رشيد تجان - عطلة صيف على المقاس

الكُتَّابُ أو المسيد أو الجامع مدرسة لحفظ القرآن الكريم، وإقامة بعض الصلوات كصلاة المغرب والعشاء والفجر. كنا نحن ـ الأطفال ـ نلج بابه على الساعة الثامنة صباحا من كل يوم ما عدا يوم الجمعة طيلة عطلة الصيف. نأخذ ألواحنا ونراجع ما حفظناه من الذكر الحكيم أمس عن ظهر قلب، لنمحوَها ونكتب جزء جديدا منه لحفظه مساء اليوم. عملية مكرورة نقوم بها كل يوم. أما من لم يستطع حفظ المكتوب على اللوح فإنه يتأخر لليوم الموالي إلى أن يتمكن من ذلك، ويحرم من استراحة محوِ اللوح، وعرضه على أشعة الشمس حتى يتجفف ماؤه.
كان الشيخ الفقيه يتجاوز القِصَر ببعض سنتمترات فقط، ممتلئ الجسم، وجهه دائري الشكل يختمه من الأسفل بلحية سواء كثيفة الشعر يتخللها بعض البياض، قُصِّصَت بطريقة تبعث على تدينه، يلبس خلال فصل الصيف جلبابا صوفيا أبيض خفيفا يستر وراءه بطنا منتفخا شاهدا على حنكته الواسعة في الأكل والتهافت على الولائم مختلفةِ المناسبات. كان الفقيه صارما في مسألة التربية والأخلاق بحيث إنه يستعمل عصاه كلما لزم الأمر، يضرب من أساء الآداب أو قام بشغب ما.
كنا نمضي ساعات في المسجد، نشعر فيها بالعياء لكثرة الجلوس على الحصير المصنوع من الصُّبار، وغالبا ما يكون مهترئا، كما نساهم نحن كذلك في إتلافه بقطع خيوط نسيجه. كانت ساعات الصباح تنقضي بفعل الانشغال بكتابة آيات جديدة من القرآن على الألواح، وهي غالبا ما تستغرق وقتا. أما ساعات المساء فقد كانت طويلة جدا حَدَّ الملل لارتفاع درجة الحرارة داخل قاعة الدرس لسقفها القصديري وعدم تهويتها لكثرة التلاميذ وغياب نوافذ، وما يصدر عن بعضنا من ريح كريهة. ولكي نتجاوز هذا الوضع كنا ننشغل باللعب، نختبئ عن الفقيه بالصفوف الأمامية ونضرب بعضنا البعض على القفا في غفلة من بعضنا، ونبحث عن الضارب الذي هو واحد منا، أو نصطاد الذباب ونربط إحدى أرجلها بخيط رفيع، ونحررها، تطير في الفضاء وتحدث ضجة بين التلاميذ لا سيما الأصغر سنا، يصل الأمر إلى الفقيه الذي يكون منشغلا بأمر ما، فيُعاقَبُ كل المخالفين الجالسين في الصفوف الأخيرة على اعتبار أنها مؤامرة بينهم.
كنا نفكر كثيرا في ساعات المساء لِمَا نشعر به من ثقل الوقت، فنتحين الفرصة لعدم الالتحاق بالمسجد، نتفق مع بعض أبناء "الدرب" على الذهاب إلى شاطئ البحر بعد الزوال. نغادر بيوتنا على الساعة الثانية، كأننا متجهون إلى "المسيد" ثم نغير الطريق إلى الشاطئ. هذا الشاطئ الصخري الذي يبعد عنا ببعض كيلومترات. نقطع المسافة الفاصلة بين الحارة والشاطئ في وقت قد يصل إلى نصف ساعة.
على الشاطئ تتغير الأمور، ننزع ملابسنا ونجمعها في قمصاننا أو في أكياس بلاستيكية، وندفنها في الرمل، ونعلم عليها بحجر، ثم ننطلق إلى البحر نرتمي في أمواجه فنشعر بالبرودة تسري في كل الأجسام. نلهو بالمياه، نسبح أو نتعلم السباحة، نغطس رؤوسنا في الماء ونرفعها إلى أعلى. نلقي بأنفسنا على الرمال تاركين أشعة الشمس تلهب الجلد بحرارتها وتنفذ إلى العظام. نلعب كرة القدم ونركض ثم نعود إلى الماء ثانية ثالثة ... إلى أن نشفي الغليل. وبعد ذلك نستحم في مياه عادمة تلقي بها شركة للأسمدة الكيماوية للتخلص من الملح العالقة بأجسادنا حتى لا يفطن الأهل لذهابنا إلى البحر دون المسجد.
في طريق الرجوع نشعر بالعياء والتعب من كثرة الحركة، نجر أرجلنا قاطعين مسافة الذهاب نفسها، وعلى وجوهنا دلائل تكون سببا في عقابنا، نستعد لها نفسيا، يكبر الخوف إن علم آباؤنا بذلك، فالعقاب يكون أكبر. وكلما اقتربنا من "الدرب" كلما تحولت الفرحة إلى رعب مما سيقع، ضرب وشتم وتهديد بكشف السر للأب، لكن في غالب الأحيان لا يكون ذلك.
الأم تختلف عن الأب، تغضب وتصرخ وتشتم وتضرب، غير أنها تلين بعد كل ذلك، تمسح دموعك، وتعطيك بعض الحلويات لتمتص غضبك، فتشعر بدفئها وحنانها، والسبب دائما أنها تخاف أن يصيبك مكروه، وتتطلع أن تكون أنت الأحسن بين الأقران، عكس الأب الذي يُخفي ضعفه أمامك، يغضب وتتغير ملامح وجهه فترتعد فرائصنا خوفا منه.
عندما نصل إلى الحي نسأل عن آبائنا هل عادوا من العمل أم لازال الوقت مبكرا على ذلك. كنت أتطلع إلى الزقاق وأمعن النظر إن كانت دراجة والدي النارية أمام الباب، فإن كانت موجودة فتلك طامة كبرى، وإن كان العكس أُسرع بالدخول قبل عودته، وآخذ حصتي المعتادة من العقاب في مثل هذه الظروف. حين تسأل الأم أين كنت يكون الجواب "ما بقايتش نعاود"إذ لا مجال للكذب، فيبدأ الصفع والضرب، تجرني من ثيابي وتعنفني قائلة "ماخفتيش تغرق"، ويكون الجواب دائما "ما بقايتش نعاود"، لكن ذلك غالبا ما ينتهي بتدخل بعض الجيران مع وعد عرقوبي بعدم العودة إلى مثل هذا السلوك.


الدارالبيضاء في 29/09/2016


----------------
ـ الحارة








[SIZE=4][URL='http://alantologia.com/page/21867/unread']رشيد تجان[/SIZE]
[SIZE=4][/SIZE]
[/URL]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى