أحمد حسن الزيات - (4) دفاع عن البلاغة - 2 - حد البلاغة

قلنا إن البلاغة توجه إلى العقل أو إلى القلب أو إليهما معاً تبعاً لما تقتضيه حالات المخاطبين من مقاومة الجهل والرأي والهوى منفردة أو مجتمعة. فإذا كان غرض البليغ نفي جهالة أو توضيح فكرة أو تقرير رأي، جزاه في إصابة غرضه الصحة والوضوح والمناسبة. فإذا أراد التعليم أو الإقناع وكان قوام الموضوع طائفة من الفكر أو الأدلة وجب عليه أن ينسقها ويسلسلها على مقتضى الأصول المقررة في المنهج العلمي الحديث. أما إذا قصد إلى التأثير والإمتاع لا إلى التعليم والإقناع، كان سبيله أن يتأنق في اختيار لفظه، ويتفنن في تحرير أسلوبه، ويستعين على اجتذاب الأذهان واختلاب الآذان بإبداع الملكة والهام الروح وتشويق المخيلة وتزويق الفن

والبلوغ إلى قرارة النفوس أخص صفات البليغ في كل ما يكتب. فلو أن كاتباً وقع على طائفة من الحقائق، أو حصل على مجموعة من الوثائق، ثم حققها ونسقها وأداها في اجمل لفظ وأجود صياغة؛ ولكنه لم يبلغ بها كنه القلوب كان حرياً أن ينعت بما شاء من النعوت إلا البلاغة

والسر في ذلك أن ضروب المعرفة إنما تقوم على الملكات المحصلة، وتعتمد على العقل المجرد، وتثبت بالدليل القاطع. ولكن الإثبات ليس معناه الإقناع، فإن الإقناع لا يكون بغير السيطرة على النفس، والسيطرة على النفس لا تتم بغير البلاغة. هي وحدها التي تعد بالعقل في أدراك الحق، وبالشعور في أدراك الخير، وبالذوق في أدراك الجمال. وهي وحدها التي تنفذ إلى القلب بسلطان غير ملحوظ، وتؤثر في الذهن ببرهان غير ملفوظ، وتذهب في تصوير الواقع وتقرير الحق مذهب الوحي الإلهي الخالد

فالوظيفة الأولى للبلاغة هي الإقناع من طريق التأثير، والإمتاع من طريق التشويق، ولذلك كان اتجاهها إلى تحريك النفس اكثر، وعنايتها بتجويد الأسلوب اشد. وربما جعلوا سر البلاغة في جمال الصياغة

قال أبو هلال: (وليس الشأن في أيراد المعاني؛ لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي، وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه، وكثرة طلاوته ومائه، مع صح السبك والتركيب، والخلو من أود النظم والتأليف. وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صواباً، ولا يقنع من اللفظ بذلك حتى يكون على ما وصفناه من نعوته التي تقدمت. . . ولهذا تأنق الكاتب في الرسالة والخطيب في الخطبة والشاعر في القصيدة، يبالغون في تجويدها، ويغلون في ترتيبها، ليدلوا على براعتهم. . . ولو كان الأمر في المعاني لطرحوا أكثر ذلك فربحوا كداً كثيراً)

والحق أن اظهر الدلالات في مفهوم البلاغة هي أناقة الديباجة ووثاقة السرد ونصاعة الإيجاز وبراعة الصنعة؛ فإذا كان مع كل ذلك المعنى البكر والشعور الصادق كان الأعجاز. وليس أدل على أن الشان الأول في البلاغة إنما هو لرونق اللفظ وبراعة التركيب، أن المعنى المبذول أو المرذول أو التافه قد يتسم بالجمال ويظفر بالخلود إذا جاد سبكه وحسن معرضه. ولا باس أن اقدم إليك مثلاً من آلاف الأمثلة بلغ معناه الغاية في السوقية والفحش، ومع ذلك تحب أن تسمعه وتحفظه وتعيده لأنه بلغ من سر الصناعة غاية تظلع دونها أكثر الأقلام

قال أبو العيناء الأعمى لابن ثوابة: بلغني ما خاطبت به أبا الصقر؛ وما منعه من استقصاء الجواب إلا أنه لم ير عرضاً فيمضغه، ولا مجداً فيهدمه

فقال له ابن ثوابة: ما أنت والكلام يا مكدي؟

فقال أبو العيناء: لا ينكر على ابن ثمانين سنة قد ذهب بصره، وجفاه سلطانه، أن يعول على إخوانه. . . ثم رماه بمعنى فاحش مكشوف. فقال له ابن ثوابة: (الساعة آمر أحد غلماني بك). فقال أبو العيناء: (أيهما؟ الذي إذا خلوت ركب، أم الذي إذا ركبت خلا؟)

فانظر في هذه الجملة الأخيرة تره رمي ابن ثوابة في نفسه وفي زوجه، وهما معنيان سوقين يترددان كل ساعة على السنة السبابين من أوشاب العامة، وانك مع ذلك تقف من هذه الجملة موقف المشدوه والمعجب، تحرك بها لسانك، وتعمل فيها فكرك، وتعرضها على مقاييس البلاغة وشروطها فتطول على كل قياس وتزيد على كل شرط. تأمل هذا الإيجاز البارع بحذف متعلقات الفعلين وفيها جوهر المعنى وإصابة الغرض، تجد سر البلاغة كله فيه؛ لأن هذا الحذف مع وضوح المعنى قد نزه الكلام عن صراحة الفحش، وصان المتكلم عن ذكر القبيح، فلو أنه قال خلوت بكذا وخلا بكذا، وركبت كذا وركب كذا، لانحط الكلام عن مقام البلاغة وصار بهذر العامة أشبه. وكان بحسب البليغ هذا الإيجاز المشرق، ولكنه ضم إليه من أنواع البديع (العكس) و (أسلوب الحكيم) فعكس الفعلين، واستعملهما في معنيين مختلفين، وكل ذلك في غير تكلف ولا تعسف ولا غموض.

فأنت ترى أن الصياغة وحدها هي التي سمت بهذه المعاني الخسيسة إلى أفق البلاغة فتداولتها الألسن وتناقلتها الكتب. وليس حال المعنى في ذلك حال اللفظ؛ فإن اللفظ في ذاته كالموسيقى يخلب الأُذن ويلذ الشعور وإن لم يترجم؛ أما المعنى فالكهرباء، إذا لم يكن لفظه جيد التوصيل انقطع تياره فلا يعرب ولا يطرب. أقرأ قول القائل:

لما أطعناكمُ في سخط خالقنا ... لاشك سلّ علينا سيف نقمته

ثم وازن معناه الشريف ونسجه السخيف، بما رويت لك من كلام أبي العيناء، فلا يسعك إلا أن تقول كما أقول: إن القذر يوضع في آنية الذهب فيقبل ويحمل؛ وإن المسك يوضع في نافجة الطين فيرفض ويهمل.

(للكلام بقية)

أحمد حسن الزيات


مجلة الرسالة - العدد 494
بتاريخ: 21 - 12 - 1942

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى