زهاء الطاهر - حكاية دامبا الأخيرة.. قصة قصيرة

قبل أن يموت بستة أشهر وثلاثة اسابيع ويومين طويلين طلب مني هامساً أن أشهد مراسم دفنه شريطة ان لا أشارك فيه وأن أقف بعيداً بمقدار متر أو مترين، وأكتفي فقط بالتحديق في وجوه الذين سيهيلون على القبر التراب وبعد ن ينهوا مهمتهم البغيضة وينقلبوا راجعين عليك أن تحدق في ظهورهم، هذه المرة ستراها وقد أحدودبت كثيراً، لتقف مكانك ولا تتحرك أبداً، ولا تلتفت أيضاً، ولتنتظر زهاء، خمس دقائق وساهل عليك من مكان ما، وسنجلس على الأرض بين تلك المقابر ونثرثر ما حلا لنا، وبكل ما أتيناه في هذه الدنيا الماتعة وحتماً سنتحدث عن الأعراق والسلاف التي لن تستطع أن تنال منا أو من جسارتنا عن الحسان اللائي أحببنا ونلنا وعن اللاتي خننا، وأخريات خدعنا وخناهن، وعن " فطينة " المذهلة وكيف ألتقينا بها اول مرة، وكيف تخليت له عنها لما سحرتني كما قال، ثم كيف أقترن بها لما سحرها بركاكته وفجاجته الموحية وعذوبة خوائه المستحيلة، لكنهما ولحسن الحظ أفترقا ... أفترقنا ثلاثتنا ، ثم ألتقى بها وحده مرة أخرى في زمن آخر إلا أنه لم يستطع التعرف عليها هو الذي أبداً لا يجهر الزمن برسم خطواته على وجهه، وبعد عام كامل من اقترانه بها، أخبرته فطينة الطائشة في لحظة طيش قاهرة بأنها هي فطينة المسحورة به وبي منذ الأزل . صعق دامبا المريب وخرج راكضاً الى خيث توقعني، كنت بجانب الدنيا الآخر، من جهة جنتي ... وجدني كامناً في مروجي الرجراجه جرجرني من روضة روضاتي .. أخرجني منها ... من جوهرها وكوثرها بكل سلاطة المودة بيننا وساقني الى حيث التقينا بها أول مرة، مازالت مستلقية تحدق مشرقة دأبها في بئر روحها العذبة حيث أنعكست صورتها المليحة عليها فلم يجرؤ على الدخول، دامبا لم يجرؤ فقد خانني تلك اللحظة وتركني أدخل عليها وحدي، لكنها لم تكن هي أبداً ... لم تكن فطينة التي عرفناها معاً، لكنها بأية حال لم يكن أحداً سواها... قلت لها قبل أن تنهض وتقف تماماً : يا فطينة يا انت يا لعنتي المجيدة ... أخبريني كيف كان موتك الجم، كيف كنت ترمقيننا .. ترمقينه لما كان يجوس حولك، ثم ها هو صديقي قربي وقربك أما تخبريه لما أخترت مبعثك بيننا مرة اخرى ألكي تلتقي بنا أم لكي ترمقيننا فنقتفي كالنيازك والصواعق أثر ماضينا والى ما لا نهاية ؟
قالت وقد أفاق بعضها: سئمت زحامكما، سئمت ضجة قبري وحدي، فقمت وتتبعتكما وكم ضللت تماماً كما في المرة الأولى لكن قل لي زهاء : ما باله دامبا صديقك المنحوس مصعوقاً هكذا يبدو؟
كان قد دخل علينا خين سمع صوتينا، ابتسم بخجل شفيف، قرب منها، ثم أفترب أكثر، لم يمهلها ... لم يمهلني .. إذ هجم عليها بكل رشاقته وصفاقته الناصعة طوقها وانهال عليها تحناناً وإرقاقاً حتى أرتمى فوقها أمامي وتساميا .. فخرجت خببا متوجهاً نحو جنتي .. صوب مروجي وروضة روضاتي ولثغتي الكوثر .
مات تماماً بعد أشهره الستة وأسابيعه الثلاثة ويوميه الطويلين الفارهين ..
كان قد رجع كل الذين شيعوه وساروا وراءه حتى قبره، كان دامبا العزيز يسير أمامهم بقدميه متتبعاً باتقان وصرامة خطى كامي الرشيقة ... كامي الذي كان يسير أمامه رافعاً رأسه كأفعى لا يلوي،هاهو كامي في المقدمة يقود صديقي الى حيث قبره الذي تم إعداده قبل نصف عام مذ حفره دامبا بيديه القويتين، وحين تخطى كامي القبر بقفزة منه، حاول دامبا اتيان ذلك لكنه لم يستطع اذ وقع متعارضاً في القبر ، وكان كل الذين من ورائهما في إنتظار هذه اللحظة الفاصلة فتقدموا بعجل وأهالوا على دامبا التراب ... ثم رجعوا ولم ينتبهوا الا حين كنت واقفاً قرب القبر بمسافة مترين أحد في ظهورهم حين ولوا ... لم يلتفتوا الي ولم ألتفت الى اي جهة في كل هذا الكون .... تماماً كما د اوصاني بعد خمس دائ بالضبط شعرت بثقل كف على كتفي ... التفت فزعاً فإذا بـ " دامبا " العزيز لصيقاً بي بادرني :
ـ لم اتأخر كما ترى ..
ـ هذا دأبك يا دامبا فأنت أبداً لا تتاخر ..
جلسنا على بوة قبره، تحدثنا، ثرثرنا ثم تجادلنا كما كنا نفعل دوماً وبغتة سألته .. بماذا أغروك؟ ثم ل لي ماذا رأيت هناك؟
قال : سأقول لك عن كل شئ وساتحفك بسر علمتنيه فطينة عزيزتنا .. قلت : لتخبرني يا دامبا عن الدنيا وروعتها ولاشئ سواها ... لتنس كل ما رأيت ولا تخبر أحداً .
هب فجاة .. فقمت .. تقدمني بمهل أول الأمر وتبعته ... سرنا صامتين ثم فجأة انطلق راكضاً فركضت في أثره حتى دخل دارهما هناك حيث فطينة .. فدخلت، كانت مستلية لا تزال في إنتظاره وإنتظاري ...
غمغمت بدلال : هكذا نحن ومنذ الأزل .. ها نحن مرة أخرى فيا لروعتنا .. هممت ان أقول شيئاً حين وقف دامبا ربها وألتصق بها ... عيونهما الأربعة الجميلة حاصرتني بجمال فلم أستطع قول شئ .. نكست برأسي وبالقرب من قدمي اليسرى ابصرت بجنازتي تمر، كما كان دامبا يتقدمني بنفس الرشاقة التي كان يخطو بها كامي ... رفعت رأسي لأسأله لكن لم يكن ثمة أحد .. لم أجد أياً منهما لكني اقسمت في سريرتي ألا أموت هذا العام ... بله هذا القرن أجمعه ...
خرجت أبحث عنهما وعني وعن ذاك الأزل الذي ضمنا .. ما زلت أركض وأركض هكذا ولربما حتى الأبد .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى