ فترة، لوجدنا لدينا ثروة هائلة من محاولات إنجاز رواية عربية ربما كانت أنضج بكثير من زينب، ومن هذه النصوص «وي لست إذن بإفرنجي» لخليل أفندي الخوري، و«الساق على الساق في ما هو الفارياق» لأحمد فارس الشدياق، وروايات زينب فواز وعبد الحميد البوقرقاصي ومحمود طاهر لاشين وغيرهم.

في هذه الروايات نجد دوراً بارزاً للأدب الشعبي (أو على الأقل الذوق الشعبي) قد يفوق دور الشكل الروائي الأوربي، كما يفوق الأثر التراثي، ويتمثل هذا الدور بوضوح في الاستخدام اللغوي القريب جداً من العامية (أو العاميتين الشامية والمصرية) سواء في المفردات أو في التراكيب، وهذا الاستخدام بديهي في مرحلة زمنية لم تكن الفصحى قد انتصرت بعد على التركية في الاستخدامات الرسمية، وكانت العامية لغة الحياة اليومية، وعنصراً أساسياً في لغة المكاتبات والمصالح الرسمية.

يضاف إلى الاستخدام الشعبي للغة، منطق العلية الذي يحدد حبكات النصوص ومن ثم بناؤها الفني وطبيعة شخصياتها. ففي هذا المنطق يمكن أن نجد تأثراً واضحاً بالذوق الشعبي في إبراز المغامرة والخيال للتشويق وهيمنة صورة من البطل الشعبي المغوار، وثنائية الخيِّر والشرير، والاحتفال بالحكمة والموعظة، وإن كان هذا الاحتفال يمكن أن يكون أثراً من آثار التراث العربي أو الأوربي أيضاً.

مؤرخ الرواية

وقد اضطرب الدارسون في حكمهم على هذا الدور الشعبي بين الإدانة والقبول. فلو أخذنا واحداً من أهم مؤرخي الرواية وأسبقهم، هو عبدالمحسن طه بدر، لوجدنا موقفين متغايرين بين كتابه «تطور الرواية العربية الحديثة في مصر»، ودراسته في كتاب «حركات التجديد في الأدب العربي الحديث».

«الواقع أن الخلاف بين هذا النوع من الرواية وبين الأدب الشعبي ليس إلا خلافاً نسبياً، وليس خلافا جذريا. فقد حاولت هذه الرواية قدر جهدها البعد عن مجال الواقع في اختيار موضوعاتها.. ولم تخضع هذه الروايات للمنطق الإنساني أو لمنطق السببية أو العلاقات الزمانية والمكانية، وحفلت بكل عجيب وغريب وشاذ، واتجهت أساساً إلى فضول القارئ ولم تتجه إلى تفكيره، وانقسم أبطالها إلى أبطال خيرين بصورة مطلقة، وأشرار بصورة مطلقة، ملائكة وشياطين، سواد مطلق أو بياض مطلق. لا يجوز على الأخيار منهم الضعف أو الهزيمة أو التردد، مما يعيد إلينا صورة البطل الشعبي بل شخصية المهجو والممدوح في الشعر العربي الفصيح في التراث أو في شعر مدرسة الإحياء، أما في تطور الرواية فقد قال: «وهؤلاء بدلاً من تطوير تراثنا الشعبي لجأوا إلى ترجمة الروايات الغربية المتأثرة بالرومانسية وتقليدها، وكان أدبنا الشعبي كفيلاً بإغناء تراثنا عنه لو اهتم به أحد فاستمد منه وطوره».
بعيدا عن رواية التسلية

وإذا كان حكم الإدانة صحيحاً بالنسبة لكثير من تلك النصوص التي سماها بـ «رواية التسلية والترفية»، فإنه لا يمكن أن يكون صحيحاً بالنسبة لرواية مثل «عذراء دنشواي» أو «في الحياة قصاص» اللتين اعتبرهما سيد النساج محقاً أنضج بكثير من «زينب»، وكان دور الملامح الشعبية فيهما ضروريا وموظفا على نحو فني جيد لخدمة موضوعيهما، الوطني الاجتماعي. أما في رواية «وي لست إذن بإفرنجي» التي لم يعرفها لا بدر ولا النساج، فقد كان هذا الدور الشعبي شديد الأهمية وأكثر إنسجاماً في نسيج الرواية، وأبعد دلالة في تحقيق الرسالة التي نشد الخوري إنجازها.

إن الخوري، الأديب الصحفي الشاعر، المسيحي المطلع على الثقافات الاوربية، والموظف الكبير لدى الباب العالي، لا يخفي ملامح رسالته، منذ ما قبل بداية الرواية، لكنه في الرواية ينجح في تجسيدها تجسيدا فنيا عبر شخصيات من لحم ودم، خالية من المثالية، تعيش صراعاتها الاجتماعية والنفسية، تفرح وتحزن، تأمل وتندم، تصح وتمرض، لكي يتكشف في النهاية- الجذر العميق لمجتمعاتنا الحديثة، والماثل فيما أسميته فيما بعد «التبعية الذهبية. فالبطل ميخالي مبهور بالإفرنج إلى حد الرغبة في التماهي معهم، والذي يدفع بابنته «ايميلي» إلى أحضان واحدٍ منهم رغم أنفها وأنف أمها، يكتشف في النهاية - وبعد أن يكون قد دمر حياة ابنته وأسرته - أن هذا التماهي مستحيل، مثلما يستحيل تحويل الأسود إلى أبيض أو العكس إلا بعمليات قسرية قد تكون قاتلة.

من أجل هذه الرسالة التي كانت ومازالت بالغة الأهمية لحياة سوية لأي شخص أو شعب، يستخدم الكاتب المبالغة الساخرة، وتدخل الراوي العليم والمقدمات والخواتيم وغيرها من وسائل (الإيضاح) الشعبية لكن تظل العلية الإنسانية أو حتى الواقعية، هي الحاكمة لسلوك البشر وتتابع الأحداث، وخاصة فيما يتعلق بإيميلي الشابة المتذبذبة (وكأنها أوطاننا) والتي تدفع الثمن في النهاية، بالدخول إلى الدير.

وتبدو لي مسألة الدخول إلى الدير في نهاية الرواية، قراراً بالانقطاع عن الحياة، والعيش في أسر منظور ديني مغلق، لم يكن بعيداً عن تحول المجتمعات العربية، بعد هزيمة مشروع محمد على في معركة (قونية 1841)، إلى الحل الإحيائي، باللجوء إلى الماضي والتراث. هذا الذي أنتج لنا مجموعة من النصوص التي حاولت كتابة «رواية» عبر إحياء أشكال تراثية مكتوبة مثل «الرحلة» كما في كتابات الطهطاوي وعلي مبارك، والمقامة كما في حديثي «عيسى بن هشام» و«موسى بن عصام» للمويلحيين الابن والأب، و«ليالي سطيح» لحافظ إبراهيم.. وغيرها.

هذه المحاولات غاب عنها البعد الشعبي التخيلي، بل ربما انطلقت من إدانة واضحة للأشكال الشعبية القصصية، أعلنها الإمام» المستنير» الشيخ محمد عبده في «الوقائع المصرية».

هذه الإدانة المنطلقة من عدم معرفة أو رفض أخلاقي (ديني سلطوي) تعود جذورها إلى «التبعية الذهبية» لطبقة مهيمنة فرضت على المجتمع المصري منذ عصر محمد على، وامتد تأثيرها بعد ذلك، فبعد فشل النموذج التراثي الإحيائي (التابع للماضي). جاء مشروع تقليد النموذج الأوربي للرواية في النصف الأول من القرن العشرين، في كتابات هيكل والحكيم والعقاد ويحيى حقي وغيرهم، حيث يظهر الشعب وآدابه مدانين، بالرغم من استخدام بعض تقنياته، فقد جاء لأغراض ايديولوجية (وخاصة الولاء للنموذج الليبرالي الرأسمالي الغربي) أو سياحية (أيضا لخدمة القارئ الأوربي).
الشعب بطلاً

ومع أن «الشعب» قد أصبح البطل في روايات المرحلة الواقعية كما يتجلى في أعمال محفوظ والشرقاوي ويوسف إدريس وسعد مكاوي وغيرهم، فإن الأدب الشعبي ظل متوارياً في ظل هيمنة مطلقة لنموذج الرواية الأوربية، رغم تسلل العامية إلى الحوار وحكايات السهرات الريفية وبعض نماذج «البطل الشعبي». فالبناء المتسلسل المحكم، والعلية الواقعية النمطية، أغفلا الأسطورة الكامنة والغنية للشخصية الإنسانية المصرية أو العربية، ولم تظهر إلا في أعمال قليلة لم يكتب لها الانتشار (قصدا) مثل «البلد» لعباس أحمد، وهو ما كان الدافع المعلن لجيل الستينيات في تمرده على تلك المرحلة «الواقعية» بحثاً عن أشكال أكثر قدرة على الغوص فيما وراء النمطي إلى ما هو أعمق وأكثر غوراً في الشخصية المصرية. وهو ما تحقق بالفعل- في كثير من أعمال كتّاب هذا الجيل وما بعده. غير أن مصرية أو عروبة الشخصية، في معظم هذه الأعمال، جاءت ملتبسة بإيديولوجيات قومية أو وجودية أو عبثية (أو ماركسية أحيانا)، وأشكال تلجأ إلى الرواية الأوربية الجديدة أو تيار الوعي أو الرواية التاريخية. ولم تظهر بوادر هذه الشخصية أو جوانب منها إلا في بعض أعمال عبد الحكيم قاسم «أيام الإنسان السبعة» ويحيى الطاهر عبد الله، «حكايات للأمير حتى ينام» ومحمد مستجاب، «ديروط الشريف»، ومحمد أبو المعاطي أبو النجا «العودة إلى المنفى» وعبد الرحمن منيف «مدن الملح» أو الطاهر وطار «عرس بغل» والطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال» إبراهيم الكوني «الرباعية» وصنع الله إبراهيم «وردة»، وبهاء طاهر «خالتي صفية والدير»، وعلوية صبح «مريم الحكايا»، وإبراهيم أصلان «عصافير النيل»، وأحمد أبو خنيجر «العمة أخت الرجال»، ومحمد صالح البحر «موت وردة»، أو غيرهم ممن لم نعرف.

غير أن انسجاما بين الرؤية الشعبية وتجلياتها الشكلية لم يتحقق على النحو الفني الذي أتصور أنه يحقق الرواية المصرية أو العربية القادرة على اجتذاب الجمهور العربي الواسع بتمثيله جمالياً وإنسانياً، إلا في بعض الأعمال مثل رواية (العامل) فكري الخولي: الرحلة، ورواية «رسائل الغرباء» لعبد المنعم عبد القادر التي صدرت أخيراً عن دار الهلال.

في هذه الرواية ينجح الكاتب في بناء روايته الضخمة (500 صفحة) على أساس من منطق القص الشعبي وخاصة ألف ليلة وليلة، حيث الحكاية الإطار التي تتوالد منها الحكايات بشخصياتها وأحداثها وزمانها ومكانها، والخيال المنطلق عبر تقنيتي الوجد الصوفي و(الحشيش؟) اللذين يقودان إلى تداع ممتد، قد يطول أحيانا، لكنه في الأساس محكم، والاحتفاء بالطقوس الشعبية مثل الموالد والمآتم في إطار بنائي روائي تام، يقدم أزمتنا نحن الغرباء في هذا الزمن (الحديث) عن أنفسنا، سواء بفعل الغزو الاستعماري أو الفساد أو التبعية الذهنية. ومثل خليل أفندي الخوري يبث عبد المنعم عبد القادر رسالته، وإن كان بذكاء أكبر ودهاء فني: علينا أن نبحث بداخلنا عن كنزنا الدفين، وهو في منظور الرواية: التصوف الفاعل المنتج. في هذه الرواية يتحقق إذن نوع من التكامل بين الشكل الشعبي ومحتواه فتصبح الرواية أكثر قدرة على تمثيلنا، وأسرع في الوصول إلى قراء عاديين (خارج إطار النخبة المثقفة)، وتقدم نموذجاً لحل أزمة الرواية التي لا يتجاوز عدد قرائها الآلاف من بين مئات الملايين الذين يتكلمون العربية.

إن النوع الأدبي يحصل على مشروعيته لا بنقل الأشكال وصب المضامين المحلية فيها كما حدث مع الرواية المكتوبة بالعربية، وإنما باكتشاف هذه الأشكال (حاملة مضامينها) عبر جدلية التواصل والانقطاع مع الأشكال السابقة عليها، وخاصة الأشكال الشعبية، كما أثبت ميخائيل باختين وغيره من دارسي الرواية.


سيد البحراوي
ديسمبر 2009

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى