مراد السباعي - سباق في مَسبح الدّم.. قصة قصيرة

لكأنني لست في بلدي، فما أذكر أنني أعرف هذا الشارع الذي أسير عليه ثم إن الناس يختلفون اختلافاً كلياً في لون البشرة وطراز اللباس عن أبناء بلدي، كنت كالضائع لا أعرف أين أنا ولا في أي اتجاه أسير، والعجيب أن الناس جميعهم يمضون في اتجاه واحد، ما الذي يجعلهم هكذا؟.. وماذا يقصدون؟ أهم في مسيرة أم في جنازة؟.‏

ثمة طبول تقرع من بعيد وأصوات أبواق وضجيج وهتافات.. قلت في نفسي لا بد أن يكون هنالك احتفال من نوع ما.. ولكن ما المناسبة.. أنا أعرف أن المناسبات عندنا كثيرة ولكن ليس موعدها الآن.. رأيت رجلاً عجوزاً يقترب مني ويهمس بأذني: إنها القذارة... سألته: ما تعني بالقذارة؟.. أجاب والغضب يرعش يديه وشفتيه: سباق في مسبح الدم وجوائز توزع على الفائزين هذه هي المرة الأولى التي تحدث فيها مباراة رياضية من هذا النوع في بلد عربي.‏

أدهشني قوله فسألته: متى وكيف أنشئ هذا المسبح وما الغرض من إنشائه.‏

أجاب: إنك على ما يبدو لست من سكان هذه المدينة.. ولكن ألا تسمع المذياع ألا تشاهد التلفزيون ألا تقرأ الجرائد؟.‏

قلت: أسمع وأشاهد وأقرأ ولكني لا أفهم شيئاً، لا أستطيع الوصول إلى الحقيقة ولهذا فأنا لا أعرف ما يجري في عالمنا ربما كنت عسير الفهم، بل إني كذلك بكل تأكيد...‏

قال: تعال معي لترى بعينيك وتسمع بأذنيك، ولكن دعني أتأبط ذراعك فأنا رجل ضعيف أمضى رحلة طويلة من العمر شاقة ومتعبة، ومليئة بالمآسي.‏

سألته: ومن أي بلد أنت؟..‏

أجاب: الأصل من حيفا، أما الآن فلا مكان لي على الأرض.‏

وسرنا مع الناس في اتجاه المسبح، كقطيع من الحيوانات يساق بلا إرادة.. وجوه حزينة ورؤوس مطرقة إلى الأرض كأنما يخجلها أن تشارك فيما لا ترغب في المشاركة فيه لو أعطيت حرية الرأي هكذا كنت أتخيل وربما كنت على خطأ. قلت للرجل العجوز: ألا تلاحظ أن الجميع غير راضين عن المشاركة في المباراة فلماذا يذهبون إذن؟..‏

أجاب هامساً: الزم الصمت فقد اقتربنا من المسبح إياك أن تتفوه بكلمة واحدة لا ترضي القائمين على تنظيم المباراة.‏

ودخلنا بين صفين طويلين من الجنود يصوبون بنادقهم نحو الجمهور الذي كان يرفع الأيدي تعبيراً عن الولاء والمسالمة.‏

وكانت أصوات الأبواق والطبول والصنوج تصم الآذان أما جدران المسبح الخارجية فكانت مزدانة برؤوس بشرية قطعت حديثاً فهي ما زالت تقطر دماً وقد علقت على الحبال المرفوعة كما تعلق بالونات الزينة، رؤوس متنوعة لشيوخ وأطفال وشباب وأطفال ونساء.‏

همست بأذن الرجل العجوز وأنا أرتعد من الخوف ما هذا... إنه كابوس فيما أعتقد ولا شيء من الحقيقة فيما أرى. أجاب: بل إنها الحقيقة كل الحقيقة.. اصمت أيها الأحمق فليس المكان مناسباً للتعليق، المهم أن ترى ما يجري في الداخل. قلت: ألا تشم رائحة النتانة.. هذا ليس مسبحاً وإنما هو مذبح.. أريد العودة، لا أريد الدخول إلى مكان لا أجد فيه راحة النفس...‏

أجاب العجوز وهو يمسك ذراعي بقوة: إياك.. فهؤلاء الجنود مكلفون بقتل كل من يدير لهم ظهره.‏

وهبت آنذاك ريح قوية وتناثرت على الأرض أوراق أشجار برتقالية اللون ورأيت سحابة سوداء تغطي قرص الشمس فيصبح النهار أغبش كالمساء وثمة سرب من الغربان يحوم فوق رؤوسنا وينعق.‏

تخطينا الجنود بسلام ودخلنا المسبح وجلسنا في مكان ملائم وكان المسبح مليئاً بدماء حقيقية، لم أكن أتصور ذلك. ذهلت شعرت بدوار وغثيان، كدت أتقيأ، فكرت بالخروج ولكن الأمر الأسلم لي البقاء هنا حتى نهاية الحفلة.‏

كانت أمامنا عل الطرف الآخر من المسبح سدة مغطاة بالمخمل الأحمر وحولها رفعت أعلام أجنبية بينها علم عربي واحد، أعرفه، صفقت له يوم رفع في سماء بلادنا ذات يوم... ثمة رجال لهم شهرتهم العالمية يتصدرون المكان منهم المدنيون من ذوي الوجوه المستطيلة والأنوف المعقوفة ومنهم العسكريون من ذوي الرتب العالية والصدور المغطاة بالأوسمة وأمامهم على منضدة من الخشب الأسود كأسان ذهبيتان من الحجم الكبير ستمنحان بلا شك للفائزين الأول والثاني كانوا في غاية البهجة والسرور يتضاحكون ويتندرون ويتبادلون الأنخاب، وكانت عدسات التصوير وأجهزة السينما والتلفزيون تلقي عليهم الأضواء من كل جانب، أما المذيع فقد بح صوته وهو يتحدث عن ماضيهم وما قدموا للعالم من خدمات سيسجلها لهم التاريخ ما دام للعالم تاريخ.. لم يكن للحرية تمثال قبلهم ولولاهم لما كان للإنسان حقوق ولا كرامة ولا عيش، هم وحدهم أول من وضع حجر الأساس في بناء الحضارة الحديثة وهم وحدهم الذين يقدمون المساعدات المالية والاقتصادية للدول المتخلفة، إن جميع الشعوب الفقيرة مدينة لهم بحياتها، تأكل من قمحهم ومعلباتهم وأرزهم وسكرهم، وهذا كله لقاء ماذا؟.. لا شيء على الإطلاق إنهم لا يريدون سوى محبة الشعوب لهم وفتح بلدانها أمامهم واستقبالهم كأصدقاء، وبذلك فقد يسود السلام في العالم وتأخذ الديمقراطية مكانها في جو من الحرية لا استغلال فيه ولا استعباد.. وظل المذيع يتحدث فلم يترك كلمة واحدة في قاموس الكلمات الطيبة لم يستعملها في امتداح من يجلسون على السدة... وسمعت الرجل العجوز يقول بصوت خافت كأنما يحدث نفسه:‏

ـ ما أكثر كلابكم أيها المجرمون.‏

فجأة يظهر المتسابقون على حافة المسبح لم يصفق لهم أحد سوى الجالسين على السدة أما الناس فقد شدهتهم المفاجأة فأطرق الجميع إلى الأرض وأيديهم على وجوههم من شدة الخجل.‏

قال أحد الحضور همساً: عندما تهدر الكرامة تسقط عن الوجوه الأقنعة والبراقع المزيفة.‏

وقال آخر: لا بأس فبالتعرية نستطيع الوصول إلى لب الحقيقة.‏

وقال ثالث: أليس لدى الدول المتطورة ـ مايوهات ـ تستر أصدقاءهم.‏

وقال رابع: ورقة من التوت على الأقل...‏

وكان المتسابقون متعاطفين جداً.. لقد تعانقوا وتبادلوا القبلات وتصافحوا.. وهلل المذيع للروح الرياضية المتسامية وقال الكثير والكثير مما يقال في مثل هذه المناسبات ولكني لم أكن أصغي إلى ما يقول فلقد لفتت انتباهي امرأة حسناء ذات شعر أشقر تطلق ضحكة فاجرة وهي ترفع كأسها واقفة على السدة ثم تقول: عندما أفرغ كأسي وأضعها على المنضدة يبدأ السباق.‏

وهكذا كان.. وغاص المتسابقون في مسبح الدم.. كان السباق صعباً في الدماء اللزجة وكان التحرك نحو الهدف بطيئاً جداً. ولكن السينما والتلفزيون ووسائل الإعلام الأخرى كانت ت تحرك بسرعة في كل الاتجاهات.. أما الجمهور الصامت فلم يسلط عليه أي ضوء ولم تلتقط له صورة واحدة.... وكأنه غير موجود...‏

وسمعت المذيع يرسل صوته كبوق سيارة معلناً عن اسمي الفائزين الأول والثاني وكانت اللغة غير عربية ولكن من حسن الحظ أن الأسماء لا تحتاج إلى ترجمة...‏

ووقفت المرأة الحسناء ذات الشعر الأشقر فخلعت أرديتها قطعة قطعة ورمت بها إلى مسبح الدم ابتهاجاً بفوز من تحب. همس أحد الحضور: يا للدعارة. وهمس آخر: وحواء أيضاً تنسى ورقة التوت.. وهمس ثالث: حركة استعراضية جميلة للترفيه عن السادة.‏

وهمس رابع: وأين عيون زوجها:؟‏

وهمس الرجل العجوز: عينا زوجها موجودتان هنا.. إنهما عينا الفائز الأول.. ألا ترى كيف ينظر إليها بحب مكثف، ويلوح له بيده شاكراً لها ما فعلت من أجله.‏

وسمعت صوت المذيع ينبه الناس إلى أنه يحمل إليهم نبأ هاماً ثم قال بصوت مشبع بروح الكبرياء: وردت إلينا الآن من استوكهولم رسالة هاتفية تقول أن جائزة السلام منحت هذا العام للفائزين الأول والثاني، وصفق الجالسون على السدة وجعلوا يقبلون الفائزين الكبيرين ويهنئونهما بالجائزة التي لا تمنح عادة إلا للرجال العظام.. ولكن صوتاً شعبياً هو صوت الرجل العجوز ارتفع من قلب الجمهور يقول:‏

ـ أيها المجرمون.. أيها السفاحون... متى كانت جائزة السلام تمنح للقتلة والخونة؟.. لي في دماء هذا المسبح، دم زوجتي وأولادي الخمسة، وعندئذ وقف أحد الجالسين على السدة وقال بصوت هادئ لا اثر فيه للانفعال: اذبحوا هذا العجوز القذر وأضيفوا دمه إلى دماء المسبح.‏

وهب على الفور رجل عملاق فطرح العجوز أرضاً ووضع السكين على رقبته... أغمضت عيني كيلا أراه وبعد لحظات قليلة سمعت المذيع يقول: نختتم هذه الحفلة الرياضية الرائعة التي تمت على أحسن شكل ـ وأجمل نهاية بالإعلان عن مباراة ثانية ستجري في مثل هذا الوقت من العام القادم في بيروت.‏

أما أنا فمنذ ذلك اليوم أصبت بعمى الألوان وأصبحت لا أرى غير اللون الأحمر، ومع ذلك فأنا سعيد جداً بهذه الإصابة التي جعلتني أدرك ما يجب أن أفعل.‏


حمص في 24/11/1981‏

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى