محمد الخضر الريسوني - قصة امرأة

أمسكت السيجارة بأصابعها الدقيقة، وتوقعت أن أقدم لها عود الثقاب، ولكني تباطأت وتلكأت، فحدجتني بنظرة صارمة قاسية، وكان الليل رائقا، ونور الكهرباء يغازل شعرها، بينما جهاز الراديو يتجاوب بموسيقى (رقصة الأطلس).
كان وجهها الفاتن يختفي وراء الأصباغ، وقد بدت شفتاها في حمرة قانية، لولا أسنانها البيضاء الصغيرة، لخلت فمها قطعة حمراء. كان الألم باديا على محياها، وكانت تنفث دخان السيجارة في عصبية وقلق.
بادرتها وأنا أتأمل كل شيء فيها: مالي أراك قلقة حائرة؟ تكلمي.
أجابتني وعيناها تشعان ببريق يخطف الأبصار: إنني أخشى منك؟
ـ تخشين مني؟؟
أخشى أن تفضحني، ألم تقل لي أن مهنتك أن تكتب قصص الناس؟؟
أجبتها: تكلمي ولا تخشي ... ومن يدري؟
فربما كان في إمكاني أن أساعدك.
وبحركة سريعة أسكتت الراديو، ثم قالت وهي تنفث دخان السيجارة في فضاء الغرفة: لقد جئت إلى هذا البلد واشتغلت خادمة ببيت أحد الوجهاء الأثرياء، وخلال مقامي مع الأسرة شاهدت كل شيء. شاهدت الظلم بأفظع معانيه، ولمست النفاق بأخطر صوره، شاهدت جوا مسموما تطل عليه رؤوس مخيفة كؤوس الشياطين.
وبالطبع تعلمت النفاق، فكنت أبتسم وأضحك كبلهاء جاءت إلى هذه الحياة لتشارك بدورها في المهزلة.
وأقبل السيد الصغير يوما فابتسم في وجهي، وقال يخاطبني:
إنك أجمل امرأة في هذا البلد.
انتشيت من هذا المدح، وشاعت الحمرة في خدي، وإذا بالشاب يقف مشدوها حائرا تتلعثم الكلمات في شفتيه، وقال:
إنه يحبني.
ولم أجد إلا أن أبادله عواطفه، كيف لا وهو السيد الصغير.
ثم حدث أن راودني... فامتنعت وغضبت: ولكنه ألح .. وبعد أن لمس إصراري على الرفض أخذ يتآمر على طردي من البيت، وأخذ يشيع حولي إني لصة مختلسة، وانصبت التهم علي من كل مكان، حتى من والده، السيد الكبير.. الرجل العجوز الذي كان بدوره يراودني بابتسامة خبيثة تنفرج لها شفتاه عن أسنانه الوسخة، وانتابتني الأحزان والآلام ففكرت في الهرب، ولكن إلى أين... والأبواب كلها موصدة؟؟
وذات مساء رهيب اقتحم غرفتي السيد الصغير وأسرع يقبل يدي، وينحني علي ليمسح دموعه بشعر رأسي، وأكد لي أنه يحبني، وأني الوحيدة التي ستكون زوجة أحلامه، وغرني هذا المظهر، لاسيما وأنا أسمع صرخاته وتوسلاته وإيمانه المغلظة، وتقدم إلي. وبكل وحشية سلبني شرفي.
هذا الشرف الذي هو أعز ما تملكه المرأة، إنه حياتها وسرها وقوتها وجمالها وخيرها.
ومضت أيام وتلتها أسابيع، وإذا بي أحس بدوار في رأسي، شيء في أحشائي.
بكيت وصرخت، ورجوت السيد الصغير أن لا يتخلى عني، ولكنه بدلا من هذا، بادر إلى إخبار أمه وأخواته، زاعما أنع رآني مع شخص مجهول.
وهكذا حكم علي بالطرد والشقاء، وخرجت إلى الشارع فطال بي التجوال والبحث عن عمل شريف، في استجداء يائس، ولكنهم كانوا ينظرون إلي باستخفاف، كان نظراتهم تقتحمني عابرة، وكنت دائما أسمع نفس الجواب.
وأخيرا، وليكلا تقتحمني الأعين مرة أخرى، قررت أن أسلك الطريق التي توصلني إلى اللذة والمال.
والعجيب أن المجتمع صفق لي هذه المرة في حرارة، وصاح المعجبون بي في كل مكان:
ما أجملك.
وها أنذا اليوم أخطر في الشوارع، أشرب الكأس حتى الثمالة، وحولي وخلفي أناس كثيرون يتوددون لي، هؤلاء الناس الذين سلبوني شرفي، وضنوا علي بكرة الخبز.
وسكتت المرأة بعد أن خنقتها الدموع، وشعرت باعترافاتها تنفذ إلى أعماقي، فلم أملك إلا أن أنظر إليها في صمت، وإلى دموعها في احترام.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى