رسائل الأدباء رسالة من محمد توحيد السلحدار إلى حبيب الزحلاوي

03 - 05 - 1943

إلى الأستاذ حبيب الزحلاوي

أهدي إلى الأستاذ أحسن تحية، وأعتذر إليه من تأخر هذه الكلمة بأني طالعت أولاً (شعاب قلب) لكي أشكر له هذه الهدية النفيسة، وأشكر له في آن معاً، فضله الذي أتاح لي التلذذ بقراءة كتابه البديع.

صوّر لنا الأستاذ أفراداً من المجتمع في زماننا هذا، ومثلهم بسجاياهم ووجدانياتهم، وشهواتهم وأهوائهم، وقص حوادثهم وفعالهم، ووصف أزمنتها وأمكنتها، وصاغ كل أولئك على نظام سليم من السرد الرتيب، في أقاصيص شائقة وليدة ملكاته الراوية من تجاربه الشخصية ومطالعاته، وقد مازجها الخيال وإن أنشأها من الحقائق الواقعية حتى ليكاد القارئ يتعرف فيها مثلاً شيخ (فلسفة الشيخوخة)

وليس في هذه الأقاصيص عقود وحلول؛ بل هي بسيطة بين الأقصوصة والحكاية، وهي قطع من الحياة متفرقة، لكن تضمها جهة جامعة تلوح في خفاء للقارئ. وبودي لو يكتب الأستاذ قصة كاملة فيتسع فيها المجال لملكاته، لكي تبلغ مدى قدرتها على تمثيل الحياة المصرية أو الشرقية لهذا العهد

وقد ماشى الأسلوب الحي في (شعاب قلب) تلك النفوس فيما خالجها من اكتئاب أو ابتهاج، وحياء أو إباء أو رجاء، وإعجاب أو عتاب، وقلق أو شكوى، وحسرة أو رغبة أو شهوة؛ وتوافرت فيه الحركة بوسائل معنوية بلاغية، كالتعجب والمبالغة، والتجاهل والاستفهام، والتصريح والتلميح، والتشبيه والتصوير؛ وجاء سريع المعاني إلى الفهم بمثل الفصل والوصل والإضمار في عبارات تعتّم معانيها بالتقدير.

فما حسن بالفصل، مثلاً: (كنت أنعم بالراحة كلها في مخاصرة هذه السيدة التي تنبعث منها الطمأنينة إلى أعماق نفسي؛ لم أكلهما، لم أجتل محياها، كنت نشوان بها. . .)

ومن التشبيهات غير المحفوظة: (ذكرت ذلك الدير المهيب الشاهق الرابض فوق الربوة شبيهاً بقلعة شيدت لحماية الخيالات والأوهام!!) ومنها أيضاً: (أشعلت غليوني، أخذت أنظر الدخان يعقد حلقات تتمدد وتتبخر كخواطر الإنسان، وأرى النار تتأجج وتهمد في قلبه كالرغبات في ضمير الرجل)؟

ومن وصف الجمال، والحياء، والطهر، والإعجاب: (ذكرت تلك الفتاة القروية عائدة من الكنيسة بثيابها الفضفاضة، وضفائرها المنسدلة على كتفيها، ووجهها الخمري الزاهر بنفحات الربيع، وصدرها الناهد، وقدها الممشوق، وخطواتها المتزنة الحازمة. كم كانت رائعة صبغة الخجل الوردية التي اصطبغت بها أذناها لما سألتها عن اسمها، وهل فكرت في صلواتها في غير أهلها ممن تعرف من الناس!)

ومن المعاني المضمرة في العبارة (كل امرأة ترضي الرجل، وليس كل رجل يرضي المرأة. أما أنا فإني امرأة يسكن جسدي روحان: الأول محلَّق في السماء مصعَّد نحو المجهول، والثاني دنيوي يلتصق بأديم الأرض. ولم يكن تطلعي إلى السماء يعميني عن التطلع إلى الأرض!)

ومن جميل التصوير: (ممثل هزلي بارع. إحساسه في وجهه، وعقله في نظرات عينيه، وبراعة فنه في إيماءته وسكونه)؛ وأيضاً: (زايلت البيت فرحته، فانطفأت أنواره، وقد كانت تتألق أكثر الليل؛ وهمدت الحركة فيه، وقد كانت مرحة طليقة فياضة؛ وخرست موسيقاه، وقد كانت تفيض على الجيران أنفاسها فاتنة ساحرة، وانقطع عنه زواره، وتبدلت وجوه قطانه، خادمين ومخدومين، واعتلاها مسحات من كآبة وسحب وغيوم)

إن هذا الكتاب، على الإجمال، أدب حيّ تزينه ثمار من المعرفة، ويظهر فيه إلهام من الاشتراكية والمادية، وأثر واضح من نظرية فرويد؛ وأسلوبه محدث صاغته شخصية حرة، وملكات طليقة. وما هفواته في صدقه وتمثيله وقيمته الأدبية بشيء يذكر

ثم سروري بهدية الأستاذ الفاضل وثنائي عليه

محمد توحيد السلحدار

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى