علي حزين - دخان الشتاء.. قصة قصيرة

في البدء.. كان صياح دِيَكَة.. والشمس طالعة.. والسكنات الريفية يتصاعد منها دخان الحطب.. وكانت أرض واسعة.. وسماء دائمة البكاء... وكان ولد وبنت.. الولد شقي وعفريت.. هكذا ينعته الجميع.. عُوده أخضر كسنابل القمح .. يفهم "هرش البنات"، وحين يندس وسطهن.. يصيخ السمع.. يضحكهن.. ويقطعن حديثهن.. عن العريس المنتظر.. وليلة العمر.. وبيت العدل.. والبنت بدر لم يكتمل تمامه.. تحب الولد الشقي.. ولا تلعب إلا معه..
ــ تيجي نلعب عروسة وعريس ...
ــ لا .. نلعب الثعلب فات , فات ...
ينتصف النهار.. تحت جذع النخلة العوجاء، المرابطة علي الطريق.. يراقصها الريح.. تسكنها جنيّة عاهر.. عندما تنقطع الرِجْل عن الطريق, تظهر عارية تماماً .. حاسرة الرأس..
تقول روايات القرية أن " خلف هنشر" ذلك الرجل الآدمي.. الذي تحول حاله فجأة.. وانطوى علي نفسه.. قد تزوجها, وأنجب منها أطفالاً صغاراً, كثيراً كان الناس يسمعونه يحدثهم بكلمات غير مفهومة.. فإذا ما سأله أحد عما يتمتم به.. يهرش في جنبه.. وهو يقول..
ـــ " والله ما أنا عارف "
وكان المطر يغسل القرية.. ليلبسها ثوباً اخضراً.. فتصبح مبهجة للعيون.. وزنابق..
الحقول لا تفتأ ترفرف تحت الفراشات.. والعصافير الملونة.. والولد.. والبنت
يقفزان.. يضحكان.. يلعبان.. يمرحان تحت النخلة العوجاء.. فالجنيّة لا تظهر للأطفال .. فمنذ تزوجها .." خلف هنشر" يأمرها ألا تظهر لسواه .. يأمرها فتطيعه..
يقال ...
" ابتسم لها ذات قيلولة.. ولم يخف منها, ولم يعنفها كباقي الرجال, الذين عرضت عليهم أن يسّيجُوا براحها.. عشقته, فسكنت فيه.. فتزوجها"...
البنت تبتعد عن الولد الشقي, العفريت, تجري في المكان.. تلهو, وتلعب تضحك فتفصح عن جُمان.. والريح تداعب سعف النخيل.. وشعرها الذهبي وطرف ردائها القصير.. ثم تدنو منه متبخترة, مسفرةً عن بدر مكتملاً تمامه.. تقف ترنو في صمت جميل.. بينما الولد الشقي.. يصنع حصاناً, وسيفاً من جريد النخلة.. ليضرب به طواحين الهواء.. وهو يصيح بصوت رخيم.. والنخلة العوجاء ترتجف علي الطريق.. ويدوم اللعب, والضحك, حتى إذا ما بدأ يظهر " خلف هنشر" يدب علي أول الطريق, أشعث, أغبر رث الثياب والهيئة.. ذو عمامة مهربدة, وقامة طويلة.. ومنكبين عريضين.. يهرش في جنبه.. وهو يبتسم للهواء .. يمتطي الولد الشقي صهوة حصانه الجريد .. شاهراً سيفه, وردفه, البدر الذي لم يكتمل.. يصهل كالحصان.. يضرب بقدميه الصغيرتين الأرض.. والبنت متشبثة في أهدابه.. وهو يدير رأسه كالحصان.. يتنحنح.. وينطلق بقدمين حافيتين في الأرض الواسعة أمامه, قبل أن يصل إليهما " خلف هنشر".. والريح تصفر .. فتزمجر الأشجار العتيقة .. والمطر يهطل .. وينهمر بغزارة والبرد صولجان .. والشمس كانت غائمة.. والأولاد محتشدون عند الجسر.. يهتفون بكل قوة أناشيد ساذجة.. تستحث المطر كي يزخ " حجارة حجارة.. أو عنب وتين"، يدخل الولد الشقي والبنت وراءه وسط أمواج الصبية المتلاطمة.. وهم يجوبون الشوارع.. والطرقات ويهتفون في وجه السماء.. ويظل الموكب يسير حتى المساء, والولد الشقي يضرب بسيفه في كل اتجاه حتى يصلوا إلي " السبيل المهجور" بجوار " جنينة صدقي" عند الجسر الحربي.. ذلك الذي يسكنه " خلف هنشر" في الشتاء.. وما إن يصلوا إليه حتى يرتعد الأطفال , من السكون الذي يخيّم علي المكان , ويلف السبيل المهجور.. يفزعون.. ويفرون في عشوائية.. فيصيح الولد الشقي فيهم , ليجمع شتاتهم من جديد.. ويسلك بهم طريقاً آخر وهو في المقدمة .. يهتف .. وهم خلفه يرددون:
ـــ " مطري يا مطرا ... .............."
وكانت الشمس تميل للغروب.. والبنت تلتقط التمر.. المبعثر تحت جزع النخلة.. تملأ جيوبها.. والولد الشقي يرج النخلة بالحجارة.. ثم يجلسان.. يقتسمان ما جمعت من الحب بينهما.. يفترشان الأرض.. يتفرس خضرة عينيها.. يهدأ الكون من حولهما.. ويرقد في سكون جميل, وقد هدأ المطر قليلاً.. والشمس بدأت تبتسم في خجل، من خلف السحُب البيضاء.. السائرة في بطء.. المتشكلة بأشكال حسنه فوق النخلة المرابطة علي الطريق.. والعصافير تزقزق, والقُمري.. والبنت تقطف من زنابق الحقل.. زهرة صفراء.. تدنو منه , تنحني عليه ضاحكة.. وهو يرفع عقيرة صوته بالغناء, تغافله, تضع قبلة علي خده الصغير الأبيض.. وبصوت ناعم..
تهمس :
ــ تفضل ...
ــ الله ... حلوة قوي .....!!
ـــ أعجبتك ...؟
يومئ برأسه .. راضياً بصنيعها.. فجأة.. يميل نحوها.. يُقبلها بغتة.. تنهض واقفة.. ابتعدت.. وقفت.. أطرقت.. صمتت.. وخديها حمراوين من الخجل.. وشعرها الذهبي قد أسكن هوجته المطر.. برهة قصيرة.. تدنو منه , تمد يديها.. الصغيرة البيضاء.. توقفه من جلسته.. والشمس تلملم خيوطها الأخيرة من فوق الأرض, ومن علي شواشي النخيل.. والسكنات الريفية يتصاعد منها دخان الحطب, وصياح الدِيَكَة... وعندما يأتي الليل, يُزيلان ما علق بهما من الطين والغبار, ثم يأتيان الجدة العجوز.. يلتفان حولها أمام النار.. تحت المصطبة .. في وسعة الدار.. والحطب المشتعل يطقطق.. وألسنة اللهب تمتد, لتلفح الأيدي الصغيرة.. المتلمسة للدفء وهي تنير الوجوه البريئة ..
ــ الدفا بالعين يا أولاد .....!!
ــ أحكي لينا يا ستي ............؟!
تضحك العجوز .. حتى تظهر نواجذها المتخلعة .. تُقرب الحطب من النار وهي تنفخ الدخان الكثيف الذي يلف المكان , ويسيل دموع الأطفال , ويكاد يحجب الرؤية
ــ ما اشبعتوا حكي ....؟!
تتسند علي يديها.. تنهض في بطء .. تسرج المصباح .." نمرة عشرة" ثم تضعه
بعيداً عن الخُص, وأيدي الصغار, في كُوةٍ في الحائط , حالكة السواد.. ثم تعود.. وما زالت أثار الضحك فوق طرقات وجهها الذي حفرته الشيخوخة .. والمرض..
فيبادرنها قبل ان تجلس ..
ــ أحكي لنا عن العفريت , والنبي يا ستي ..!!
تضحك العجوز من جديد.. وتبدأ مثل المعتاد .." تصلي علي النبي العدنان " والولد والبنت يُرهفان السمع ... وكان الدفء .. وكانت البراءة .. والسعادة ترفرف في جنبات البيت الكبير .. والأرض الواسعة .. والسماء المرصعة بالمصابيح ... وكان الحب يملأ الحياة .... وكان كل شيء جميل......

..... يقول الراوي : ...

" ذات صباح .. اختفت البنت الصغيرة .. أما الولد الشقي , بحث عنها فلم يجدها.. فسأل الجدة العجوز , والبنات الآتي يهرشن .. ولما يئس , وتعب .. جلس كل يوم تحت النخلة المرابطة علي الطريق.. يده علي خده حزيناً يرسم , ويكتب ... ولما دار الزمان واستدار.. وصار الهلال بدراً مكتملاً ... عرف الولد الشقي أن البنت التي أحبته صغيراً ... تزوجت ولداً أخر ... وأنبتت له سبع سنابل خضراء...
أما " خلف هنشّر".. قد أمسي صورة معلقة في فاترينة .. واقفاً كهيئته القديمة .. يده في جنبه .... يهرش .... وهو يبتسم للهواء...........


********
على السيد محمد حزين ــ طهطا ــ سوهاج ــ مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى