مصطفى مزاحم - الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري جماليات البلاغة في قصيدة مناجاة.. (الحلقة الثانية)

ومن طرافة الاستعارة أن الجانب المعنوي المشار إليه يُمكن توضيحه من خلال التشبيه بالأمر المادي، ويحسن ذلك بمقدار التناسب بين الجانبين، حتى لا تكون المقاربة فجة أو تتسم بالغرابة، وعلى كل حال فإن الشاعر المتمرس بالعربية وعلومها لم يأت باستعارات ناشزة أو غامضة، بل كانت تتسم بالوضوح والتجلي، وكانت عونا على بيان الفكرة، والحالة الشعورية التي يعاني منها، مثل قوله (كم تودّين لو خنقتِ صَدى الحبِ بيننا)، فإن الناظر فيها يقتنص المعنى من أول النظر، ويحس جيدا بما يريده الشاعر أو يحس هو به، مع أنها تضمنت استعارة بليغة فيها من ضروب البيان ما ليس بيسير، وفي عبارة (خنقت صدى الحب بيننا) أكثر من استعارة واحدة، ويمكن اجراء الاستعارة المكنية والاستعارة التصريحية فيها معا، فهو قد جعل للحب صدى، مع أن الصدى شيء مادي هو من خصائص الصوت، أما الحب فهو شيء معنوي خالص، ففي قوله (صدى الحب) استعارة مكنية، حذف فيها المشبه وبقي فيه شيء من لوازمه في دال الصدى، ومن عبارة (خنقت صدى الحب) تتولد استعارة تصريحية، فيها المشبه به مذكور، أم المشبه فقد غاب عنها لتذهب نفس السامع مذاهب شتى يصورها الخيال الفني. ومن الاستعارات الواردة في القصيدة أيضا قوله (وأُصالي على الطريق وجوها وأعيُنَـا)، وهي استعارة بديعة مفتاحها في قوله (أصالي) الذي كشف المعنى بدقة ورسم العاطفة بحذاقة فنان، فالشاعر كان يتلمس في الطرقات وجه الحبيبة، ولأنها كانت ماثلة في عقله وحاضرة في قلبه دوما، كان يرى انعكاسات وجهها في وجوه المارة، وتلك من حالات الوجد التي يُعرف بها العشاق، لكن تلك الانعكاسات كانت تخللها الخيبات والمرارة، فالشاعر يأمل الوجدان، وقد غاب في تلك الوجوه والأعين بعد لحظات من الخيال كان الظن فيها أن المرأى هو مرأى الحبيبة، وهو ما يحدث ألما متكررا عبّر عنه الفعل المضارع (أصالي) الدال على التكرار في كل نظرة يظن فيها أنه قد لاقى الحبيبة، فالاستعارة هنا مكنية حذف فيها المشبه به وأبقي المشبه، ورمز إلى شيء من لوازم المشبه به في الفعل (أصالي)، كما أن في معنى الفعل من الحرارة ما يتناسب مع شدة الوجد، وفي وزن الفعل هنا ما يدل على المبالغة دون المشاركة، وهو ما جعل الشاعر يعدل عن لفظ (أصلي) إلى فعل أصالي لأجل ذلك. وقد اشتملت القصيدة أيضا على استعارات أخرى لا تقل في جماليتها عن المذكور سلفا، كما في قوله (يضجان بالسنا، مشى فيهما الونى، حلوة الطباع، حلوة المجتنى، خلق الحب جنة...)، وكما ألمعنا فإن الاستعارات الواردة في القصيدة لم تتسم بالصعوبة أو الغموض، وربما كان مرجع الشاعر في ذلك إلى قصده ايضاح الفكرة بأيسر عبارة وآنق لفظ، وربما تنفتح للباحث معانٍ أخرى من هذه الاستعارات تعكس وجوها وزوايا متنوعة في ذهن الشاعر الفحل. أخيرا يشار إلى ملمح بلاغي آخر في القصيدة، تمثل بالقسم، ويلاحظ فيه الكيفية التي أطال بها الشاعر بين المقسم به والمقسم عليه؛ وعلل ذلك الطول في قوله (حلفة الواثق ارتضى ما يُلاقي فأذعنَا) فهو قسم مغلظ قد ارتضاه لنفسه لقوة السبب والداعي إليه، وقد جعل من القسم مناسبة للوصف والاطناب والاسهاب، وذاك ما يترجم شدة الشوق والتلذذ بذكر الحبيبة، وليكون مناسبة لتعليل وتسويغ الخبر (المقسم عليه) بأن جعل أجلّ وأسمى ما يطمح إليه الناس مشروطا بتواجدها وتوفرها فكأن الملذات كلها لو جمعت ليس في دنيا واحدة بل في (الدنى) لم تكن لتلقى هوى من الشاعر بل لم تكن مغنية عنها، وهو تقرير ونتيجة جاءت متناسبة مع ختام القصيدة التي لم تبارح أبدا تلك الكثافة الغنائية وطقس العاطفة المتوهج. وهناك ضروب بلاغية أخرى في القصيدة أخذت من علم المعاني بنصيب، علاوة على الفنون الأخرى من البديع والبيان، وقد حققت جماليتها ومتعة التلقي للقارئ، ولولا ضيق المقام لأتينا بذكرها، ولكن نحسب في المذكور ما يقرِب الفكرة ويوضح الاسلوب المتعمد من الشاعر في استخدامه للبلاغة العربية بمنحى فيه الذائقة الفنية المتجلية في اللفظ المختار والمعنى الجائل، وهو ما يؤكد أن معنى الفحولة الشعرية قديما، لا يناشز الحداثة بأي حال بشرط أن يكون الشاعر ملما وحاذقا لآلات الصناعة البلاغية (اللفظية) إذا ما أوتي حظا من رهافة الحس، ومن الموهبة التي تُصقل بالدربة والممارسة، كفعل الشاعر بالضبط.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى