مراد السباعي - الرجل الذي ينتظر في الخارج.. قصة قصيرة

كنت اسير وراءه , اتبع خطاه كظله . . . وكان يلتفت الي بين حين وحين ليتأكد من انني ما زلت اتبعه . . . كان اشيب الرأس , قصير القامه , بدينا , يتدحرج في مشيته السريعة الخطوات , بين ارجل الناس كالكره . . . ظلمة الأزقة القديمه المتعرجة , تضطرني لأن اجعل المسافة بيني وبينه اقل بعدا , كان ذلك يضايقه فيشير الي بيده ان اتمهل . . . انه الحذر , الخوف لعله لا يريد ان يلاحظ احد ممن يعرفونه انني رفيق دربه . . . بيته يجب ان يظل مجهولا حتى من اولئك الذين يزورونه في الظلام . وقف امام احد الابواب فوقفت خلفه , لم يطرق الباب بل استعمل المفتاح , وعندما اصبح داخل البيت , اشار الي ان اسرع في الدخول. اغلق الباب خلفي واحكم رتاجه وهرول صوب غرفة ينبعث من ثقوب نوافذها الخشبية ضوء باهت , تأدى الى سمعي صوت امرأة , كان الحديث بينهما يشبه الهمس فلم افهم شيئا مما دار بينهما ولكن من الأكيد انني كنت موضوع الحديث . كنت واقفا في الظلام تحت شجره ضخمه تغطي فروعها الممتدة في كل اتجاه , فسحة الدار الصغيره . . . فلا سماء ولا نجوم , كل ما حولي معتم ومجهول . كانت تضطرم في داخلي احاسيس من التوقعات , ليست بذات لون معين , انها خليط متنافر معقد متشابك لا يمكن ان يوضع تحت اي وصف .ولكن الشيء البارز فيه هو تحقيق رغبة جنسية مع امرأة لا صورة لها في ذاكرتي . انني لم ادخل هذا البيت من قبل ومعرفتي بصاحبه تكاد تكون بنت ساعتها , كنت اراه في القهوة , يرشف الشاي ويلعب النرد مع شلة من أصدقائه . . . سمعت من يقول عنه إنه انسان رديء يقدم زوجته لمن يريدها لقاء أجر , ويقال ايضا إن المرأة ليست زوجته بل صديقة له يتاجر بها طلبا للعيش , وانه كان منذ بضع سنوات يعمل سائق سيارة فوقع له حادث اصدام فخسر سيارته ويده اليمنى . . . لم اكن اشعر بالارتياح في موقفي هذا . . تمنيت ان اكون اقوى مما كنت عليه وأكثر تقديرا لطبيعة المأساة حين اغراني الرجل بالذهاب معه الى بيته لاستمتع بجلسة لذيذة مع كأس من الخمر وامرأة لقاء أجر .هبت ريح قوية مفاجئه فتحركت اغصان الشجره بعنف وأحدثت اصوتا تشبه الانين والحشرجة هل تتألم الاشجار حين تجتاحها العاصفة ؟ . . هل تشعر بالذل والمهانة حين تجد نفسها اكثر ضعفا واحتمالا للقوة التي تجتاحها فتكسر اغصانها وتسقط اوراقها وثمارها ؟ . ألا ينتابها شعور بالتفاهة والحقارة كما ينتاب الانسان حين يجد نفسه ضعيفا امام الماده التي تشكل في حياة الافراد عنصر القوة فيستعملونها في اذلال الاخرين والنيل من شرفهم وكبريائهم .

شعرت بالتفاهة والنذالة حين رأيت نفسي استعمل المادة في شراء الحب باعتباره متعة جسدية لا باعتباره عاطفة سامية تنبع من روح الانسان وقلبه , وراودتني فكرة الهرب , وبذلك فقط استطيع التخلص من الإساءة الى شخص آخر , وضعته ظروف خاصة في المكان الذي لا يليق برجل وان كانت تلك الإساءة تحمل طابع القبول والموافقة من قبل الشخص الذي تقع عليه الإساءة .

فجأة , انفتح باب الغرفه واطل الرجل يشير الي ان ادخل . . وعندما دخلت الغرفه رأيته ينسحب الى الخارج وفي عينيه ومضة ذليلة.

كانت طرية ندية تلك اليد التي امتدت لمصافحتي , وكان جميلا ورائعا ذلك الوجه الذي استقبلني بابتسامة عذبة مطمئنه . . وسمعتها تقول بصوت تمتزج فيه بحة حلوة مشبعة بالحرارة :اهلا بالصديق الجديد . ادخلت اصابعها في شعري بلطف وربتت على خدي بتحبب وهي تجلسني على أحد المقاعد , يبدو انها لاحظت انني لم اكن اتمتع بحالة نفسية طيبه , ثم استدارت نحو الخزانه فأخرجت زجاجة من الخمر وقدحين وصحنا من الفاكهة ثم جلست أمامي متألقة مبتهجة .القيت نظرة سريعة على الغرفه . . ادهشني ان أرى على خشبة موضوعة قرب الفراش طفله نائمة في الثالثة من عمرها تقريبا . . سألت المرأة : من تكون هذه ؟ . اجابت دون اهتمام : ابنتي الوحيدة . . انها جميلة كما ترى , تشبهني اكثر مما تشبه اباها. قلت : ولكن من المحتمل ان تستيقظ في كل لحظه فما يكون موقفك ؟ قالت : انها عندما تشاهد عندي شخصا غريبا تطمر رأسها باللحاف . . . هكذا عودتها. قلت : الاطفال في سن ابنتك يتذكرون جيدا , وهي بلا شك ستتذكر ما تراه وتسمعه وهذا لا يجوز .قالت ضاحكة : كل شيء سيكون طبيعيا بالنسبة لها , حياتنا هكذا . . .سألتها : هل كانت امك تستقبل الرجال الغرباء في غرفتها كما تفعلين انت. أجابت : الزمن الذي عاشت فيه امي يختلف كثيرا عن الزمن الذي نعيش فيه وسيكون لابنتي زمنها الذي تختلف ظروفه عن زمني , انا لا اهتم بالمستقبل , اني اعيش ليومي وساعتي . سألتها : هل انت متعلمة ؟ . . . ألاحظ ذلك .

اجابت : تركت المدرسه قبل الشهادة الإعدادية بسنه واحده . . . انت كثير الأسئلة , لماذا تشغل رأسك في التفكير بأشياء كهذه لا معنى لها . . . ألهذا جئت ؟ . . . خذ اشرب هذا القدح دفعة واحدة وتعال الي لأفرغ رأسك من كل ما يبعد عنك السعادة .رأيتها تتجرد من ارديتها وتتمدد على الفراش بوضع مثير وتومئ الي ان اقترب ثم سمعتها تقول بلهجة جديه : لا ينبغي ان اترك زوجي ينتظر طويلا في الخارج .

كان جسدها رائع التكوين جميلا مغريا . . . لا استطيع ان اصف مشاعري في تلك اللحظة , يمكن القول بأنني كنت على العكس تماما مما يمكن ان يكونه اي رجل في مثل موقفي . . . لقد تحولت هذه المرأة في نظري الى تمثال من المرمر , الى جسم من المعدن او الجص لا حياة فيه . . .قلت لها : انتظري حتى اكمل كأسي .أجابت بلهجة جافه : سأنتظر .تأدى الى سمعي انذاك صوت سعلة تصدر عن الرجل الذي ينتظر في الخارج فأحسست كأن شيئا ما يثقب رأسي . . . تحركت الطفلة النائمة , رفعت رأسها وفتحت عينيها الواسعتين سددت الي نظرة طويلة بلا معنى ثم طمرت رأسها باللحاف وسكنت .خدشت سمعي آنئذ ضحكه ذات رنين وقولة فيها الشيء الكثير من الدلاعه : لماذا لا تقترب ؟ . . قلت : وهل هذا ضروري . فجأة رأيتها تنتصب جالسة فتحملق بوجهي مندهشة ثم تسأل : ماذا قلت ؟

اجبت : ان الرجل الذي ينتظر في الخارج يضايقني .

قالت : انه لا يراك .

قلت : ولكنني اتخيله . . . اراه , اشعر بوجوده كما اشعر بوجودي .

قالت : أأنت مجنون ؟ . .

سألتها : ألا يستطيع زوجك ان يجد عملا آخر غير الانتظار في الخارج ؟

قالت : يبدو انك من الشرطه الأخلاقيه . . . الزبائن لا يوجهون الي اسئلة كهذه .

قلت : لا . . . انا رجل مثله انني اتمثل نفسي في موقفه .

قالت : انه زوجي ولا علاقة لك به , انه بالنسبة اليك وسيط لا اكثر .

قلت : من الصعب ان تدركين مشاعري .

قالت : وماذا تريد الآن ؟ . . . اوضح . . .

قلت : اريد ان اخرج .

قالت : الباب مفتوح , ولا احد يمنعك من الذهاب متى شئت .نهضت فوضعت على الطاولة مئة ليره وخرجت . وجدت الرجل جالسا تحت الشجره مسندا ظهره الى جذعها ومادا رجليه الى الامام , كان يغط في نوم عميق . . . تلمست طريقي الى الباب وخرجت . . . جعلت اسير وأسير ولا اجد الطريق الى بيتي , لقد ضعت في متاهات البيوت ذات الابواب الضيقه والأزقة الملتوية المتعرجة حتى انبثاق الفجر.

مراد السباعي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى