جابر عصفور - تكرار التشبيه..

للتكرار وظائف عديدة في الإبداع العربي القديم. أولاها محاكاة الامتداد اللا نهائي للكون، وتعميق الشعور بالمدى المطلق الذي نعيش فيه بوصفنا بعض عناصره المتكررة، شأننا في ذلك شأن مفردات الطبيعة التي تتكرر بها دورات الفصول وتعاقب الليل والنهار.. إلى آخر كل ما يدور في الكون من حركة التكرار الأزلي للوجود. هذا المعنى هو الذي ألهم الفنان العربي القديم تقنيات الزخرفة القائمة على تكرار الوحدات، خصوصا في فنون العمارة والتشكيل التي لا تخلو من المعنى نفسه الذي أصبح عنصرا تكوينيا مائزا في فن (الأرابيسك)، وهو الفن الذي يبرز الامتداد المتتابع للوحدات التشكيلية التي تتضافر في تحقيق دلالة الإمكان الممتد، ذلك الإمكان الذي لا يحده سوى مبدأ محاكاة أفعال التكرار اللا نهائي لظواهر الكون المتعاقبة إلى ما لا يعرف البشر له نهاية.

وقد قيل إن الشعر العربي القديم مرتبط بأداء معنى من معاني هذه الوظيفة، خصوصا في بنيته الإيقاعية التي تقوم على التكرار الصوتي للتفاعيل نفسها إلى ما لا نهاية، فضلا عن تكرار القافية التي تؤكد تكرار الوحدات النغمية للقصيدة كلها، كأنها رجع مواز لخطى الناقة التي تدب في صحراء مترامية الأطراف، أو مواز لرجع كل ما يتكرر في عالمي الطبيعة والبشر على السواء، وذلك في الفعل الأزلي الذي يؤدي به كل ما في الوجود معنى التسبيح لخالق الوجود.وليس من المصادفة أن فعل (التسبيح) فعل تكراري في ميراثنا الإسلامي، فهو الفعل الذي نكرره في إقرارنا بحضور الخالق الواحد الأحد الذي نحن بعض خلقه.

ويؤدي التكرار وظيفة مناقضة في معناها للوظيفة السابقة تماما، خصوصا حين يقترن بالرتابة التي تخلق حالا من السأم، وتفرض شعورا بالملل من تعاقب وحدات الموضوع المدرك وتتابع عناصره إلى ما لا نهاية. وتلك حال مناقضة لأي شعور جمالي، الأمر الذي دفع فلاسفة الفن إلى تأكيد جماليات الإيقاع بوصفها مراوحة مستمرة بين إشباع التوقع وإحباطه. يقصدون بذلك إلى أن الإيقاع لا يمكن أن يتسم بصفة جمالية إذا كان تكرارا لا نهائيا من الوحدات التي تفرض، بدورها، نمطا متكررا من التوقع الذي تقوم بإشباعه علي نحو دائم، فذلك أمر يرهق الجهاز العصبي، ويخلق استجابة نفسية أشبه بالاستجابة التي تنتج في داخلنا عندما نستمع إلى دقات ساعة، تظل تتكرر على النحو نفسه إلى ما لا نهاية. ولذلك لا يكتب التكرار في الإيقاع صفته الجمالية إلا بإحباط التوقع الذي يخلقه التكرار، وتشكيل تنويعات تقضي على الرتابة. وتجعل من فعل الإيقاع نفسه مراوحة متوترة ما بين إشباع التوقع وإحباطه. ولعل تباين الوحدات المتكررة في الأرابيسك، والمغايرة بين أشكالها المختلفة حتى في تكرارها، هو الحل الجمالي الذي واجه به الفنان العربي القديم إمكان حضور الرتابة في لزوم التكرار التشكيلي. أما التكرار في ذاته، وبعيدا عن أي تغيير لطبيعته، فيظل حاملا إمكان تأكيد الشعور بالرتابة التي تبعث على الإملال، وتحبط إمكان متغيرات الجدة، أو جدة المتغيرات، خصوصا إذا خلا من صفة التنوع أو تحول إلى إشباع مطلق للتوقعات.

ولكن التكرار يحمل مفارقة مغايرة بالإضافة إلى ذلك، فهو يمكن أن يؤدي وظيفة ثالثة، إيجابية، إذا استخدم في حدود بعينها، وفي مدى لا يفارقه، وهي وظيفة تأكيد الدلالة وإبراز المقصود بما لا يفلته من الذهن ويفرضه على الوعي. ويحدث ذلك حين يؤدي التكرار دوره في إبطاء إيقاع لقائنا بالدلالات، وإطالة وقوفنا عند الدلالة المراد إبرازها، وذلك بتقديمها على أكثر من وجه، وبما يجعلنا نراها بأكثر من زاوية. وعندئذ لا يفارق التكرار خاصية التنوع، لكنه التنوع الذي يترسل بتعدد الدوال لتأكيد وحدة المدلول. وغير بعيد عن هذه الوظيفة ما يؤديه التكرار من استقصاء عناصر المشهد، أو تعداد الأوجه المختلفة للموضوع الواحد، أو الكشف عنه في كل تجلياته وممكناته واحتمالات حضوره.

واستخدام التشبيه في البلاغة العربية بعامة، وبلاغة الشعر بخاصة، ينطوي على هذه الوظائف، ويضيف إليها ما يقرن التأكيد والاستقصاء بإظهار براعة الشاعر في صنعته، وتفوقه في هذه الصنعة على السابقين عليه. ويحمل التكرار في هذه الدائرة الأخيرة صفة المحاكاة التي تعني الاتباع والمنافسة. يستوي في ذلك أن يكون المقصود بالمحاكاة اتباع الطبيعة أو اتباع القديم، أو يكون المقصود إبراز ما يراد تأكيده هنا أو هناك، أو استقصاء الموضوع بما لا يترك للغير سبيلا إلى المنافسة. وإذا كان التشبيه يثير دهشة القارىء وإعجابه عن طريق استطرافه، خصوصا في مجالات استخدامه التقليدية بهدف الوصف والمحاكاة، فإن هذه الغاية يمكن أن تتحقق عن طريق تكرار التشبيه في داخل البيت الواحد أو داخل القصيدة ككل.

وقد كان تكرار التشبيه ظاهرة فنية أصيلة في العصر الجاهلي، اقترنت بوصف الحبيبة أو وصف الطبيعة، لكنها تحولت على يدي الشاعر العباسي ومن تلاه من المتأخرين إلى ضرب من الصنعة التي تجاوز الطبع، بل الصنعة التي وصلت إلى حد التصنع. وقد انتهى الأمر في ذلك إلى درجة أن الشاعر المتأخر لم يعد يقنع بتشبيه الشيء بالشيء مرة واحدة أو مرتين أو حتى ثلاثا أو أربعا بل أكثر من عشر مرات، كما نرى، مثلا، في شعر ابن هانىء الأندلسي أو عفيف الدين التلمساني أو الحلبي الدمشقي أو غيرهم من المتأخرين. وليس من الضروري الإحاطة في تقديم النماذج الدالة على ذلك، أو حتى النماذج المطولة، فهي مبذولة في الدواوين الشعرية القديمة.

وقد كان تكرار التشبيه في استخدام الأداة (كأن) أسلوبا بلاغيا محببا لدى ابن هانـئ الاندلسي مثلا، تابع فيه وبه السابقين عليه، وأضاف إلى تراثهم في تصاعد الزيادة بأعداد التشبيهات المتكررة ما دفع المتأخرين إلى المضي قدما في عمليات التنافس والمباراة. ومثال ذلك ما صنعه في قصيدته التي مدح بها جعفر بن علي الأندلسي، وهي القصيدة التي توقف فيها واصفا الوقت الأخير من الليل، مصورا النجوم بما يزيد على عشرين تشبيها من قبيل:

كأن رقيب النجم أجدل مرقب
كأن بنى نعش ونعشا مطافل
كأن سهاها عاشق بين عود
كأن سهيلا في مطالع أفقه
كأن الهزيع الآبنوسي لونه
كأن ظلام الليل إذ مال ميلة
كأن عمود الصبح خاقان عسكر

يقلب تحت الليل في ريشه طرفا
بوجرة قد أضللن في مهمه خشفا
فآونة يبدو وآونة يخفى
مفارق إلف لم يجد بعده إلفا
سرى بالنسيج الخسرواني ملتفا
صريع مدام بات يشريها صرفا
من الترك نادي النجاشي فاستخفى
ويخرج الباحث من دراسته النماذج التراثية المشابهة لنموذج ابن هانىء (وتفوقها عددا في غير حالة) بنتيجة مؤداها أن الشاعر المتأخر كان يقصد بتكرار التشبيه على النحو المبالغ فيه إلى أمرين. أولهما: إظهار براعته وتمكنه من صناعته، وذلك في تصاعد يضيف به اللاحق إلى ما انتهى إليه السابق ويزيد عليه بما يؤكد براعته، وبما يدفع اللاحق عليه إلى المزيد من الزيادة وإظهار البراعة. وثانيهما: حرص الشاعر المتأخر على استقصاء جزئيات الموضوع الذي يصفه، وذلك على نحو يلعب فيه تكرار الأداة دور تعداد جوانب الموصوف وملاحقة عناصر المشهد الذي يحرص الشاعر على محاكاته واقتناص كل مشبهاته. وليس في الأمر غرابة من المنظور التراثي، فقد اقترن الوصف عند البلاغيين، من أمثال قدامة بن جعفر وأبي هلال والعسكري، بقدرة الشاعر على نقل كل أجزاء الموضوع بكل تفاصيله دون اغفال أي شيء منها، فضلا عن أن تمكن الشاعر من حرفته اقترن أيضا بقدرته على تعديد التشبيه وتكراره.

وعندما ننظر إلى الشاعر الإحيائي في ضوء هذه التقاليد الموروثة المرتبطة بالتشبيه، نجد أن أساس التكرار عنده لا يخرج عن الأمرين السابقين، وهما إظهار البراعة الحرفية من ناحية، واستقصاء المشهد المحاكي ودقة تصويره من ناحية أخرى. وليس من المهم، والأمر كذلك، أن يتوافق التكرار مع السياق الكلي للقصيدة أو لا يتوافق، فالأكثر أهمية هو إدهاش القارىء وإثارة إعجـابه ببـراعة الشـاعر من حيث هو صانع ووصاف محاكٍ. ولذلك لا يقـنع الشـاعر الإحيـائي بتـشبيه الشـيء بالشـيء مرة بل يـشبه ثلاثا أو أربعا أو خمـسا، كما يقـول البارودي:

أرعى الكواكب في السماء كأنها = عند النجوم رهينة لم تدفع
زهر تألق بالفضاء كأنها = حبب تردد في غدير مترع
وكأنها حول المجر حمائم = بيض عكفن على جوانب مشرع
وترى الثريا في السماء كأنها = حلقات قرط بالجمان مرصع
بيضاء ناصعة كبيض نعامة = في جوف أدحى بأرض بلقع
وكأنها أكر توقد نورها = بالكهرباء في سماوة مصنع

أو يقول شوقي في وصف الهلال:


كأن ما احمر منه حول غرته = دم البرىء ذكى الشيب عثمانا
كأن ما ابيض في أثناء حمرته = نور الشهيد الذي قد مات ظمآنا
كأنه شفق تسمو العيون له = قد قلد الأفق ياقوتا ومرجانا
كأنه من دم العشاق مختضب = يثير حيث بدا وجدا وأشجانا
كأنه من جمال رائع وهدى = خدود يوسف لما عف ولهانا
كأنه وردة حمراء زاهية = في الخلد قد فتحت في كف رضوانا

أو يقول علي الجارم:

يبدو السفين به كما تبدو المنى = للبائس الحيران في ظلمائه
أو كالحياة تدب في جسم امرىء = أفنت شكايته فنون إسائه
أو كالصباح لمدلج خبط الدجى = فطواه وادي التيه في أحشائه
أو كالغمام رأته أزهار الربى = من بعد ما احترقت لطول جفائه
أو كابتسام السعد بعد قطوبه = أو كانقياد الدهر بعد إبائه

وفي كل النماذج السابقة، يسهل ملاحظة أن الموضوع الموصوف، وهو النجوم في حالة البارودي، لا يشبه بالحبب المتردد في الغدير فحسب بل بالقرط المرصع بالجمان وبيض النعام وأكر النور الموقدة. قد لا تكون هناك علاقة حميمة بين كل هذه الصور، وقد لا تنتج أثرا موحدا في نفس القارىء. ولكنها تحصى احتمالات المشابهة، ولا تترك تشبيها يمكن أن يرتبط ارتباطا عقليا بالموضوع الأساسي دون أن تقتنصه، فذلك هو ما يعني الشاعر بالدرجة الأولى وما يقصد إليه دون سواه. والنتيجة التي تترتب على ذلك هو نوع من التفكك والتناقض الذي نراه في نموذج شوقي. ودليل ذلك تنافر العلاقات، وإلا فما العلاقة التي يمكن أن تجمع، مثلا بين الهلال وكل من دماء الحسين وعثمان ودماء العشاق والشفق الأحمر وخدود يوسف والوردة الحمراء؟ إن دماء الحسين وعثمان تمضي في اتجاه شعوري مناقض كل المناقضة للاتجاه الذي تثير ترابطاته الوجدانية دماء العشاق وخدود يوسف التي قد لا تأتلف، بدورها، مع الوردة الحمراء أو الشفق الأحمر. وما يصل بين كل هذه المشبهات ليس ما تتضافر فيه من خلق حالة شعورية متجانسية، وانما ما تتجاور به منطقيا في اقتناص أوجه الشبه الخارجية التي تصل بين علاقات المشابهة.

قد يكون التفكك في نموذج البارودي أخف من نموذج شوقي ولكن يلفت الانتباه أن العلاقة الوجدانية منقطعة، في أبيات البارودي، بين الكواكب التي تبدو رهينة عند النجوم والكواكب نفسها التي تتألق كأنها حبيب يتردد في غدير مترع، أو كأنها حمائم تعكف على غدير. والعلاقة نفسها منقطعة بين الثريا التي تبدو حلقات قرط مرصع بالجمان والثريا نفسها التي تبدو كبيض نعامة بأرض قفر، أو تبدو كأنها مصابيح كهربائية في سماء مصنع.

وقد يختلف الجارم عن البارودي في دوران تشبيهاته للسفين في دائرة وجدانية متقاربة نسبيا، وأكثر حرصا على ائتلاف الترابطات الشعورية للصور من البارودي. ولكن الأساس المنطقي الذي يكمن وراء حصر احتمالات المشابهة يظل الأساس الذي يعول عليه كل منهما. بل إن تكرار الجارم للأداة (أو) يوحي بالعقلية الجدلية التي تعمل وراء التشبيه لاقتناص كل المشبهات الممكنة عقلا. وذلك أسلوب في تكرار التشبيه ألفه شعراء الإحياء، ومنهم حافظ إبراهيم الذي يقول:

خلق كضوء البرد أو كالروض أو
كالزهر أو كالخمر أو كالما
وما له دلالته في هذا السياق أن أحمد شوقي يتفوق على الجارم والبارودي وغيرهما من شعراء الإحياء في الوصول إلى الرقم القياسي لعدد التشبيهات المتتالية في القصيدة الواحدة.

وأوضح مثال على ذلك قصيدته البائية (صدى الحرب) الموجودة في الجزء الأول من (الشوقيات). وهي القصيدة التي كتبها في السلطان عبدالحميد، واصفاً الوقائع الحربية العثمانية التي حدثت في عهده، متوقفا عند الموقعة التي جرت في سهل (فرسالا) وانتصر فيها العثمانيون بواسطة الجيش التركي الذي ينسب إليه شوقي نفسه، مستخدما ضمير الجمع (نحن) الذي يجمع ما بين الأتراك والعرب في القران الذي تتكرر فيه التشهبيات على النحو التالي:

ورحنا يهب الشر فينا وفيهم
وتشمل أرواح القتال وتجنب
كأنا أسود رابضات، كأنهم
قطيع بأقصى السهل، حيران، مذئب
كأن خيام الجيش في السهل أينق
نواشز، فوضى، في دجى الليل شرب
كأن السرايا ساكنات موائجا
قطائع، تعطي الأمن طوراً وتسلب
كأن القنا دون الخيام نوازلا
جداول، يجريه الظلام، ويسكب
كأن الدجى بحرٌ إلى النجم صاعد
كأن السرايا موجه المتضرب
كأن المنايا في ضمير ظلامه
هموم بها فاض الضمير المحجب
كأن صهيل الخيل ناع مبشرٌ
تراهن فيها ضحكا وهي نحب
كأن وجوه الخيل غرا وسيمة
دراري ليل طلع فيه ثقب
كأن أنوف الخيل حرى من الوغى
مجامرٌ في الظلماء تهدا وتلهب
كأن صدور الخيل غدر على الدجى
كأن بقايا النضح فيهن طحلب
كأن سنى الأبواق في الليل برقه
كأن صداها الرعدُ للبرق يصحب
كأن نداء الجيش من كل جانب
دوي رياح في الدجى تتذأب
كأن عيون الجيش من كل مذهب
من السهل جن جول فيه جوب
كأن الوغى نارٌ، كأن جنودنا
مجوسٌ إذا ما يمموا النار قربوا
كأن الوغى نار، كأن الردى قرى
كأن وراء النار حاتم يأدب
كأن الوغى نارٌ، كأن بني الوغى
فراشٌ له في ملمس النار مأرب

التكرار الاستهلالي للأداة لافت في أبيات شوقي كالإشارة التنبيهية التي تبقي القارىء في الدائرة نفسها، وفي علاقته بالمشهد ذاته. وذلك بما يبطىء من إيقاع التقاء القارىء بالمشاهد، ويدفعه إلى التمعن في تفاصيلها. ومن هذا المنظور، يقوم التكرار بمهمة تعداد العناصر واستقصاء تفاصيلها في الوصف الذي لا يذكر العناصر إلا مقرونة بمشبهاتها، والبداية هي ضمير المتكلم الجمع الذي يضع الأنا الجماعية في مواجهة أعدائها، ويصلها بالأسود الرابضة في مواجهة الأعداء الذين يتحولون في التشبيه إلى قطيع من الغنم التي تحاكي الذئاب. وتتفرع مفردات المشهد من هذه البداية الدالة، ابتداء من خيام الجيش التي تشبه النوق المرتفعة، مرورا بكتائب الجند التي تشبه الأمواج المتدافعة، والرماح التي تشبه الجداول في تعاقبها. والظلام الذي ينبسط كالبحر الذي يصعد في امتداده إلى النجم، والموت الذي يفيض في ضمير هذا الظلام كأنه الهموم اللا نهائية للبشر، وذلك جنبا إلى جنب صهيل الخيل الذي يشبه صوته صوت الناعي والبشير على السواء، ووجود الخيل البيضاء التي تشبه النجوم المضطربة في الظلماء، وصدور الخيل التي تتتابع قطرات العرق عليها فتظهر كالطحالب على صخور الشاطىء. ويمضي تصوير المشاهد بتتابع التشبيه، فلا يفلت التصوير نداء الجيش الذي يشبه دوى الريح، أو ارصاد الجيش التي تشبه الجن. ولا يكتمل التصوير إلا بالنار التي تتكرر في وصف الحرب، مقترنة بالجنود الذين يشبهون المجوس الذين يعبدون النار بتقديم الفداء إليها، وما ذلك إلا لأنهم بنو الحرب الذين يتخذون منها فراشا، ومن نارها هدفا، فهي نار الحرب التي تتحول إلى قرى، كرمه لا ينقطع، كأن وراء هذه النار حاتم الطائي الذي لم يكف عن كرمه.

لا يجد شوقي حرجا في تكرار التشبيه ما يقرب من ثلاثين مرة، وذلك من غير أن يظهر شيئا من التردد، أو حتى يفصل بين التكرار بما يخفف من وطأة كثرته، دافعه إلى ذلك تصوير عناصر الحرب التي خاضها الترك، وإبراز سطوة جيشهم الذي يسترجع أمجاد الجيوش العربية التي قادها أمثال المعتصم وغيره. ورغم ذلك كله، يسهل على المتمعن في الصور المتكررة أن يلحظ أن بعضها يبتعد عن الموضوع الأساسي للقصيدة، ويفقد خاصية المشاكلة حتى من منظور البلاغة القديمة، فالهموم أضعف من أن تشبه المنايا، خصوصا حين نضع في اعتبارنا أن المشبه به لا بد أن يكون متمكنا في الصفة التي تجمعه بالمشبه وزيد عليه فيها، وإلا فقد التشبيه وظيفته الشارحة أو المبرزة للمعنى المقصود. والتكرار المكون من تشبيهات منفصلة ينتهي إلى تثبيت الحركة العنيفة أو الصدام المتحرك الذي يفترض في هذا الجزء تصويره، ولعل الشعر العربي كله لم يعرف هذه البراعة الحرفية في التكرار إلا عند شوقي، فيما يقول الأستاذ علي الجندي في كتابه عن (فن التشبيه)، لكنها البراعة التي يعنيها المباهاة بالتكرار، حتى لو انتهى الأمر إلى تناقض التشبيه كأنه صهيل الخيل الذي يشبه صوت الناعي وصوت البشير معا، أو كأنه الحرب التي تنقلب إلى نوع من الكرم الحاتمي الذي لا مبرر نفسيا له في هذا السياق.

من الطريف ملاحظة أن البارودي يتفوق على شوقي في مضمار مقابل للمنافسة، في هذا السياق، هو مضمار حشد أكبر عدد ممكن من التشبيهات داخل حدود البيت الواحد. وتلك ظاهرة تتكرر في شعره بشكل لا يحدث في شعر حافظ أو شوقي أو الجارم أو أي شاعر آخر من شعراء عصر الإحياء.


جابر عصفور
فبراير 2001

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى