محمد جبريل - حارة اليهود..

مضي في قلب حارة اليهود، تميزه قامة أميل إلى القصر، والامتلاء ورأس مهوش الفودين وشعر كثيف يطل من فتحة الجلابية، أعلى الصدر. بادي الصحة بما يلفت النظر. يعرفه المارة والجالسون فهم يتقونه بإلقاء السلام، أو بالدعوة للضيافة أو بعدم الالتفات. وثمة روائح غريبة، نفاذة- وأن آلفها - تأتي من داخل البيوت، ونجمة داود متداخلة في الأبواب والشرفات..

تمنى- بينه وبين نفسه- لو أن هؤلاء الجالسين في الدكاكين، الواقفات على النواصي، المطلين من النوافذ، تحرشوا به. شاكلوه مثلما فعلوا مع علي الصغير. ينهي المسألة بمفرده. يطيح فيهم بيديه. يفش الغل الذي يخنقه منذ سنوات. ليست المسألة في مشاكلة علي وإيذائه. يستطيع الوصول إلى الفاعلين. يترك لأصدقائه أمر تأديبهم، فلا يعودون إلى أذية الناس أو يتركون الحي بلا عودة. الثأر شخصي، لا يقف عند فرد أو أفراد. يمتد إلى حارة اليهود كلها، ناسها وبيوتها ودكاكينها ومعاملاتها. أفلسوه في يوم وليلة. مهدوا لذلك سنوات، بالقروض والشيكات المؤجلة والبضائع الأمانة، ثم هطلوا كالسيل دفعة واحدة. أصبح دكان المصوغات والمجوهرات ملكاً لمن دفع السعر الأعلى. يسرع في خطواته إذا سار أمامه. يصعب عليه النظر، ولو بطرف عينه. الهم تصاعد داخله، ملأه، حتى تمنى الموت. لما جاء الولد علي يبكي الإهانة، قرر أن يصفي الحساب كله. يكون الدرس في حجم التأثير المطلوب. يعرف اليهود أنهم يسكنون الحارة، ولا يملكونها. من حق الناس أن يمشوا في الشوارع، والأزقة، دون خوف أذى.. هل ضربوا على الصغير في خناقه بين أطفال، أم أنهم كانوا يعرفون أن الولد ابنه. سأله عن الأولاد: هل هم أصحابه؟.. وهل يعرفون من هو؟.. وهل تحرش بهم، أم ضربوه بلا سبب؟..

روى الولد ـ في مكانه ـ ما حدث. آذنه المفاجأة أكثر مما آذاه الضرب. وجد نفسه وسطهم.

أحكموا حصاره في حارة خميس العدس، وانهالوا عليه بالضرب القاسي، المتواصل، بالأيدي والأقدام والعصي الصغيرة. أنقذه مرور موظف بدار سك النقود، صرخ في الأولاد، فابتلعتهم البيوت والحواري الجانبية. أكد الموظف- لما سأله جعلص - كل ما قاله الولد علي..

أردف الرجل في تأثر:
- حتى الكبار لم يعودوا يأمنون على أنفسهم إن ساروا في الحارة. أذهله صبحي افندي منصور، مأمور قسم الجمالية، عندما كلمه فيما حدث. أشار الرجل إلى كتفه، وقال في أسى واضح:
- ماذا تقول في إلقائهم الوسخ من نافذة، على مأمور القسم؟
غالب الدهشة: كيف؟
قال المأمور: كنت اختصر الطريق من الموسكي إلى القسم..
في عدم تصديق:
- ربما لم يعرفوا من أنت؟..
قال المأمور:
- والبدلة الميري؟..
- لعل الوسخ ألقي عفواً، أو خطأ؟..
- والضحكات التالية لما حدث من المطلين في النوافذ، والجالسين أمام الدكاكين..
وهو يضرب جبهته بقبضة يده:
- هذه مصيبة!..
دلك المأمور بأصبعيه تحت أنفه:
- تكررت المصائب كثيراً في الفترة الأخيرة..
أخلى وجهه للغضب:
- هل تأذن لي في التصرف؟..
قال الرجل وهو يعاني:
أنا موظف رسمي.. أحتاج إلى التدقيق والإثبات ومراعاة الحساسيات.. أما أنت..
قال: كنت صائغاً.. أبيع الذهب والمجوهرات
- وماذا تعمل الآن؟..
قال في بساطة:
- أفلست.. أعمل الآن في حمل الخزائن..
مط الرجل شفته السفلى، وقال في إعجاب:
- مهنة مناسبة لمن هو في قوتك..
عرض أن يصوره في إعلان عن البيرة الفرنسية. رفض في البداية، ثم وافق لما أقنعه الخواجة بأنه سيمسك كأس البيرة، ولن يحتسيه.
ذكر الخواجة وهو يضغط على ساعد محمد العسال كلمة "مجانص". التقطها أبناء الحي الملتفون حولهما. حولوها إلى جعلص. صار اسمه- من يومها- محمد جعلص..

شارك في مظاهرات ثورة 1919، وهاجم جنود الإنجليز في البارات، وفي الأماكن المظلمة، وفتح الطريق- أحياناً- أمام موكب سعد زغلول، حين كان يفضل المشي بين الناس. لكنه لم يخض معركة، ولا حاول أن يجعل نفسه فتوة كباقي فتوات الأحياء. حشدوا الأعوان، وخاضوا المعارك، وفرضوا الإتاوات. دانت لهم السيطرة، واعترفت بها الحكومة. استعانت بهم أقسام البوليس في استعادة الحقوق الضائعة، والبحث عن المخطوفين والغائبين. حاول عنتر إدريس فتوة محمد علي، أن يمد سطوته إلى المناصرة وما حولها. ظن أنها بلا فتوة، فنشر أعوانه، ومضى يطلب الإتاوات وثمن الحماية. تصدى له محمد جعلص. استغاثت جارة، أخذ أعوان الفتوة كيس النقود من يدها. لم يخفر المعركة إلا بعد أن بصق الفتوة على رجائه بأن يعيد الكيس إلى المرأة الغلبانة. سار في طريقه، والأعوان من حوله. اختطف جعلص الشومة بسهولة من يد الفتوة. أطلق عنتر إدريس صرخة إلى، وهو يعاني- بتأثير الضربة المباغتة- تخلخل ساقيه. لحقه في الموضع نفسه بضربة ثانية. تهاوى على الأرض بجسده العملاق. استغل جعلص المفاجأة، فطاح بشومته في الأعوان. تساقطوا جرحى، أو فروا. تعالت الزغاريد من النوافذ والمشربيات، ومن وراء الأبواب المواربة. عرف فتوات الأحياء الأخرى أن محمد جعلص هو فتوة المناصرة، وأن لم يمارس الفتونة، ولا سعى إلى التكسب منها..

لم يبدل مشواره اليومي من المناصرة إلى حارة اليهود. يقضي يومه في الدكان، ويعود آخر النهار. ربما قضى ساعة في قهوة التجارة، يلتقي بشبان المناصرة، ممن لا تأذن التقاليد باستقبالهم في بيته، أو أستقباله في بيوتهم، يشرب الشاي بالنعناع، ينصت إلى ذكريات قدامى الفنانين، يهز رأسه، ويدندن، لاختبارات آلاتهم، يرد بابتسامة على رأيهم بأن يستغل مظهره في عروض السيرك، أو في الفرق المسرحية..

مات ناجي العقيلي، صاحب الدكان الملاصق. اشتراه، وزاد في عمله. أغراه التجار اليهود بالذهب المستورد. قدموا له البضائع أمانة، وبالشيكات المؤجلة. اتسعت معاملاته وأمواله عند الزبائن، وزادت الثقوب، فلم يستطع سدها..

انتظر حتى انصرف الشاب والفتاة من دكان عبدالعظيم هريدي.
قال: - أغلق دكانك الآن!.. وادع زملاءك إلى إغلاق دكاكينهم..
علا حاجبا عبدالعظيم هريدي:
- لماذا؟..
قال محمد جعلص:
- بيني وبين سكان حارة اليهود ثأر.. سأصفيه!..
قال هريدي:
- كل الحارة..
وهو يضرب الهواء بجانب يده:
- زادت التصرفات المجرمة..
فصار من الواجب تأديب الحارة كلها..
قال هريدي:
- بمفردك يا جعلص؟..
قال جعلص: - طبعا لا.. استقدمت مجموعة من بلدياتي في الصعيد. فطنتهم على المسألة وما يجب عمله..
أدار عبدالعظيم هريدي نظرات متلفتة وراء محمد جعلص:
- أين هم؟..
أشار بأصبعه:
- ينتظرون في ميدان الحسين..
غالب هريدي تردده:
- سأغلق الدكان وأظل معك..
هتف بعفوية :
- لا.. دكانك في محيط سطوتهم.. ربما آذوك!..
- هل تظن أني أتركك بمفردك؟..
أردف وهو يتهيأ للقيام:
- ما يجري عليك يجري على أصدقائك..
سد الرجال كل المنافذ المفضية إلى حارة اليهود؟ في الحسين وبيت القاضي والموسكي. تأكدوا من الأبواب الخلفية للبيوت والدكاكين والمخازن، فلا يفلت أحد..
حتى لا يتورط الرجال في جرائمهم، شدد عليهم، فلم يحملوا سوى الشوم والنبابيت. أخذ مطواة في يد متأهبة. ألقى بها داخل بالوعة.
قال في لهجة محذرة:
- نريد التأديب لا القتل!..
لما اطمأن إلى إغلاق مخارج الحي، أعطى الإشارة، وتقدم الرجال. سدوا الشوارع والحارات والأزقة بأجسامهم. أدرك فتوات اليهود ما ينتويه.

أسرعوا بإغلاق الدكاكين والبيوت. أخذوا ما استطاعوا حمله، وخرجوا: شوم وعصي ونبابيت وسكاكين وخناجر. أطاح فيهم بقبضته وشومته. علت الصيحات والصرخات والتأوهات، وانبثق الدم. تعالى الصوات من النوافذ والشرفات. فتحت الأبواب كي تستقبل الأقدام الملهوفة. لم يلحق الدكاكين دمار، ولا سرقت البضائع المعروضة. انهالت الضربات على الأجسام وحدها. من يسقط يرفعون عنه ضرباتهم. يتجهون إلى آخرين، أغلقت أبواب البيوت قبل أن يدخلوها، أو سحبوا من داخل الدكاكين. طاردوهم في أزقة الصاغة الضيقة. حرصوا أن تكون الضربات موجعة، وأن قطنوا إلى انتظام ترددات الأنفاس.

سحب كرسياً من ألبان الملكي، وجلس. أغمض عينيه، وتنفس الراحة. تصخب من حوله الدعوات والابتهالات والمدد والتسابيح ونداءات الباعة وأغاني الفوتوغراف وصيحات المجاذيب- ورائحة البخور والشواء والطعمية والسبح وغزل البنات والبصقات والشتائم والضحكات والبكاء والزغاريد والبدل والجلابيب والملاءات الطرابيش والعمائم "واللبد والأعلام والبيارق والسوارس والكارو ودقات النقرزان وتلاشى الظلال في شمس الظهر..
قال وهو يسند الشومة في الجدار:
- علقة.. لن يعودوا بعدها إلى أذية الناس..
قال عبدالعظيم هريدي، وهو يتأمل جرحاً في مرفقه من ضربة خنجر:
- هل تظن ذلك؟..
حدجه بنظرة متسائلة. ضغط على شفتيه بأسنانه، يختار الكلمات.
أطلق تنهيدة بآخر ما عنده، وسكت

ملاحظة: الثابت- تاريخياً- أن محمد جعلص مات في أواخر العشيرينيات. دخل في قدمه مسمار، وهو يسير- حافيا داخل بيته،
أشار الطبيب الشهير على باشا إبراهيم بضرورة بتر الساق، حتى لا تلتهم الغرغرينا الجسد كله. رفض محمد جعلص أن يحيا بجسد ناقص.


محمد جبريل
مايو 1995

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى