بانياسيس - حجر الفلاسفة - قصة قصيرة

تدور الكرة الأرضية بانحناءة عظيمة كسفينة تغرق ؛ جبال الجليد الشاهقة تنحرف منجرفة مع جاذبية الكواكب البعيدة ، والأرض تفقد اتزانها ؛ والقمر ينفلت من مدارها ويهرب بعيدا عنها حاملا خيباته ووحشته منطفأ في مجرة أخرى ؛ مجرة هو كوكبها ونجمها وقمرها الوحيد ، الأرض تزداد انعزالا عن السديم الكوني وتنزلق عبر فضاء معتم بشكل فوضوي. والبشر يقفون في انتظار النهاية ، يقفون بجزع ، لا يستطيعون الصراخ ، حناجرهم ابتلعت صخور الصمت المذعور ، الشمس تتحول لنقطة صغيرة سوداء وهي تبتعد عنه الارض ، والبرودة تتسارع لتقتل سنابل القمح ، وتقمع الحيوانات البرية ، الأيائل ترفع رأسها إلى السماء وكأنها تصلي أو ترثي موتها المحتم ، الوحوش تزوم وتدور حول نفسها ببطء ، وأنيابها تتألم ، عيونها تفقد بريقها في حلكة الأرض ، الأدغال بأشجارها العالية تقف كالأصنام مستعدة للسقوط ، البحار فقدت اتجاهات تياراتها وصارت تصخب والنوارس على السواحل تزعق بجنون وتصطدم ببعضها في السماء ، الدلافين والحيتان وأسراب الطيور لا تعرف اتجاه هجرتها المعهودة ، والأرض لا تتوقف عن الانزلاق في عتمة الفضاء الأخرس نحو المجهول. امتدت يده المعروقة المرتعشة وانغرست أصابعها في الثلج تحت جذور زهرة برية ، كانت هي الوحيدة التي لا زالت تتنفس ، حملها في جيب معطفه السميك وفمه يزفر الهواء الفضي أمامه ، خطواته ثقيلة فحذاؤه الجلدي ينغرس الى اعماق الجليد ثم يرتفع محاولا مقاومة جاذبية غير مستقرة للأرض ، كان في بعض الأحيان يرتفع لأعلى ويسبح ويشاهد الأشجار الميتة والحيوانات النافقة تسبح في اتجاه معاكس أو تمر به في اتجاهه نفسه ، ثم فجأة يسقطون جميعا ويزدادون انغراسا في الجليد الكثيف. لكنه قاوم اليأس واستمر حاملا زهرته البرية ، حتى بلغ كوخه البسيط ، كان شعره الاسود المجعد وأنفه المفلطح مغطيان بوشاحات سميكة ، دلف الى الكوخ ، ثم جثا على الأرض ونزع غطاءا خشبيا ثم هبط الى نفق قصير ينتهي الى غرفة لا تتجاوز مساحتها اربعة أمتار مربعة ، ولكنها عميقة بما يكفي لتتحمل مئات من الأقفاص الحديدية ، كانت كلها تحمل أنواعا أخرى من الزهور التي صمدت حتى تمكن هو من نقلها الى مناخ أكثر مناسبة لتستمر في الحياة.
-ماذا ستستفيد من كل هذه الزهور يا عزيزي؟
امرأة عجوز تقاربه في السن وتجلس على كرسي خشبي سألته ، لم ينظر لها ولم يجبها. بل فتح قفصا وبدأ في غرس الزهرة البرية بعناية فائقة.
- لا أريد أن أحبطك يا عزيزي ، لكن ما تفعله ليس أكثر من عبث ورومانسية أكثر مما يجب.
أجابها بصوت هادئ:
- لن تحبطيني .. تجاوزت ذلك العهد .. فأنا لا آمل في شيء مما أفعله.. إنني أفعله لأنني أشعر أن من واجبي أن أفعله وهذا يكفيني... سنموت على أية حال سواء بسبب هذه الكارثة الكونية أم بسبب أعمارنا الطاعنة...
التفت إليها وتأمل وجهها ثم سألها:
- هل أنت خائفة يا عزيزتي..
صمتت برهة وقالت:
- لا ..
قال:
- تبدين هادئة جدا...
- أنا كذلك بالفعل...
أغلق القفص وقال:
- وأنا كذلك...
أدار رأسه متأملا أقفاصه ثم زفر زفرة سريعة عميقة وقال:
- كيف استطاع نوح إطعام كل تلك الكائنات في سفينته؟
لم تجبه ولم ينتظر هو إجابتها بل قال:
- قيل بأن الرب منع عنها الجوع..هل تبدو تلك معجزة منطقية؟
لم تجبه ؛ فقال بصوت خافت وهو ينظر الى أقفاصه:
- ليست منطقية ..
قالت:
- لن تكون معجزة إذا كانت منطقية.
قال:
- لا بالتأكيد.. لكن لماذا لم يستخدم الرب معجزة أخرى في حماية الحيوانات من الطوفان بدل نقلها على سفينة..لماذا يفعل معجزات صغيرة وجزئية إذا كان بامكانه فعل معجزات كبيرة وكلية؟
قالت:
- لا تقف حاول أن تتمدد على الأرض أو تجلس فتقلبات الضغط وجاذبية الأرض تؤثر على دورتك الدموية..
تحرك نحو سلم النفق وجلس على عتبته الثالثة ؛ لف ساعديه حول ركبتيه وشبك أصابع يديه ثم أراح ذقنه على ركبته وراح يتأمل الأرض.
- هل تأمل أن تكون نوح هذه المحنة الكونية؟
قال:
- لا أعرف..لا أريد أن أكون شيئا.. ولكنني أعرف أنني يجب أن أفعل شيئا..
- جيد.. لا بأس أن تشبع رغبتك هذي يا عزيزي...
ران صمت بينهما ، صمت فارغ جدا ، خال من أي خيالات أو تصورات . اهتزت الأرض ومالت قليلا إلى اليسار كما تفعل دائما وهي تشق غبارا نجميا ، رأي أقفاصه تميل أيضا ، ارتفع بعضها وسبح برهة ثم استقر ، مالت العجوز أمام كرسيها وتقيأت فلم ينظر إليها كما لو كان قد اعتاد على ذلك...عادت العجوز واسكنت ظهرها الى الكرسي مغمضة عينيها.
- اشهر مرت ولم اعتد بعد على هذا الوضع.
قالت بصوت سقيم.
سألها:
- هل تؤمنين بالتطور؟
قالت بذات صوتها المريض:
- لم أفهمها أبدا .. ولا أريد.. إنني كاثوليكية ملتزمة بقصة العهد القديم..
لم يرفع ذقنه عن ركبته فخرج صوته مكتوما:
- لم أفهمها أنا أيضا..لكنني أتخيل روح هذه الزهرات وقد سخرت طاقتها لتحول زهراتها الى كائنات حية أخرى.. ربما تمر مليارات السنين قبل أن تتضح معالم كائنات عاقلة تتوهم أن أصلها خلية وحيدة ولا يمكنها ابدا ان تتخيل أن أصلها كان زهورا برية...
- خيالك خصب يا عزيزي..
- لا نملك غيره الآن.. هكذا كتب الخيال كل حكايات الكتب المقدسة حتى تحولت إلى حقائق لا تقبل الاختبار...
- هذا مزعج فعلا..
قالت ذلك وحاولت دفن قيها في التراب بقدمها اليمنى لكن قدمها كانت ضعيفة جدا فتخلت عن الأمر.
- كذبت عليك ..
نظرت إليه فقال:
- عندما قلت لك أنني أحبك ..
قالت:
- كنت أعلم ذلك...
رفع رأسه ونظر إليها.
- مع ذلك قبلت الزواج بي؟
رفت ابتسامة على شفتيها المشققتين:
- نعم.. كان يكفيني أنني أحبك...
عاد وزرع ذقنه في ركبته:
- غريب...
قالت:
- ليس غريبا يا عزيزي.. كنا صبيانا صغارا... وكنت أعلم أن الرجال يكذبون حينما يستخدمون كلمة الحب...
رفع حاجبيه ونظر الى الفراغ:
- الرجل يحب مع الوقت.. كالفولاذ يكتسب حرارته ببطء..
قالت:
- نعم... كنت أعرف أنك ستحبني بمضي الزمن.
قال:
- مالذي جعلك متأكدة من ذلك؟
صمتت قليلا وقالت:
- رأيتك رجلا يخاف من الحب.. لا تحب اقتحام الخطر دفعة واحدة... على الحب أن يغمرك هو ببطء...
قهقه قائلا:
- لقد اصطدتني إذن...درست شخصيتي .. حللتها بدقة.. واكتشفت انني أحمق يجب أن تتعاملي معه بهدوء..
قالت:
- هذا هو...
ثقبها بنظرة حزينة ؛ فغمغمت وهي تبادله النظر:
- لا تحتاج لأن تقول شيئا...
عاد ونظر إلى الأرض...
أغمضا أعينهما فجأة حينما انخفض ضغط الجو ... قال بخوف:
- صلي للمسيح...
شبكت يديها وأخذت تصلي بصمت مغمضة عينيها...
ازداد انزلاق الأرض سرعة حينما ولجت أخدودا مظلما...
التصقا ببعضهما ؛ احتضنها وهو يقول بشفتين مرتجفين:
- لقد بلغنا النهاية يا عزيزتي...
قالت:
- نعم...أنا خائفة وسعيدة...
قال:
- أنا خائف فقط...
مسحت على شعره بحب.
مسحت ريح باردة سطح كوكب وليد...ثارت بعض ذرات الرمال الكبريتية الصفراء..تراقصت ثم همدت...وعبرت سدم فوقه فغمره ظلها لبرهة...
كانت شمسه ساطعة وحارة... وحين خمد لهب الكوكب الكبريتي ؛ بعد مليارات السنين...انفصلت عنه طبقة غازية خفيفة وراحت ترتفع للسماء...، وعلى نحو مضطرد كانت الثلوج تتراكم حول قطبيه ، زحفت الثلوج وتمددت ، حتى انصهرت قطراتها وتسربت الى أعماق الأرض.
قطرة.. قطرتان.. ثلاث قطرات .. تنفست زهرة برية تحت الأرض .. وأخذت تبتسم ...تمطت وريقاتها وانتعشت... كانت تنتظر فرصة واحدة فقط .. لتخرج من تحت الأرض.. كانت تنتظر حركات الصفائح التكتونية لتدفع بها إلى هناك...تدرك أنها تحتاج لمليارات أخرى من السنين..لكنها حتما ستنتظر بأمل لا ينطفئ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى