مصطفى لطفي المنفلوطي - اللقيطة..

مر عظيم من عظماء هذه المدينة بزُقاق من أزقة الأحياء الوطنية في ليلة من ليالي الشتاء ضرير نجمها، حالك ظلامها، فرأى تحت جدار متهدم فتاة صغيرة في الرابعة عشرة من عمرها جالسة القرفصاء1 وقد وضعت رأسها بين ركبتيها اتقاء للبرد الذي كان يعبث بها عبث النكباء بالعود، وليس في يدها ما تتقيه به إلا أسمال تتراءى مزقها2 فوق جسمها العاري, كأنها آثار السياط فوق أجسام المستعبدين في عهود الاستبداد.
وقف الرجل أمام هذا المشهد المحزن المؤثر وقفة الكريم الذي تؤلمه مناظر البؤس وتزعج نفسه مواقف الشقاء، ثم تقدم نحوها وهز يدها برفق فرفعت رأسها مرتاعة مذعورة, وهمت بالفرار من بين يديه وهي تصيح: "لا أعود, لا أعود" فلم يزل يمسحها3 ويروضها حتى هدأ روعها وعاد إليها رشدها, وعلمت
أنها ليست بين يدي الرجل الذي تخافه, فنظرت إليه نظرة هادئة ساكنة لو أنها اتصلت بلسان ناطق وفم لحدثت عما وراءها من لواعج الأحزان، وأفانين الأشجان.
- ما اسمك أيتها الفتاة؟
- لا أعلم يا سيدي.
- بماذا ينادونكِ؟
- يدعونني اللقيطة.
- وهل أنت لقيطة كما يقولون؟
- نعم يا سيدي؛ لأني لا أعرف لي أبا ولا أما في الأحياء ولا في الأموات سوى رجل يتولى شأني ويضمني في منزله، وكنت أحسبه أبي فيمتلئ قلبي سرورا به وعطفا عليه، فلما رأيت أنه يعذبني عذابا أليما ويحمِّلني من آلام الحياة وأسقامها ما لا يحمِّله الآباء أبناءهم, علمت أني وحيدة في هذا العالم وفهمت معنى الكلمة التي يناديني بها، فألمّ بنفسي من الحزن والألم ما الله عالم به، وكنت كلما مشيت في الطريق ورأيت فتاة صغيرة سألتها: ألكِ أم؟ فتجيبني: نعم، ثم تقص علي من قصص عطف أمها عليها ورأفتها بها ما يزيدني هما، ويملأ قلبي يأسا، حتى كان يخيل إلي أنني أذنبت قبل وجودي في هذا العالم ذنبا عاقبني الله عليه بهذا الوجود، بيد أني صبرت على هذا الرجل وعلى ما كان يكلفني به من التسول على قارعة الطريق؛ إبقاء على نفسي وضنا بحياتي أن تغتالها غوائل الدهر، وكان كلما رأى حاجتي إليه وإلى مأواه اشتطّ في ظلمي ولؤُم في معاملتي، حتى صار يضربني ضربا مبرحا كلما عدت إليه عشاء بأقل من الجعل الذي فرض علي جمعه في كل يوم، وما زلت أصابره برهة من الزمان حتى جاءني هذه الليلة بداهية الدواهي ومصيبة المصائب، فقد حاول أن يسلب من بين جنبيّ جوهرة العفاف التي لم يبق في يدي ما يعزيني عما فقدته من هناء الحياة ونعيمها سواها، فلم أر لي بدا من أن أفر من بين يديه متسللة تحت جنح الظلام من حيث لا يشعر بمكاني، وما زلت أمشي على غير هدى لا أعرف لي مذهبا ولا مضطربا حتى أويت إلى هذا الزقاق كما تراني، فهل لك يا سيدي أن تحسن إلي كما أحسن الله إليك، وأن تبتاع لي رغيفا من الخبز أتبلغ به، فقد مر بي يومان لم أذق فيهما طعاما ولا شرابا؟
سمع الرجل من الفتاة هذه القصة المحزنة فما استقبلها إلا بدموع حارة تنحدر على خديه انحدار العقد وهَى سلكة، ثم أخذ بيدها ومشى بها صامتا واجما لا يكاد يستفيق شهيقا وزفيرا حتى بلغ منزله، وهنالك صنع بها صنع الكريم بأهله، وأبلغها من دهرها ما لم تكن تمني نفسها بالوشل القليل منه، وما هي إلا أيام قلائل حتى ظهرت في قصر ذلك الرجل العظيم فتاة جديدة من أجمل الفتيات وجها وأكرمهن أخلاقا وأرقهن شمائل وأكملهن آدبا، يعرفها كل من عرف صاحب القصر أنها ابنة قريب له مات عنها وخلفها يتيمة, فكان إلى هذا القصر مصيرها.
وكان لصاحب القصر فتاة من الفتيات اللواتي ربين التربية الحديثة التي يسمونها "التربية العصرية" ويريدون منها التربية الإفرنجية، فكان كل ما حصلت عليه من العلوم والمعارف, الفنون الآتية:
1- الرطانة الأعجمية حتى مع خادمها الزنجي، وكلبها الرومي.
2- الولوع بمطالعة الروايات الغرامية.
3- البراعة في معرفة أي الأزياء أعلق بالقلوب, وأجذب للنفوس.
4- الكبرياء والعظمة, واحتقار كل مخلوق سواها حتى أبويها.
5- الأثرة وحب الذات حبا يملأ قلبها غيرة وحسدا, حتى إنها لا تستطيع أن تسمع وصفا من أوصاف الحسن يوصف به سواها.
أت هذه الفتاة الشريفة أن هذه الفتاة اللقيطة قد أصبحت تقاسمها قلب أبيها وقلوب الزائرات من النساء بما وهبها الله من جمال الخَلق وجمال الخُلق، فأضمرت لها في قلبها من البغض والموجدة ما يضمره أمثالها من اللواتي ربين تربيتها ونهجن في سبل الحياة منهجها، فكانت تتعمد إساءتها وازدراءها وتغرى بتبكيتها وتأنيبها، والفتاة لا تبالي بشيء من هذا وفاء لسيدها وولي نعمتها، وترفعا عن النزول إلى منزلة من يغضب لمثل الهِنات الصغيرة حتى حدثت ذات يوم هذه الحادثة:
دخل صاحب القصر قصره ليلة من الليالي, فبينا هو صاعد على سلم القصر إذ عثر برقعة ملقاة فتناولها, فقرأ فيها هذه الكلمة:
سيدتي:
أنا منتظرك عند منتصف الليل في بستان القصر تحت شجرة السرو المعهودة. حبيبك.
فما أتم الرجل قراءة البطاقة حتى دارت به الأرض الفضاء, وحتى لمس قلبه بيمينه ليعلم أطار أم لا يزال في مكانه، ثم كأنه أراد أن يخفف ما ألم بنفسه من الحزن والقلق فقال: لعل ذلك الموعد مع تلك الفتاة اللقيطة، ومن الظلم أن أتهم ابنتي قبل أن أعلم الحقيقة، فنظر في ساعته فإذا الساعة قريبة فرجع أدراجه وما زال يترفق في مشيته ويتنقل في الحديقة من شجرة إلى شجرة حتى وصل إلى شجرة اللقاء، فكمن وراءها ينتظر ما خبأ له الدهر من حدثانه، وما أضمر له الغيب في طياته.
لم تكن الرسالة رسالة اللقيطة الوضيعة بل رسالة السيدة الشريفة، وبينما كانت الثانية واقفة في غرفتها أمام مرآتها تختار لنفسها أجمل الأزياء وأليقها بمواقف اللقاء, كانت الأولى نائمة في غرفتها نوما هادئا مطمئنا لا تزعجه زورة الطيف ولا تروعه أحلام الشباب، حتى سمعت وقع أقدام سيدها على سلم القصر فاستيقظت, ثم رابها موقفه فأشرفت عليه من حيث لا يشعر بمكانها فعرفت كل شيء, وعلمت أن سيدها سيقف على سر ابنته الذي كانت تعالج كتمانه زمنا طويلا وأنه لا بد قاتل نفسه في ذلك الموقف حزنا ويأسا، فعناها من أمره ما عناها ثم أطرقت برأسها لحظة تتلمس وجه الحيلة في دفع هذه النازلة وتطلب المخرج منها, ثم رفعت رأسها وقد قررت في نفسها أمرا.
نزلت مسرعة من سلم القصر فرأت الفتاة قد خرجت من باب القصر إلى ذلك الموعد, فأدركتها وأمسكت بطرف ثوبها فارتاعت والتفتت إليها وقالت لها: ماذا تريدين مني؟ أتتجسسين عليَّ؟ قالت لها: لا يا سيدتي، وأفضت إليها بالقصة من مبدئها إلى منتهاها، فأسقط في يدها وعلمت أن أباها قد وقف على سرها فقالت لها: لا تزعجي نفسك فإن أباك لا يعلم أيتنا صاحبة الكتاب, فعودي إلى غرفتك وسأذهب إلى الموعد, مكانك حتى إذا رآني هناك ذهب من نفسه ما كان يخالجها من الشك في أمرك.
ثم استمرت أدراجها حتى وصلت إلى تلك الشجرة, وهنالك برز الرجل من مكمنه واقترب منها حتى عرفها, فحمد الله على سلامة شرفه وشرف ابنته ثم قال لها: أيتها الفتاة, إني أحسنت إليك واستنقذتك من يد البؤس والشقاء فأسأت إلي بما فعلت حتى كدت أهلك الليلة حزنا وغما, وألصق بابنتي ذنبك وأحمل عليها عارك, فاخرجي من منزلي, فاللئيم ليس أهلا للإحسان.
فخرجت خائبة تتعثر في أذيالها حتى وصلت إلى شاطئ النهر, وهنالك أخرجت مذكرتها من محفظتها وكتبت فيها آخر كلمة خطتها أناملها:
"أحمد الله أني قدرت على مكافأة ذلك الرجل الذي أحسن إلي بستر عاره, وإزالة همه وحزنه, وافتدائه بنفسي".
ثم ألقت بنفسها في النهر، وما هي إلا دورة أو دورتان حتى افترق ذانك الصديقان الوفيان، جسمها وروحها، فطفا منهما ما طفا ورسب ما رسب.
وفي صباح ذلك اليوم عثر الشرَط بجثة الفتاة الشهيدة, فعرفوها وعادوا بها إلى منزل سيدها فبكاها بكاء كثيرا, وندم على ما أساء به إليها من طردها وإزعاجها, ثم أمر بدفنها ولم يبق في يده من آثارها غير حقيبتها التي حفظها في صندوقه دهرا طويلا.
مرت الأيام تلو الأيام وجاءت الحوادث إثر الحوادث, وظهر للرجل من أخلاق ابنته وطباعها وتهتكها واستهتارها ما لم يكن يعرفه من قبل, حتى ضاق بأمرها ذرعا وجلس في غرفته في إحدى الليالي يفكر فيما ساق إليه الدهر من خطوبه ورزاياه، ثم ألم به الضجر فقام يقلب في صندوقه حتى عثر بتلك الحقيبة ولم يكن قد فتحها حتى هذه الساعة، فإنه ليقرأ فيها إذ عثر بتلك الكلمة التي كتبتها الفتاة على شاطئ النهر قبل موتها, فما أتى على آخرها حتى عرف كل شيء، فسقط مغشيا عليه يعالج من الحزن والهم ما يعالج المحتضر من سكرات الموت.
فما استفاق من غشيته حتى صار يهذي هذيان المحموم, ولبث على هذا الحال بضعة أشهر يمرض ثم يبل, ثم يمرض ثم يبل, حتى أدركته رحمة الله فمرض مرضا لم ينقض إلا بانقضاء أجله.
فيأيها الوالد المجهول الذي قذف بتلك الفتاة البائسة في بحر هذا الوجود الزاخر: أعلمت قبل أن تفعل فعلتك التي فعلت أنك ستبرز إلى هذا العالم فتاة تلاقي من شقائه وآلامه ما لا قبل لها, ولا لمخلوق من البشر باحتماله.
ويأيها الآباء العظماء: إن كنتم تريدون أن تسلموا بناتكم إلى هذه المدنية الغربية تتولى عنكم شأنهن وتكفل لكم تربيتهن, فانتزعوا من بين جنوبكم قبل ذلك غرائز الشهامة والعزة والأنفة، حتى إذا رزأكم الدهر فيهن وفجعكم في أعراضهن, وقفتم أمام تلك المشاهد هادئين مطمئنين، لا تتعذبون ولا تتألمون.
ويأيها الناس جميعا: لا تحفلوا بعد اليوم بالأنساب والأحساب، ولا تفرقوا بين تربية الأكواخ وتربية القصور، ولا تعتقدوا أن الفضيلة وقف على الأغنياء، وحبائس على العظماء، فقد علمتم ما أضمر الدهر في صدره من رذائل الشرفاء، وفضائل اللقطاء.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى