محمد حيدار - شعائرالدخول إلى أديرة الألوان.. قصة قصيرة

تنبيه: إن هذه القصة لا تعني أحــــــدا بعينه، والأسماء التي وردت فيها جاءت اعتباطيا.


في انشداه مشبع بإجفال، عيناها الزرقاوان تحاصران سحنتك المتداعية، دفء المكتب أخذ يهذب قشعريرة وافدة تمخر جسمك منذ هذا الصباح الشتائي، دهشة المثول الأول لا تزال تلفّك، ودون أن تُمنح حق الجلوس غامرت بالسؤال:

ــ أبحث عن ملف أحمد صالحي من فضلك.

في عينيها المثقلتين بالأصباغ تراجع فلول الدهشة، العيون الزرقاء في معجمك ترسم فلسفة انتفاء لا تقاطعك، على زر ثابت إلى جانبك ضغطت، زر تحضير الأرواح كما أسميته ذات مرة في أزمنة الإستنطـاق الأكبر، باب داخلي انفتح في خفـة، موظف الدرجة الثالثـة بزر أمتثل، قالت في تكلف دون أن ترفع نظرها نحوه أو نحوك:

ــ في أدراج " ألف ـ صاد" ملف أحمد صالحي.

ــ من أي الولايات هو؟

استفسر موظف الدرجة الثالثة منصرفا ببصره نحوك، نظرة مركزة سددتها إليه في غير ما حنق، قبل أن تندفع بالجواب ودون أن تنتظر تدخلها، من حيث ظهر يختفي ثانية موظف الدرجة الثالثة، حق الجلوس ظل ممتنعا عنك، المقعد الوثير تقززه رائحة أسمالك غير المتجانسة.

وأنت شخصيا تود لو تظل منتصبا لكيلا يحدث ارتطامك بالمقعد أي اصطدام غير متكافئ، منذ أن أجلسك السجان على مقعد حديدي مخشوشن الحواف لم تركن إلى مقعد، العينان المشعتان بالزرقة عادتا إلى مناجاة أوراق يومية، الحضور يتقلص في نظرك، الحيز يحافظ على استثنائيته، الزمن وحده يمضي في تراوح ممل، أنت تعرف لون الزمن، أساس دورانه الحركة والإحساس به.

في مذكراتك غير المكتوبة لم تشكُ ثقل الزمن، معظم لياليك قضيتها هكذا منتصبا يروضك الصقيـع، تغالب الحرارة شبه عار كما الآن.

العينان الزرقوان كليـة تركبان متن صحيفة سيـارة أغلب الظـن أن الأمر يتعلق بصفحات ترويض الحظ والكلمات المتقاطعة، في نظرك مطلقا فقد المعاين جماليته، إبان سنوات الإستنطاق الأكبر لم تطفل هذه النزعة في ذوقك، اعتقادك المطعون لكم يبرح بك: " الزرقة نفي للسمرة وللسواد؟"، علم الألوان المقارن يطمئن إلى تخريجك هذا بنسبة عالية في تركيب ما، الزرقـة رونق السمرة، كدت تتمتم بها كنتاج مستخلص، لكن انسياح الشعر الذهبي على الأوراق أدهشك، بشدة يعـاودك الحنين إلى الخروج وتسأل هاجسك.

ــ والملـف؟ اللعنـــة؟!.

بدونه ستظل ـ كما أنت ـ عديم الدخل؛ عديم التضحية، عديم الأمس.

وهممت بالبزاق لولا مخملية البلاط ذات السمك الأرجواني، كيف قذفت بك رجلاك إلى هذا المكتب المتعدد الموانـع؟

ــ قانون عقوبات متوالي المواد فحسب، يحظر الجلوس والكلام والحركة، والبزاق يا له من مكتب.

تغريدة عصفورية تنبعث من جهاز هاتفي على الزاوية، وحدها لاحقت خاطرتك في يسر اخترقت طبقات الصمت الرصاصي الثقيل

ــ ألـــــو.

هذه الكلمة الجذع في علم اللغة الرامزة، هذا الدال اللادال وحده نفذ إلى سمعك، ثم أخذ الخطاب بُعدا انغلق عليك، الصوت يتهدل أكثر، تنبسط نبراتـه إلى حد الهمس، يجتث المكان، يحيله جزيرة عائمة، مركبا ما، لا صلة له باليابسة، بالمكتب؛ بك، بملفك، بيومك، بأمسك.

علاقتك بالصوت علاقة عكسية دائما، فبقدر ما تنفتح صلة الخط العصفوري ينكفئ بك المكان.

كنت تعتقد أن للمكالمة صلة ما بملف الحياة هذا الذي تنتظر العثورعليه، ولكن اللحظـة أكسبتـك موقعا خارج المحسوس، ربما في عالم الأرواح. لا أحد يعلم من أمر وجودك شيئا، في إمكانك الآن أن تتحرك، تتكلـم، تغني، أوحتى تكسر بابا أو مقعدا دون أن يثير ذلك انتباه أحد، لقد استثناك التركيز نهائيا.

اللحظة تتوهج؛ تنكشف في لا وعي واع، ارهاصات حضـور تليـباثي أخذت تمثل على مسمع منك، وأيقنت أن الأدوار كلها مضبوطة، موظف الدرجة الثالثة ذاته تطـاول به اختفاؤه، قلت في سرك:

ــ ربما لكيلا يحدث حضوره أيا فضول أثناء المكالمة.

النظر إلى البـاب الداخلـي الـذي وفد منه قبل حين يرهقك، أحيانا يخيل إليك أنه بصدد الانفتاح ولكن، بقيت وحدك محاصرا بالآهات المنقولة عن بعد، التباريح المهموسة هاتفيا تلاحق جيـوب انتظارك، يوغل الملف في العتمة ووجودك ينفيه العدم، المكان ذاته عدم إلا من وشوشة متصاعدة الهيجان لا تلزمـك..

باتجاه الباب الموصد تحركت ـ أوهكذا خيل إليك ـ أيضا ما خلف الباب عدم مطلق، على نفسك تقسو بالسـؤال:

ــ الماثل وحده وجـود، وحده الفعل، ربما لذلك قال حكيم الزمان: " تكلـم لعلي أراك "

إلى ما لم تكن تتوقع امتد الزمان مشحونا بالفراغ، بالعدم، مجلة ذات صور نصف عارية أخذت تداعبها العينان الزرقوان، كان الهاتف قد أذعن للسكون تحت انطفاء شحنـات الهمـس، وفي حركـة لا واعية تمايل الشعرالذهبي الراغب في الانحدار؛ تفطنت الموظفة ـ خارج الإطار ـ إلى وجودك لثاني مرة، وكما لو شهدتها و هي في لحظة عري قصوى ـ قالت دون أن تنظر إليك:

ــ ألا تـزال هنـا؟

و منذ أزمنة الاستنطاق الأكبر لم تخش شيئا خشيتك نقمتها، . وقلت في مسكنة:

ــ سيدتي وهل كان علي أن أغادر؟! سامحيني إذن.

ودون أن تتحرك انتظرت إشارتها:

ــ عليك أن تواصل البقاء بقاعة الاستقبال، يبدو أن موظفي الأرشيف لم يعثروا على الملف بعد.

ورحبت بكل هذا القدر من سعة الصدر الذي حظيتَ به، وتحركت منصرفا ليلاحقك صوتها:

ــ خارج المكتـب طبعا.

أثناء دخولك صباحا لم تلحظ هذا المزلاج الذهبي الذي يزدان به الباب الجلدي الصفائح، أما هذه المرة فقد تراجعت يدك قبل أن تمسك به، توقعت أن مجرد لمسـه سيلحق بمظهره الشديد الومضان هانة ما، و ركبت الخطر كدأبك منذ زمن الا ستنطاق الأكبر، و تهالك ثقلك على أقرب مقعد بقاعة الانتظار، ميزتك أنك تحسن مكابدة مادتي الخشب و التراب، حميمية هي صلتك بهما.

وانتظرت، تحت ثقل الزمن نبضك يئن، إلى جانبك حلقة الوافدين أخذة في الاتساع، وجوه كئيبـة تأخذ أماكنهـا في صمـت ثقيل، كصمتـك، وقد أدركت لتوك أن لعنة الملف لا تخصك لوحدك، وأن ملف الحياة حلم الجميع، وشدت نظرك وجوه أخرى تباشر الدخول في غير ما عناء:

ــ مسعـود هنـا؟

قـال الأول.

ــ هل دخـل عبد القـادر؟

قال الثانـي.

ــ مولـود موجـود؟

سأل الثالـث.

تنهدك يأخذ لون الحقد أحيانا، وغامرت بسؤال الحارس من جهتك:

ــ كم معدل الانتظار عندكم يـا سيـدي؟

في وقت شبه رافض، السيجارة تموت بين أصبعيه، وبلهجة تعني الجميع قال لكم الحارس:

ــ قديما قالوا: " معرفة الرجال كنوز"، إذا كان لك موظف تعرفه بالداخل فادخل".

وأيقنت أن صاحبك قد أصدقك القول، وقلت:

ــ والذي لا يعرف أحـدا بالداخل؟

وهز كتفيه في تلقائية:

ــ إذن لا يستقبله أحد.

وأضاف الحارس:

ــ مؤسستنا ليست شاذة في هـذا يا سيدي.

مرة أخرى يوحشك المكان، تسكنك الوحدة، تذكر عبد الله الذي سقط قريبـا منـك في المعركة ذات ليلـة، والصادق قتيل ليلة أسرك، و خليفة كبير أساتذة الرماية، هم فقط كل من عرفت، كل من خبرت، كل من عاشرت، كل من فقدت، وانصرفتْ كفاك نحو عينيك دون ثبات، هل تعاودك نوبات النحيب؟، على ايامهم كان الكل يستقبل الكل، الكل يرحب بالكل، والكل يعتقد أنه للكل، ثم قلت بصوت مسموع وكأنك تحادث أحدا ما:

ــ لو عاش واحد منهم لكان سيد بعض هذه القلاع الرافضة للترحاب.

وكأنك تلغي كلمتك الأولى:

ــ أوربما ظل ينتظر دورا في المثول فلا يتاح له مثلي.

تراجع بك الارتجاع، من حولك الحلقة أخذت تنفض، وهو ما أعاد إليك بعض وعيك، وصفق الحارس معتدلا:

ــ ساعة الخروج حانت يا سادة، منتصف النهار إلاعشرين دقيقة. .
وهامسا دنوت منـه:

ــ ولكني تركتهم بالداخل يبحثون عن ملفـي؟ وصادقا سألـك:

ــ من تعني ياسيـدي؟ من هؤلاء؟

ــ من أعـني؟! لا أدري؟ لا أحـد.

وفي هيئة حكيم هز الحارس رأسه مرددا:

ــ " معرفة الرجـال كنـوز."

وانفرج الباب ذو المزلاج الذهبي عن وجه الموظفة خارج الإطار، فتوقعت منها تعزية مـا، ولكنها لم تزد على أن ابتسمت في وجه الحارس النصوح، وكدت تقول له: " ومعرفة النسـاء أليست كنزا بدورها؟؟!!"

لولا أن مسحة من جدية أخذت تطبع مظهره منذ أن رسم الممر الرخامي هيئة شخص أصلع ذات بعد رياضي، وبادرالحارس:

ــ انصرفوا، إنه المدير فوق العادة انصرفوا.

وتثاقلت بك خطاك كدأبك؛ إلى أين ستنصرف إذا انصرفوا؟ لم لا تحاول اعتراض طريقه كما فعل بعض من يقف إلى جانبك، ولكنك لازمت مكانك، عيناه الضيقتان ترمقانك في غير ما عناء، وهو يحادث من تقدم منه، خيل إليك أن العينين الضيقتين تهبانك نوعا من التركيز، و تحركت باتجاه الباب الخارجي وقبل أن يوصلك السلم بالرصيف، ربت الحارس النصوح على كتفيك وقد لحق بك على عجل، وقال في أنفاس متلاحقة:

ــ السيد المدير يريدك.

ــ أنــــا؟ !

ــ نعـم أنـت.

وعدت أدراجك يرفعك التساؤل والحيرة، وقد سألت الحارس:

ــ المدير يدعوني هكذا رأسا؟اا لعلك أخطأت؟.

حين لحقت بالمدير كان الحارس قد اختفى في أدب بروتوكولي كما اعتقدت، وبادرك المدير فوق العادة بالسؤال فقدمت نفسك وحاجتك، وانتهى الكلام إلى موعد بعد الزوال، خطوك الوهن يربكه خليط من الريبة و البشرى في تركيب غير متجانس، أغلب ظنك أن مظهرك أفتك عطف الرجـل، تبا لحكمة ذلك الحارس " معرفة الرجال كنوز".

ذهبت إلى حيث لا تدري، في عينيك استأنف الزمن تدفقه، زايلته رتابته، ثقله، لم تعد زائدا على المكان، ولا عالة على الزمان وقد صرت شيئا من ما يحفلان به، البناية العظمى لم تعد مبعث خوف كما في الحالة الأولى، السلم ذاته يتحرك في طواعية نحو الأعلى؛ نعم الأعلى، قاعة الانتظار تنفتح مغالقها الباطنية، العينان الزرقاوان لا يقرفهما منظرك المهترئ هذه المرة، الموظفة السامية تسرع باتجاه الباب حيث تقف أنت:

ــ تفضل ـ سيدي ـ إن المدير بانتظارك.

اللهجة جديدة هذه المرة ما في ذلك شك، المدير لم يكن وعده سياسيا اإذن كما ظننت، لقد تحقق اللقـاء فعلا، و بحرارة أكثر حياك مرة أخرى وإلى جانبه أجلسك، أحسست بعينيه تمتصان محياك كأنهما الأشعة :

ــ مـاذا دهـاه؟

تساءلت، ولكن دائما في قرارتك، ومنك دنا أكثر ليواجهك بقوله:

ــ في أي المناطق قضيت سنوات الثورة؟

ــ في منطقـة ( """"""""" )

ــ تعرف الملازم السوالمـي.... إذن ؟

وأجفلك السؤال؛ هو ذا الحجر الذي يتعثر ملف اللعنة في ثناياه لسنوات وسنوات، وقلت:

ــ لم أزد على أن قمتُ بتنفيذ الحكم الذي صدر في حقه.

واكتسحتك قهقهته الصاخبة، وقال وقد دعا بمشروب:

ــ ولكن لم يتم العثور عليه حيا أو ميتا، ومعنى هذا أنك لم تقم بتنفيذ الحكم فيه؟

وأسندت نظرك إليه راجيا:

ــ وما سر العودة إلى أمر تقضى منذ منذ عشرين سنة يا سيدي؟

ــ شهادة منك في هذا الأمر كفيلة بانقاذ ملفك.

وقلـت لـه:

ــ وفيم انشغالكم بمصير رجل كهذا؟ أهي الرغبة في ترقيته ام في عقابه؟

وضحك المدير فوق العادة ثانية وهو يقـول:

ــ لعله المرشال (بيتان) من يدري؟

وعاد إلى جديته حين قال لك:

ــ ألا تزال تذكر الرجـل؟

وقلبت شفتيك في استفهام مماثل:

ــ بعد مضي أزيد من 20 عاما؟ لاأعتقد، فقط أنه كان أصلع قوي البنيــة.

وفي زهو قال المدير فوق العادة:

ــ أنا الملازم السوالمـي.

ووجدت نفسك مدفوعا إلى الوقوف بشكل أخلّ بأدب المقابلة وقلت:

ــ أنت الملازم سوالمي الذي كلفتني القيادة بتنفيذ حكم الإعدام الصادر في حقه، فعفوت عنه سرا عوض أن أعدمه؟

واعتدل المدير فوق العادة قائما بدوره وأكمل قولك:

ــ وكنت قد طلبت إليه مغادرة الجزائر لكيلا يكتشف أمره فتنعكس العاقبة عليك.

وقلت كما لو أنك تتأكد من صحة ما تسمع:

ــ ثم ماذا اشترطت عليك يومها بعد ذلك؟

وأعاد المدير ضحكته قائلا في كامل اطمئنان:

ــ شرطك الثاني كان ألا أنضم إلى القوات الفرنسية. وأجلسك الموقـف:

ــ أه صدقت صدقت، هذا حوار لم يقف عليه طرف ثالث أبدا.

وأمسك بيدك في لطف واندفع إلى القول:

ــ لقد كان صنيعك أفيد لك، بحيث ترك لك يدا عند مدير أحسن استقبالك، معترفا لك بعمل قمت به تجاهه في زمن ما.

وردّدت كلمته بنبر متباطيء:

ــ نعم لقد وجدتُ اعترافا بعمل قمت به في زمن ما.

وقبل أن تحدد اتجاه ما، غادرت المقعد الوثير، المدير في أثرك سعى، وخلفكما سار الحارس النصوح دون أن يلمّ بما حدث، وقفزت الموظفة ـ خارج الإطار ـ خلف مكتبها تحملها المفاجأة، وقد أغفلت سماعة الهاتف ملقاة على بلاط الأرض المخملي، كان الجميع يريد أن يسألك، أن يلحق بك، ولكن دوّامة الشارع الكبير ابتلعتك، وباندفاعك في خضمها كنت أولى ضحايا حوادث المرور في ذلك اليوم.

وجاء في محضر الوفاة، "أن الضحية قدم من خارج المدينة حيث تنعدم المعرفة اللازمة بقوانين المروروسلوك المشاة؛ فقضى نتيجة حادث سير.

مدينة سعيدة (الجزائر) في 2001



فازت هذه القصة بالجائزة الوطنيــــــــــة الأولى في مسابقة أدب الثورة التي نظمتها وزارة الثقافة والاتصال عـــــــــــام2001. (فرع القصة القصيرة)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى