زوليخا موساوي الأخضري - حذاء فان غوخ

إهداء
إلى صديقي المهدي نقوس الذي أوحى لي نصه القيم حول الحذاء بهذه الخربشة



ينزل الدرجات ببطء. باليد اليمنى الحذاء الذي اشتراه للتو وباليسرى يتحسس الجدار البارد للممر الضيق المؤدي مباشرة إلى القبو الذي يكتريه منذ أسابيع بمونتمارت. باريس مدينة الفن والإلهام. يشعر ببرودة الأرض تحت قدميه الحافيتين. يبتسم وهو يتذكر النظرة في عيني جارته ترقبه باستغراب يقطع المسافة التي تفصل باب البيت الآيل للسقوط عن الجحر الذي يسكنه.

صحيح أنه حذاء بني قديم مهترئ لكنه مع ذلك أحسن من المشي حافي القدمين. هزت الجارة رأسها أسفا وهي تتبعه بنظراتها إلى أن توارى داخل قبوه.

فاطنة: قفطان، بلغة، مشط عريض، أسورتين ذهبيتين، كحل ورائحة الخزامى فاحت في الغرفة بعدما فتحت الصندوق الخشببي.
أخرجت فاطنة برفق شديد قفطانها الجديد من الصندوق الخشبي ووضعت حليها، مشطت شعرها، مررت مرود الكحل في عينيها وهي تدندن بأغنية. اشتاقت إلى سماع الموسيقى. سترقص على نغمات الشيخات كما لم ترقص من قبل.


سنتأخر عن العرس يا فاطنة، اسرعي!

تلتف بالحايك الأبيض وهي تهرول جهة باب الدار حيث يقف زوجها متجهم الوجه. هل سيصلان متأخرين؟

ثم فجأة تدور نصف دورة حول نفسها بحركة خفيفة وترجع من حيث أتت.

ما بها هذه المرأة؟

نسيت بلغتي. تقول بصوت مرتفع كي يسمعها. تفتح الصندوق ثانية وتأخذ البلغة.

لن يكون إلا حذاء فلاحة. يؤكد هايدجر. الماء، النار، الهواء والتراب. الحذاء أقرب إلى التراب. يريد الرسام أن يعبر عن ارتباط الوجود الإنساني بالمادة.

ماذا؟ يسأل شابيرو وقد نفذ صبره، لا. أرجوك أستاذي هايدجر اللوحة تمثل حذاء حقيقيا وقد كان للرسام. تمثل المادة في الكائن والكائن في المادة.

يبتسم دريدا، ينفض غليونه بالقرب من المدفئة الباردة وينظر إلى صاحبيه. بخطى ثابتة وتحت نظرات استغراب رفيقيه هايدجر وشابيرو يتوجه إلى الحذاء في اللوحة، يمد يده، يخرج الحذاء من اللوحة ويبدأ في نزع الخيوط الطويلة البالية المتسخة التي تشد جوانبه المهترئة.

ماذا تفعل؟ يصرخان في وجهه وهما يحاولان منعه من الإقتراب من الحذاء.

أحاول تفكيكه. يقول دريدا وهو يمرّر يده على شعره المدهون بالبريانتين.

يخرج فان غوخ من الركن المظلم الذي كان يتكور فيه، يتقدم نحو الحذاء الذي كان قد انفلت من بين يدي دريدا وبدأ يدور في الحجرة، يمشي، يقفز، يجري، يرقص. يشير فان غوخ للحذاء أن يتوقف عن شغبه ويتوجه إلى كاتبة هذا النص في الطرف الآخر من الغرفة منكبّة على أوراقها وعلى شاشة الحاسوب.

ماذا فعلت؟ لماذا مزجت كل الأوراق؟ أنا؟ هايدجر؟ دريدا؟ القروية؟ لا أفهم شيئا. هذه القروية ليست حقيقية؟ أليس كذلك؟

تبتسم الكاتبة وهي تنظر إلى وجه الرسام الشاحب، إلى شعره المنفوش، أسماله البالية وأذنه المقطوعة. هل قطع أذنه قبل أن يشتري الحذاء ذات صباح باريسي ويرسمه في لوحة لا زالت تحيّر النقاد أم بعدها؟

يا سيد فان غوخ القروية حقيقية والبلغة أيضا.

لكنه حذاء!

أجل.. لكن عندنا تلبس القرويات بلغة. شيطان الكتابة سيستبدل الحذاء ببلغة إلى حين انتهاء العرس القروي ثم يعود الحذاء إلى إطار لوحتك. لا تقلق.

ماتت القروية، مات فان غوخ، مات هايدجر، مات شابيرو، مات دريدا وعاش حذاء فان غوخ.

تقبل القروية مسرعة نحو الكرمة العجوز جنب البيت حيث ينتظرها زوجها وعلامات الغضب على محياه. دون أن ينبسا بشفة يتقدّمان مسرعين وسط الطريق الترابي.

يلتفت الزوج إلى قرويته التي تحثّ الخطى بجانبه حافية القدمين وهي تمسك بلغتها بين يديها.

لماذا لا تلبسين بلغتك؟ يسألها

بأس في رجلي أهون عليّ منه في بلغتي.


.
زوليخا موساوي الأخضري.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى